يبدأ أي زواج بأحلام كثيرة في الفوز بالسعادة الدنيوية، وإكمال نصف الدين، من خلال حسن رعاية الزوج لزوجته، وسعي الزوجة لإرضاء زوجها، وتفانيهما في تنشئة أطفالهم، ليربحوا المكاسب الدينية والدنيوية أيضا.
ويتعرض بعض الأزواج لاختبار تأخر الإنجاب، ومع الأسف لا توفق نسبة كبيرة منهم في هذا الاختبار، ويخسر بعضهم دنياه، والبعض الآخر يفقد جزءًا (غاليا) من دينه، ونسبة لا بأس بها تخسر الاثنين معاً.
فمن أهم أخطاء التفكير التي يقع فيها بعض من يتألمون لتأخرهم في الإنجاب، التعامل مع هذا التأخر على أنه عقاب من الله عز وجل، أو دليلاً على عدم رضائه سبحانه وتعالى عنهم. ولا شك أن هذا منفذ من منافذ إبليس اللعين، يتسلل به إلى هؤلاء، ليفسد عليهم دينهم ودنياهم، ويحرمهم من فرص الفوز بأجر الصابرين على الابتلاء، فضلاً عن السعي للأخذ بالأسباب.
قال ابن رجب- رحمه الله-: (واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدّر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به، كما قال تعالى: **يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ** [النساء:71]، وقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل** [الأنفال:60]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ** [الجمعة:10].
ولا يتمكن -بالطبع- من يشعر بسخط الله عليه أو عقابه له من الأخذ بالأسباب؛ لأن الشيطان يجعله ييأس من فعل أي شيء، ويدفعه قوله تعالى : {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ**.
وعلى الوجه المقابل، نجد البعض يلجأ إلى الاستسلام للأمر الواقع، ويرفض التداوي ليس ليأسه، وإنما لخوفه من الإحباطات المتتالية، ويلبس ذلك ثوباً مزيفاً من ادِّعاء الإيمان، فيخدع نفسه بإيعاز من النفس المهلكة، وتضامن مع الشيطان الرجيم، فيقول لنفسه: الله يعلم كل شيء، لا داعي لطلب العلاج، سأكتفي بالدعاء والتوسل للرحمن.
ولا شك أن الدعاء هو مخ العبادة، وأن العزيز الحكيم قادر على أن يشفي المريض دون دواء، ولكن التأدب مع الرحمن يوجب علينا أن نأخذ بوصية رسوله الحبيب - عليه صلوات الله وسلامه- وهو التداوي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري، وفي رواية (من داء).. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي r قال: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى) رواه مسلم.
ونتذكر هنا أن ترك الأخذ بالأسباب معصية، وأن التوكل عليها شرك.
ونذكر بالأخيرة حيث يكثر بين من يتعرضون لاختبار التأخر في الإنجاب، السعي بكل قواهم، بنفس لا تهدأ وبقلب يغمره القلق، وروح لا تعرف السلام النفسي؛ إلى طلب التداوي بكل قواهم، والبحث عن أيه بادرة أمل.
بل ينصب الشيطان لبعضهم -تحت وطأة الرغبة في الإنجاب- (فخ) عبر معاونيه من البشر، والذين يقترحون عليه الذهاب إلى الدجالين، الذين يدعون قدرتهم على مساعدته على الإنجاب من خلال أعمال السحر وما شابه ذلك، فيفقد دينه ويدخل -والعياذ بالله- في دائرة الشرك بالواحد الأحد.
وهناك آخرون يصرخون من شدة الألم إثر أي فشل لأي علاج، أو عدم حصول نتيجة إيجابية بعد أي جراحة، ويتسرب الحزن إلى قلوبهم، ويتوطن فيه، ويقولون لقد فعلنا كل شيء، وأخذنا أفضل الأدوية، وذهبنا إلى أمهر الأطباء، وإلى أحسن المستشفيات المتخصصة في العالم، وتكبدنا الأموال الباهظة، والجهود النفسية والجسدية المؤلمة، فلماذا لم تكلل جهودنا بالنجاح؟
ومع كامل احترامنا لرغبتهم المشروعة في الإنجاب، ولألمهم الطبيعي عند فشل العلاج، ولكننا نذكرهم بحديث رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: يستجاب للمرء ما لم يعجل.. وبالآية الكريمة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا**، وأيضا بالآية الكريمة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إذا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ**.
إذ يتمكن الشيطان منا عندما نريد شيئا بكل قوانا، ونسمح له بالتوغل في قلوبنا، والتي يجب أن نحرص على أن تكون عامرة بحب من خلقنا، وأن نجعل الدنيا بكل ما فيها من مباهج ومتع ورغبات مشروعة في أيدينا، وليس في قلوبنا.
نقول هذا، ونعترف أن تأخر الإنجاب اختبارا صعبا، ولنتدبر قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا**.
ولنتنبه إلى أن معظم الناس يتذكرون الجزء الأول من الآية الكريمة، ويتناسون إكمالها ليجيدوا ترتيب أولوياتهم في الحياة، وليتذكروا أن الدنيا لا تساوي عند الخالق جناح بعوضة.
ربما كان المنع عطاء لا ندركه، والمحبة هي الموافقة، فكثيرا ما نرى من يتألمون من عقوق الأبناء، ومن رضوا بقدرهم وعدم الإنجاب، وسعدوا مع شركائهم وتنفسوا السعادة، وتعلموا أن الرضا هو أن تشعر بالارتياح لما يختاره الله لك.
يقول ابن القيم -رحمه الله- الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين.. ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".
ومن الأخطاء التي يقع فيها البعض، إهمال الاستمتاع بباقي مباهج الحياة المشروعة، والتركيز بكل قواهم على ما ينقصهم وتنمية الشعور بالحرمان بداخلهم، وقيام الأزواج بمضايقة زوجاتهم ومعايرتهن وتهديدهن بالطلاق، فضلاً عن إيذائهن بالكلام الجارح، ولجوء الزوجات إلى التنفيس عن غضبهن وأحزانهن بالتشاجر مع الأزواج، أو إرهاقهم بمطالب مادية مبالغ فيها أو إشعارهم بالنقص دائما.
ونهمس لهؤلاء مع كل الاحترام لمعاناتهم والدعاء لهم، أن الذكاء الإيماني يجب أن يحمينا من زيادة حجم معاناتنا الدنيوية، وألا نجعلها سببا لخسائر دينية. فلا شك أنه لا يوجد زوج أو زوجة يتحمل المسئولية عن تأخره في الإنجاب، ومن الرحمة -وهي من سمات المؤمن- أن نحترم ألمه ولا نقسو عليه، فنحن مطالبون دينيًّا أن نعامل الآخرين كما نحب أن يتعاملوا معنا، فما بالنا بالأزواج الذي ارتبطوا بالميثاق الغليظ المبني على المودة والرحمة.
وقد قال رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: "خياركم خياركم لنسائهم"، وقال: "استوصوا بالنساء خيرا". كما أوصى الزوجة بحسن التبعل لزوجها، وقال: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة".
وغني عن القول إن الإساءة بالقول أو بالفعل؛ تخاصم كل ما أخبرنا به ديننا السمح، كما أنها تزيد البغضاء بين المتزوجين؛ مما يحرمهم من الاستمتاع بما رزقهم به الله من نعم، ولنتذكر أن الشيطان يذكرنا بالمفقود، لينسينا شكر الموجود.
وكان الأولى بهم التراحم بينهم؛ طمعا في الفوز برضا الرحمن، ولتحسين حياتهم قدر المستطاع، مع عدم إهمال التداوي بالعلاج وبالصدقة، والإلحاح في الدعاء بقلب مطمئن.
ويظلم البعض أنفسهم، ويظلمون شركاءهم بالخضوع لضغوط الأهل والأصدقاء، وتحريضهم بإساءة معاملة الطرف الأخر، أو عدم الصبر عليه، ومنحه وقتا كافيا، حتى يحدث الإنجاب أو الرضا به، بدون إنجاب والقبول بباقي مزاياه.
ويتطور الأمر عند بعضهم إلى حد كراهية اللقاء الزوجي، وحرمان الطرف الآخر منه، بدعوى أنه لا جدوى منه (الإنجاب)، مما يوقعه في إثم حرمان شريكه من حقوقه الزوجية، فضلا عن إيلامه نفسيا، وهو ما يتناقض مع قول رسولنا الحبيب: "خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده".
كما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون المسلم إمعة، يردد ما يقوله الآخرون دون تدبر، ولذا نتمنى أن يحمي إخواننا وأخواتنا أنفسهم من (السموم) التي يوجهها البعض إليهم، وأن يطردوها أولا بأول، وأن يتجاهلوا تلميحات الشماتة أو الإشفاق، وأن يهتموا بتنمية إيمانهم وتبني الشعار القائل: "لن أفرح أو أحزن إلا على ما ينير لي قبري".
وفي تبني هذا الشعار الخلاص من كل هذه المعاناة، وبه يسمو من يخضع للاختبار على ألمه، ويفوز بأجر الصابرين، ويحمي نفسه من التفكير الطويل في مشكلته، ويفوض أمره للخالق، وكله يقين أنه عز وجل يدخر له الخير، فلو اطلع الإنسان على الغيب لاختار الواقع.
وكلما زارته هواجس الألم، يسارع بطردها بترديد الآية الكريمة: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ**.
وعليه تذكر أن بعض الأنبياء قد اختبروا بتأخر الإنجاب، وكذلك بعض أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لم تنجبن، ويتدبر الآية الكريمة: {للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ**.
والمؤمن الذكي هو الذي لا يعطل حياته عند تعرضه لأي اختبار، مهما كان صعبا، ويحترم نعمة الحياة، ويعرف أنه سيُسألُ عن عمره فيم أنفقه، ويحاول الاشتغال والتشاغل بتنمية جوانب حياته الدينية والدنيوية، إرضاءً للرحمن.
وكلما أحس بالضعف يتسلل إلى إيمانه، وبنقصان مساحة الرضا في حياته يفعل ما أوصى ابن القيم حيث قال: (في القلب شعث -أي تمزق- لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق، لا يذهبه إلا الفرار إلى الله).
كتبه / نجلاء محفوظ ... إسلام أون لاين