كأس العالم
الشيخ الدكتور لطف الله خوجة
ها قد بدأ كأس العالم لكرة القدم 2014 في البرازيل، وهو الحدث الأهم عالميا على كافة الصعد كل أربع سنوات، والمهتمون به: حضورا، ومشاهدة، ومتابعة، ومساهمة. يتجاوز مئات الملايين من البشر، فربما هو محل اهتمام نصف سكان العالم البالغ عدده سبعة مليارات نسمة. وهذا رقم لم يحظ به أي حدث في العالم آخر، ولا الحرب العالمية الأولى أو الثانية، ولا الحرب على الإرهاب.
فكيف صنعت كرة القدم لنفسها هذه الشعبية العارمة عند بني البشر، مسلمهم وكافرهم، أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، عربهم وعجمهم، فقيرهم وغنيهم، ذكرهم وأنثاهم؟.
هي رياضة ممتعة ولاشك، وهي صحية للبدن باتفاق الأطباء، وهي تزرع الروح الجماعية بين اللاعبين وكافة الأعضاء المشتركين في الفريق، وهي أحسن من الألعاب المستحدثة أخيرا، كالألعاب الإلكترونية التي تنحو إلى الفردية والانعزال، وما تجلب معها من مشكلات: صحية، ونفسية، واجتماعية. هي أحسن من مجالس الغيبة والنميمة والبهتان، وجلسات السمر، والطرب، والدخان، والخمر، والمخدرات. كذلك لعلها تسهم في رفع الأعلام الوطنية في المحافل الدولية، وتكسب تعاطف الجمهور العالمي كلما كان الأداء أجمل وأحكم، كما هو الحال مع الفريق البرازيلي،وقد ينجم عن ذلك مكاسب سياسية واقتصادية.
لكل هذا وغيره، كثيرون يؤيدونها ويدعمونها، حتى النساء– بعضهن – يمارسن هذه الرياضة، ويطالبن بها رسميا؛ أن يكن لهن نوادي ودوري أسوة بالشباب، بالنظر إلى أنه زمن المساواة المطلقة بين الجنسين، وقرارات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ومنظمات حقوق الإنسان تؤيد ذلك، وديننا لا يحرم، بل يشجع على صحة البدن، هكذا هن يقلن، والله أعلم بهن!.
وليس غرضنا البحث فيما إن كان للمرأة أن تلعب أولا تلعب، إنما الغرض معرفة: أن لكرة القدم منافع جمة لا شك، مما يجعلها هدفا لكثيرين من الناس، مختلفي المشارب والاتجاهات، يكفي أنها من المباحات في ذاتها، بعيدا عما قد يتلبس بها من منكرات، وليست في هذا بدعا من الأمر، فكم من المباحات هي عرضة لاختلاط المنكرات بها، فذلك لا يخرجها عن إباحتها في ذاتها، لكن يوصى بتوخي الحذر، وتنقيتها مما يعكر إباحتها من المحرمات.
من هنا نتكلم عن كأس العالم، وعن كافة هذه النشاطات الكروية المبرمجة في العالم ، هل لاتزال في دائرة المباح، أم تعدت وتجاوزت إلى ما وراء ذلك؟.
لننظر في أحوال الدولة المضيفة لكأس العالم هذه الدورة وهي البرازيل، كيف استقبال شعبها لهذا الحدث الأهم في العالم اليوم، فمع كل مزايا الكرة، التي غدت تلهية وسلوة الفقراء وآمال شبابهم، إلا أن ملايين البرازيليين هم معارضون لإقامتها في بلادهم، وقد خرجت المظاهرات الكثيرة في ذلك، وإلى آخر ساعة قبل انطلاق الدورة، كان عمال المترو مضربين على العمل، لولا أمور دارت في الخفاء، حملتهم على إنهاء الاضراب في آخر ساعة.
فما الذي يحدث هناك؟.
الذي يحدث هو: الفقر المدقع. فبحسب تقرير الأمم المتحدة، نسبة الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم يبلغ 20%؛ أي ما لا يقل عن ربع السكان فقراء، هؤلاء ينظرون إلى إنفاق مليارات الدولارات لاستقبال كأس العالم عدوانا على حقوقهم، هم محبون لكرة القدم ولا شك، لكن إذا تعارض اللعب والجوع؛ أيهما أولى بسد حاجته؟، فالجوع أوجب.
ثم إنه ومن أجل تهيئة الطرقات للحدث البارز، قامت الجهات المنظمة باقتطاع أجزاء من الأراضي عليها بيوت كثير من الفقراء، فأخرجوهم من مساكنهم المتواضعة، ولم يعوضوا كما ينبغي بما هو مكافئ، بما فاقم وزاد من مشكلاتهم الحياتية.
لأجل هذا فالسخط يملؤ أرجاء البلاد، والمعارضات تتصاعد يوما بعد يوم، فأما دخولات وحصاد هذا الحدث على الدولة، فإنها تذهب في مجملها وأكثرها في جيوب الأثرياء، بحكم أنهم أصحاب الشركات التي تدير المشاريع، أما بقية الشعب فما يلقون منها إلا الفتات.
هكذا أصبح كأس العالم لعنة وشؤما على قوم جلهم من الفقراء، كما هو نعمة وفأل حسن على المترفين، الذين لا ينالهم من هذه الأحداث إلا ما يحبون، ذلك هو حظهم من الدنيا.
ليست هذه هي السلبية الوحيدة لهذه اللعبة، فقبل ذلك يرتكب باسمها عدوان آثم يصح أن نسميه بـ "الإجرام المالي"، وهو ما ينفق فيها من نفقات - غير معهودة - في شراء اللاعبين ومرتباتهم؛ قد بلغ ثمن آخر لاعب اشتراه فريق ريال مدريد 100 مليون يورو، وهو ما يساوي نصف مليار ريال سعودي، هي ميزانية وزارات وبلديات، يحصل عليها لاعب في خبطة واحدة، وهناك فرق عربية تحاول التقليد، وإن لم تصل إلى ذلك الحد من الإنفاق.
نحن نعلم أن هذا هو مفهوم التجارة الكروية، فالفرق الأوربية اليوم هي شركات ومؤسسات تتاجر باللاعبين والمدربين، وتتنافس في المكاسب، لكن هل يمكن مقارنة هذه التجارة بالتجارات المعقولة كصناعة السيارات والمواد الغذائية، أو بناء المساكن ونحوها؟.
كلا، بل هو لعب وعبث صبياني يقوم به ملاك المال، الذين يملكون المليارات، ثم يراهنون بها في هذه المباريات الكروية، التي هي غير مأمونة النتائج، مهما كانت قوة الفريق، والربح فيها مرتبط بالحظ في الفوز بالألقاب العالمية، فقد يدفع الأثرياء أموالا طائلة على أفراد من اللاعبين والمدربين، ثم لا يعودون إلا بخفي حنين، فحينئذ يخسرون الألقاب والأموال أيضا، أفليس هذا من قبيل المراهنات المحرمة؛ إذ كانت نتائج المباريات مظنونة غير معلومة؟.
قد يقول قائل: دعهم وما ينفقون، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل، خلقوا للدنيا ويئسوا من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور؟.
ولا أظن الأمر كذلك، فهؤلاء الأثرياء ينطلقون من أوربا، التي لا تزال تستعمر العالم اقتصاديا، فكل خيرات العالم تساق إلى أوربا، فما تراه من أموال تنفق على مظاهر كروية، هي في كثير منها مما ينهب بطريقة أو أخرى من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فكلما زادت نفقاتهم على ترفهم وفجورهم ولهوهم، فذلك يعني نهب مزيد من الثروات، ومن رأى وسمع بقصص مزارع البن، والسكر، والقمح، ومناجم الذهب والأحجار الكريمة، وحقول البترول والغاز في العالم الثالث، والسخرة التي عليها الفقراء من أهل تلك البلاد، تيقن إجرام الرجل الغربي وإفساده العريض في الأرض، فلا تظنن أن ما يتقلبون فيه من خيرات هي من عرق جبينهم، بل من عرق جبين الفقراء، الذين يموتون في مزارع الأثرياء جوعا.
ثم أيضا، فإن المستفيد من هذا القمار الكروي هم القلة، وعامة الناس ليس لهم إلا المتعة بلا منفعة، يدفعون أموالهم لحضور المباريات، والاشتراك في القنوات، ثم لا يجنون شيئا من وراء ذلك.
أحد المستثمرين اشترى حق بث مباريات كأس العالم للمنطقة العربية بأكثر من ملياري دولار، ذلك لأنه يثق من عدد المشتركين؛ أنهم عدد كاف لتغطية النفقات مع الأرباح.
هذا، وإن في بلادنا العربية والخليجية محاولات لتقليد أوربا كرويا، ومهما فعلنا ذلك، فإن أخلاقنا، وأوضاعنا، وديننا يأبى ذلك علينا أشد الإباء؛ فما أعطانا المال لنسرف السرف الذي لم يعرف في التاريخ، وقد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ** [الأعراف: 31]. فما ينفق على الكرة لا يختلف قول عالم أو عاقل أنه متجاوز لحد السرف والمخيلة كثيرا، بل السرف عنده فضيلة، إنه أقرب إلى السفاهة، والله تعالى يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا** [النساء: 5].
ثم إن الله تعالى خلقنا لنعبده، في ذوات أنفسنا، هذا أولاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ** [الذاريات: 56]. ثم لنبلغ هذا الدين إلى العالمين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي** [يوسف: 108]، وهذا ثانيا، فإذا اشتغلنا بالكرة اشتغالهم، فرطنا في الأمرين معنا: في الاشتغال بعبادته، وفي تبليغ دينه إلى الخلق الحيارى. وانظر إلى المشتغلين بالكرة؛ أي حظهم أكبر: الدين أم الدنيا؟ ، وكيف يمكن بلاغ الدين لمن استغرق في اللعب يومه ودهره؟.
بعض الناس يقول: لم لا نكون إيجابيين، فنستغل الكرة في تبليغ الدين، بالخلق الحسن.
هذه نية حسنة، لكن يشترط لتنفيذها: الامتثال للأوامر الإلهية. فيخرج هذا الفريق سفيرا للإسلام حقا في كل مكان يذهب إليه؛ ذلك بإظهار شعائر الإسلام، والوقوف عند المحرمات بلا عدوان، في الهيئة والمنظر، وفي الباطن والمخبر، ومن ذلك: ألا يسرف إسراف الكافرين في الإنفاق على الكرة، بل باعتدال. كذلك: ألا يشغلوا الناس بالكرة ساعاتهم كلها، كأنه لا شغل لهم إلا هي، بل يظهروا في ذلك التوسط.
ثم أيضا، فالكرة لا تذيب الفوارق مهما كانت ثقافة مشتركة بين البشر، نعم تقرب المختلفين في الدين أو الملة، وتحملهم على التعايش السلمي، لكن لا يصح أن تخلق وحدة دينية بين المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فكل له دينه، وعاداته، وقد يراد لهذه اللعبة أن تكون أداة من أدوات العولمة أو الأمركة، لكن هذا محال، فالفوارق بين البشر ستبقى ما بقوا مختلفين في اللون، والجنس، والعرق، والمكان. فهذه شروط من يريد أن يجعل من هذه اللعبة وسيلة لإيصال رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين، فهل يطيق ذلك الرياضيون؟.