الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّك حميدٌ مجيد، أمَّا بعد؛
في الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حُجِبت النار بالشهوات وحُجِبت الجنَّة بالمكاره"، وفي رواية الإمام مسلم: "حُفَّت النار بالشهوات وحُفَّت الجنَّة بالمكاره".
العبد إمَّا يريد الخير أو يريد الشر؛ الخير الجنَّة، وطريق الجنة مكاره، والشرُّ النار، وطريق النار الشهوات، فيعيش العبد في صراع بين الرغبة والعاقبة، الرغبة تريد الخير ولكن طريقه مكروه، وترغب في الشهوات ولكن نهايته إلى الجحيم، فيعيش في صراع بين الرغبة والعاقبة.
هذا الصراع يُسمَّى عند علماء التزكية والسلوك: المجاهدة، مجاهدة النفس.
وعمومًا المجاهدة على نوعين أو قل هي درجتان:
الدرجة الأولى: المجاهدة على ترك الآثام والمعاصي، والحديث هنا عن عباد الله الصالحين، لا نتكلم عن الفُجَّار و .. , لا لا، الحديث عن الصالحين، المجاهدة عندهم مجاهدة لترك الآثام والمعاصي.
النفس ترغب في المعصية وترغب في الإثم ولكن المؤمن يجاهد نفسه على عدم فعل المعصية، يعني ترغب نفسه في فعل بعض الآثام، في فعل بعض المعاصي، تنازعه نفسه على المخالفة لبعض الشهوات لبعض الرغبات المحرَّمة ولكنه يجاهد نفسه ويكبحها ويتألم في مجاهدته ولكن يصبر.
القصد: المجاهدة على ترك الآثام والمعاصي.
والآثام والمعاصي كثيرة لا يتبادر إلى الذهن نوع محدَّد من المعصية، لا، المعاصي كثيرة وأنواع؛ منها ذنوب قلبية مثل الكبر والعجب والرياء وحبِّ الرياسة، فيكون الإنسان عنده حبُّ الرياسة وحبُّ الظهور، أو يكون عنده غرور أو طمع أو عنده شحّ، وهو يجاهد نفسه على التخلُّص من هذا الداء، دائمًا نفسه تغالبه وهو يحاول يمنعها ويبذل مجهود في مصارعة النفس لتغلب الخير على الشر، هذه ذنوب قلبية.
وهناك ذنوب أخرى هي ذنوب قولية مثل الغيبة والسخرية والفخر بالأحساب والأنساب وغيرها، يكون موجود هذا الداء في نفس المؤمن ولكنه يجاهد نفسه على أن لا يستسلم لداعي الشر في نفسه، فدائمًا يراغم نفسه، يعاندها، يجابهها، حتى لا تقع في الإثم فهو في مجاهدة.
النوع الثالث من الذنوب ذنوب عملية بالجوارح مثل الظلم والعدوان، النظر إلى المحرَّم، السماع لما نهى الله تبارك وتعالى عن سماعه، هذه الأشياء أيضًا يكون داعيها في النفس شديد تدعوه نفسه إلى سماع محرَّم، إلى النظر إلى المحرَّم، هو لا يسمع ولا يرى؛ لا يرى المحرَّم ولا يسمع المحرَّم ولا يظلم، وليس عنده عدوان لكن عنده صراع في نفسه؛ نفسه تريد أن يسمع المحرَّم أو أن يشاهد المحرَّم أو أن يفعل المحرَّم ولكنه يكبح نفسه ويصبر ويجاهد ويراغم نفسه حتى لا يستسلم لداعي الشهوة وداعي المعصية، هذا النوع الأول من أنواع المجاهدة وهو المرتبة الأولى، فيعيش المؤمن في هذه الحال حال المجاهدة ومدافعة الرغبات السيئة في نفسه من المعاصي والآثام والخطايا، وقد يبذل فيها مجهودًا كثيرًا.
والنوع الثاني أو المرتبة الثانية من المجاهدة هي: المجاهدة على فعل الطاعة والقرب إلى الله تبارك وتعالى، وهذه أعلى من المرتبة السابقة -وهي مجاهدة النفس على ترك الآثام ومراغمة النفس على ترك الرغبات أو مجابهة الرغبات في الآثام والمعاصي والشهوات-، الآن لا، يجاهد نفسه على فعل الطاعات والقُرَب إلى الله تبارك وتعالى، فداعي الشرِّ في نفسه ضعيف، نعم تدعوه نفسه للآثام والمعاصي لكنه لا يأتيها إلا لممًا لا يأتي من الذنوب إلا القليل، وهمُّه ومجاهدته منصبَّة إلى أمر أعظم من ذلك وهو فعل الطاعة، فيكون همُّه في الحياة كيف يكون صِدِّيقًا، كيف يكون محسنًا، كيف يكون من الصالحين، من المخبتين، من الخاشعين، هذا الهمُّ الذي يسيطر على حياته، تفكيره، رغبته، دائمًا التفكير في هذا الأمر -أن يكون صِدِّيقًا- غالب على ذهنه وعلى حسِّه وعلى شعوره وعلى رغبته فيجاهد نفسه من أجل الوصول إلى هذه المرتبة، أن يكون صِدِّيقًا، أن يكون محسنًا، أن يكون من الصالحين، من المخبتين، من الخاشعين، أن يكون أوَّاهًا منيبًا وما إلى ذلك من الصفات العظيمة الطيِّبة.
إذن صار عندنا نوعين: المرتبة الأولى مراغمة النفس لترك الآثام، والمرتبة الثانية -وهي أعلى- نفسه لم تعد تراوده كثيرًا لفعل الآثام والمعاصي، نعم يأتي الذنوب والمعاصي لكن داعيها ضعيف في نفسه، وإنَّما في نفسه تثاقل عن فعل الطاعات التي ترفعه عند الله تبارك وتعالى، -كما قلت- كأن يكون صِدِّيقًا أو محسنًا أو ما إلى ذلك من الصفات الجليلة العظيمة التي يتقرَّب بها عند الله تبارك وتعالى