مَكْحُول الشامي، أبو عبدالله، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو مسلم والمحفوظ أبو عبدالله الدمشقي الفقيه. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وأرسل عن عدة من الصحابة لم يدركهم كأبي بن كعب وثوبان وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وجماعة وروى عن طائفة من التابعين لم يلقهم كأبي مسلم الخولاني ومسروق. وحدث عن جماعة لقيهم. وحدث عنه الزهري وربيعة
__________
الرأي وأسامة بن زيد الليثي وجماعة. قال أبو حاتم: ما بالشام أحد أفقه من مكحول، وقال سعيد بن عبدالعزيز: كان إذا سئل -أي مكحول- يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وعن تميم بن عطية قال: كثيرا ما كنت أسمع مكحولا يسأل، فيقوم ندانم يعني: لا أدري، وكان أعجميا. قال ابن يونس: ذكر أن مكحولا من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هذيل مصري فأعتقه، فسكن الشام. ويقال: إنه من الفرس من السبي الذين سبوا من فارس ويكنى أبا مسلم، وكان فقيها عالما ورأى أبا أمامة وأنسا وسمع واثلة بن الأسقع. توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن مكحول قال: السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر. وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج. (1)
" التعليق:
قال ابن بطة: وأنا أشرح لكم طرفا من معنى كلام مكحول يخصكم ويدعوكم إلى طلب السنن التي طلبها، والعمل بها فرض، والترك لها والتهاون بها كفر. فاعلموا رحمكم الله أن السنن التي لزم الخاصة والعامة علمها والبحث والمسألة عنها والعمل بها؛ هي السنن التي وردت تفسيرا لجملة فرض القرآن مما لا يعرف وجه العمل به إلا بلفظ ذي بيان وترجمة. قال الله عز
__________
وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (1) ، وقال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (2) ، وقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (3) ، وقال: وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (4) وقال: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (5) وقال:¨وأحل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (6) .
فليس أحد يجد السبيل إلى العمل بما اشتملت عليه هذه الجمل من فرائض الله عز وجل دون تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوقيف والتحديد والترتيب. ففرض على الأمة علم السنن التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الجمل من فرائض الكتاب؛ فإنها أحد الأصلين اللذين أكمل الله بهما الدين للمسلمين، وجمع لهم بهما ما يأتون وما يتقون فلذلك صار الأخذ بها فرضا وتركها كفرا.
وأنا أذكر حديثا يحتج به المبطلون للشريعة ويحتال به المموهون وأهل الخديعة ليعرفه إخواننا فيردوه على من احتج به عليهم، وهو حديث رواه رجل جرحه أهل العلم بالحديث وأئمة المحدثين وأسقطوه. حدث بأحاديث
__________
بواطيل وأنكرها العلماء عليه، يعرف هذا الرجل بعثمان بن عبدالرحمن الوقاصي.
حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى بن عبدالرحمن الساجي البصري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحارث المخزومي، قال: حدثنا يحيى بن جعدة المخزومي، عن عمر بن حفص، عن عثمان بن عبدالرحمن -يعني الوقاصي- عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا عمر! لعل أحدكم متكئ على أريكته ثم يكذبني. ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فأنا قلته وإن لم يوافقه فلم أقله". (1)
قال ابن الساجي: قال أبي رحمه الله: هذا حديث موضوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث.
قال ابن بطة: وصدق ابن الساجي وابن المديني رحمهما الله، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده. قال الله عز وجل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) (2) .
__________
والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية.
وأما السنة الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي تخالف هذا الحديث الموضوع التي نقلها أهل العدالة والأمانة، فهو ما حدثنا: أبو جعفر محمد بن عبيدالله بن العلا الكاتب، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي. وحدثني أبو صالح محمد بن أحمد بن ثابت قال: حدثنا أبو الأحوص وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود، وهذا لفظه، قالا: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فظنوا برسول الله أهناه وأتقاه وأهداه. ولم يذكر الأعمش في حديثه أبا عبدالرحمن السلمي.
حدثنا ابن الصواف قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي عليه السلام قوله: أو نحوه. فالذي ذكرته رحمكم الله في هذا الباب من طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضضت عليه من اتباع سنته واقتفاء أثره موافق كله لكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله وهو طريق الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين والصحابة والتابعين وعليه كان السلف الصالح من فقهاء المسلمين وهي سبيل المؤمنين التي من اتبع غيرها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
فإذا سمع أحدكم حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه العلماء واحتج به الأئمة العقلاء فلا يعارضه برأيه وهوى نفسه فيصيبه ما توعده الله عز وجل به، فإنه قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) (1) .
وهل تدري ما الفتنة ههنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم والكفر بعد الإيمان؛ فإن الله عز وجل قال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ (2) .
يقول: حتى لا يكون شرك فإنه قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (3) .
يقول: الشرك بالله أشد من قتلكم لهم. ثم قال عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) (4) .
أعاذنا الله وإياكم من هذه الأهوال، ووفقنا وإياكم لصالح الأعمال. (5)
- عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. (6)
__________
- وروي عن مكحول أنه قال: تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا، وتفقه السفلة فساد الدين. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة: عن الأوزاعي قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: القرآن كلام الله غير مخلوق. (2)
- وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. (3)
موقفه من المرجئة:
عن عبيدالله بن عبيد الكلاعي قال: أخذ بيدي مكحول فقال: يا أبا وهب، كيف تقول في رجل ترك صلاة مكتوبة متعمدا؟ فقلت: مؤمن عاص. فشد بقبضته على يدي، ثم قال: يا أبا وهب ليعظم شأن الإيمان في نفسك، من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر. (4)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن مسافر قال: جاء رجل إلى مكحول من إخوانه، فقال: يا أبا عبدالله. ألا أعجبك أني عدت اليوم رجلا من إخوانك، فقال:
__________
من هو؟ قال: لا عليك. قال: أسألك، قال: هو غيلان، فقال: إن دعاك غيلان فلا تجبه، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تمش في جنازته، ثم حدثهم مكحول عن عبدالله بن عمر، وذكروا عندهم القدرية، فقال: أو قد أظهروه وتكلموا به؟ قال: نعم، فقال ابن عمر: أولئك نصارى هذه الأمة ومجوسها. (1)
- وفيها عن أيوب قال: سمعت مكحولا يقول لغيلان: لا تموت إلا مفتونا. (2)
- وفيها عن إبراهيم بن عبدالله الكناني قال: حلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق؛ فيخرج منه. (3)
- وفيها عن سعيد بن عبدالعزيز قال: قال مكحول: حسيب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار. (4)
- وفيها عن ثابت بن ثوبان: سمعت مكحولا يقول: ويحك يا غيلان؛ ركبت بهذه الأمة مضمار الحرورية، غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف، والله لأنا على هذه الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر. (5)
- وفيها عن إبراهيم بن مروان قال: قال أبي: قلت لسعيد بن
عبدالعزيز: يا أبا محمد: إن الناس يتهمون مكحولا بالقدر، فقال: كذبوا، لم يك مكحول بقدري. (1)
- وفيها عن الأوزاعي قال: لا نعلم أحدا من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ومكحولا ولم يثبت ذلك عنهما، قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبدالعزيز يبرئ مكحولا ويدفعه عن القدر. (2)