موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 09:42 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : أسامة بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب

الدرس 10/ 50 : سيرة الصحابي : أسامة بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 14 / 12 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس العاشر من دروس سِيَر صحابة رسول الله رِضْوان الله عليهم أجْمعين ، وصحابِيُّ اليوم ابن صحابيِّ الأمس سيّدنا أُسامة بن زيد ابن حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما ذكرتُ لكم سابِقاً : إنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله في وقْتٍ سابق ، فقد غَلَبَتْ النُصوص على التحليل ، وإنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله مرَّةً ثانِيَة فَنَرْجو الله تعالى أن يغلب التحليل على النُصوص ؛ أيْ أنْ نربط هذه المواقف مع حياتنا ، وأنْ نسْتَخْلص العِبر من سِيَرِهم كي نسْتفيد منها في حياتنا ، أو في التعامل مع بعضِنا بعْضاً أوْ في علاقاتنا بالله عز وجل .
بادِئه ذي بدْء في قِصَّة هذا الصحابِيِّ الجليل حقيقةٌ خطيرة ؛ وهي أنَّ الكافِر بالتعبير الحديث عُنْصُرِي بِمَعْنى أنهْ يحْتَقِر الآخرين ، ويقْبَلُ أنْ يبْنِيَ حياته على مَوْت غيره ، وغِناهُ على فقْرِه، وأمْنَهُ على خَوْفِهم ، يرى أنَّ الحياة له وحْده ، وأنَّها من حقِّهِ هو فقط ! ، يُمْكِن أنْ يأكُل لِيَجوع الآخرون هذه نظْرَةٌ عُنْصُرِيَّة ؛ أيُّ إنْسان لأيِّ انْتِماء ومن أيِّ مشْرب إذا رأى أن له الحق أنْ ينطلق هذا المُنْطَلق فَهُو عُنْصُري ، كما أنه بعيدٌ عن الإيمان بالله عز وجل بُعْد الأرض عن السماء ، ولكنَّ المؤمن ، أيها الإخوة ، يرى أنَّ الناس كلَّهُم عباد الله ، وأنَّ أيَّ مَخْلوقٍ إنْ زاد في طاعَتِهِ لِرَبِّه يرْقى في مرْتَبَتِه ، يُصَدِّقُ قوله تعالى :

( الحجرات : الآية 13 )

لا يرْفَعُ الإنسان عند الله إلا طاعته لله ، لذلك فالمؤمن قد يرى شَخْصاً فقيراً لكنَّهُ يعْرف الله حقاً ويعبده ؛ فيُكِنُّ له في قلْبِهِ أعظم التقْدير ، قد يكونُ مُديراً عاماً لِمُؤَسَّسَةٍ ضَخْمة وعنده حاجِب ؛ هذا الحاجِب مُستقيمٌ على أمر الله لا يُعامِلُهُ إلا كما يُعاملُ نفْسه ؛ فهذا هو المؤمن ، اِحْذَر أيها الأخ الكريم أنه إذا انْطَلَقْتَ من أنَّك إنْسانٌ آخر ولك مَيِّزات ولك حقُّ الحياة ولك حقّ أنْ تأكلُ ما تشْتهي بينما الذين حوْلك تقول : ما شأني وشأنَهُم ! إذا كانَ بالإمْكان أنْ تنْطَلِق بِهذا المُنْطلق فَبَيْنَك وبين الإيمان مراحل فسيحة ، أردْتُ من هذه المُقَدِّمة بيان أنَّ المؤمن يُحِبُّ عباد الله جميعاً ، ويحْتَرِمُهم جميعاً ، ولا يُفَرِّقُ أبداً بين جِنْسٍ وجِنْس ، ولا بين عِرْقٍ وعِرْق ، ولا بين لَوْنٍ ولَوْنٍ ، ولا بين نَسَبٍ ونَسَبٍ ولا بين ثقافَةٍ وثقافة ، ولا بين بلدٍ وآخر ، ولا بين مدينةٍ وريفٍ ، ولا بين غِنىً وفقْر ؛ كُلُّ الناس عِباد الله ، يَحْتَرِمُهم جميعاً ، وإذا أراد أنْ يقيسهم فهو يقِيسُهم بِمِقْياس الإيمان فقط ، إذا أراد أنْ يُصَنِّفَهم فتَصْنيفُهُ وِفْق قِيَم الإيمان فقط ؛ أما أنْ يَفَرِّق بين قوِيٍّ وضعيف ، وبين وَجيهٍ وحقير ، وبين عالي النَّسَب ومغْمور النَّسَب ، بين الذكِيّ وغير الذكيّ ؛ هذا شيء يتنافى مع طبيعة الإيمان ، هذه المُقَدِّمة قَدَّمْتُها لكم لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعْلمون في السنة السابعة قبل الهِجْرة كابد عليه الصلاة والسلام من أذى قُرَيش ما كابد ! وحَمَلَ هُموم الدَّعْوة وأعْباءِها ما أحال حياته إلى سِلْسِلَةٍ مُتواصِلَة من الأحْزان والنوائِب ، وفيما هو في هذه المَشَقَّة والمُكابَدَة وأشَدِّ الضِّيق أشْرَقَتْ في حياته بارقة سُرور ، جاءَهُ المُبَشِّر أنَّ أُمَّ أيْمن وَضَعَتْ غُلاماً فأضاءتْ أساريرُ النبي فأشْرق وَجْهُهُ الكريم ، وابْتَهَجَ قلبه الشريف فَمَن هي أُمُّ أيْمن ؟ ومن هذا الغُلام ؟
ومن أبو هذا الغُلام ؟ هذا الذي جعلني أُقَدِّمُ هذه المُقَدِّمة ؛ رسولٌ كريم ، سيِّدٌ عظيم ، من أرْقى أُسَر قُرَيش ؛ من بني هاشِم تُصْبِحُ حياته سعيدةً لأنَّ أُمَّ أيمن التي زَوَّجَها لِزَيْد بن حارِثة غُلامه ومُتَبَناه ، أنْجَبَتْ أُمُّ أيْمَن لِزَيْد بن حارِثَة غُلاماً اسمُهُ أُسامة طبْعاً أُمُّ أيْمن هي بَرَكَةُ الحَبَشِيَّة ؛ كُنْيَتُها أُمُّ أيْمن ، كانت مَمْلوكَةً وجارِيَة لآمنةَ بنت وَهْب أُمِّ رسول الله صلى الله عليه
وسَلَّم ، هذه بركة الحَبَشِيَّة أُمُّ أيمن رَبَّتْهُ في حياةِ أُمِّه وحَضَنَتْه بعد وفاتِها ، فَحينما فتح عَيْنه على الدنيا فتحها على أُمِّ أيمن ، فأحَبَّها أعْمَقَ الحُبِّ وأصْدَقَهُ ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام هي أمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّة أهل بيْتي ، أرَأيْتُم إلى هذا الوَفاء ؟! جارِيَة مَمْلوكَة لكِنَّهُ أحَبَّها أعْظم الحُبِّ ، كَرَّمَها أعْظم التَّكْريم هي أُمُّهُ بعد أُمِّهِ ، وفي سِيَرٍ أُخْرى ، تَرْوي كُتُبُ السيرة أنَّهُ أكْرَمها في مُناسَباتٍ لاحِقَة أشَدَّ الإكْرام فمن أبو هذا الغُلام ؟ إنَّهُ حِبُّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ؛ زَيْدُ بن حارِثَة أوَّلاً هو غُلامٌ أعْتَقَهُ ثانِياً ابنه بِالتَبِنِّي ثالثاً : خليفته على المدينة ، رابِعاً : قائِدُ جَيْشِهِ ، هل هناك عُنْصُرِيَّة ؟ هل هناك تَفْرِقَة ؟ هل هناك ما يُسَمَّى بالطَّبَقِيَّة ؟ نحن الآن في القَرْن العِشْرين قَرْنُ الديمقْراطِيَّة والتَّنْوير العِلْمي ، نسْتَمِع إلى الأخبار إلى نَزَعاتٍ عِرْقِيَّة تظْهر في أوروبا الغَرْبِيَّة أعْمال عُنْف ضِدّ كلّ إنْسان ليس من ألْمانْيا ، لا لِشَيءٍ ؛ إلا لأنه ليس من هذا العِرْق ! لكن النبي عليه الصلاة والسلام لايفرق بين المسلمين ؛ من هي أُمُّ أيْمن ؟
مَمْلوكَةُ أُمِّه مُرَبِّيَة وخادِمَة ، هذا هو المؤمن ، لا يُفَرِّق ، وحينما تشْعُر أيها الأخ المؤمن أنَّ عندك اسْتِعْداداً أنْ تقول : أنا غير فُلان ، وأنا من بَيْتِ فُلان ، أنا أهْلي أغْنِياء ، أنا مُثَقَّفٌ ، أنا من هذه الأُسْرة ، أنا لديّ أمْوال ، إذا كان لك اسْتِعْداد أنْ تنْطَلِق هذا الانْطِلاق فابْكِ على نفْسِك وعلى إيمانك ، النبي عليه الصلاة والسلام سيِّدُ العُرْب والعَجَم ، ومع ذلك هذه التي رَبَّتْهُ وحَضَنَتْهُ وهذه التي فَتَحَ عَيْنَيْه في الدنيا على مُحَيَّاها ، هذه أُمُّهُ قال : هي أُمِّي بعد أُمِّي ، من زَوْجُها ؟ هو مُتَبَناه ، كلُّ حُبِّه وشَوْقِه ومَوَدَّتِه لِعَبْدٍ وأمة لِمَمْلوكٍ ومَمْلوكة ، لِرَقيقٍ وجارِيَة ، عَيَّنه قائِد الجيش وخليفته على المدينة ، كان يقول : هذا ابني حقاً يَرِثُني وأرِثُه ، أنا ما أردْتُ من هذه المُقَدِّمة إلا أنْ تَشْعُر أيها المؤمن أنَّهُ ليس لك الفضْلُ على أحدٍ إلا بِالتَّقْوى ، والله : أخٌ
كريمٌ ذهب إلى الحجّ فلما عاد زُرْتُهُ مُهَنِّئاً بكى بُكاءً شديداً وتَفَكَّر أحْواله حول الكَعْبة وفي الطواف والسَّعْي وقال لي هذه الكلمة ولها عشْر سنوات - والله ما نَسَيْتُها - : والله يا أُسْتاذ ، ليس في الأرض من هو أسْعَدُ منِّي ! وَجَدْتُها أنّ فيها مُبالغة ، ولكن لما أضاف إلا أنْ يكون أتْقى منِّي ، مِقْياسُ الطاعة دائِماً صحيح ، وهو المِقْياسُ الصحيح ، تذْكُرون أنَّ سيّدنا عمر لما
اسْتَدْعى سَيِّدَنا سَعْدُ بن أبي وقاص وقال له يا سَعْدُ لا يَغُرَنَّك أنَّهُ قد قيل خال رسول الله ! فالخَلْقُ كُلُّهم عند الله سَواسِيَة وليس لهم عند الله قرابة إلا طاعَتُهُم ، الناسُ يتفاضَلون بالعافِيَة وينالون ما عند الله بالطاعة ، سُبْحان الله ! لقد اِسْتَمَعْتُ قبل أيامٍّ إلى قِصَّةٍ هَزَّتْ مشاعِري أسْرةٌ فيها مجْموعة فَتيات ، وبعض هؤلاء الفَتَيات على جانِبٍ من الجمال لكن هناك فتاةٌ كأنَّها أقَلُّهُنَّ شأناً وحَظاًّ ، اِعْتَقَد أهْلُها أنَّ هذه أبْقَاها الله لِخِدْمَتِنا أما أخواتها الأربع فلَهُنَّ أزْواج وبُيوت ؛ وأما الخامسة فكأن الله أبْقَاها الله لِخِدْمَتِنا ، وإذْ بِهذه الخامِسَة يأتيها زَوْجٌ كريمٌ كريم، والشُّروط المطلوبة كلها مُتَوَفِّرة بِهذا الزوج ، يُكْرِمُها أعْظم تَكْريمٍ ويرفَعُ من شأنِها .
تَعْرِفون القِصَّة التي كُنْتُ أُرَدِّدُها عليكم أنَّ شخْصاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج فَطَرَقَ سائِلٌ الباب هَمَّتْ أنْ تُعْطِيَهُ قِطْعَة من هذه الدجاجة فَنَهَرَها زَوْجُها وقال لها : اُطْرُديه ففَعَلَتْ ، بعد سَنَةٍ أو سنَتَيْن نَشَب خِلافٌ بينهما فاِنْتهى إلى الطلاق ، ثمَّ جاءَها زوْجٌ آخر فَتَزَوَّجَها ، وفي جَلْسَةٍ مثل الجَلْسَة المُشابِهَة للأولى كانا يأكُلان الدجاج فَطُرِقَ الباب فَذَهَبَتْ لِتفتح الباب فاضْطَرَبَتْ فقال زوجُها من ؟ قالت : سائِل فقال زوْجُها لِماذا اضْطَرَبْت ؟!
قالتْ : إنَّهُ زَوْجي الأوَّل ، فقال : أتَدْرين من أنا ؟ قال : أنا السائِل الأول!
تعلَّم أنْ تحْتَرِم الناس جميعاً ، وألا تكون عُنْصُرياً ، وأنْ تقيسَ الناسَ بِمِقْياسٍ واحدٍ وهو مِقْياسُ الطاعة لله ، قال تعالى :

( الحجرات : الآية 13 )
فأنا دائِماً عندي قاعدة في النظر إلى الناس والتعامل معهم ؛ هذا الإنسان أهو رَحْماني مؤمن أو عُنْصُري له تفْكيرٌ طَبَقي وعِرْقي ، الدول المُتَحَضِّرَة لها تفْكير عِرْقي ، من أجل أنه مسلم يجب أنْ يُقْتل ، وهذا هو التفْكير الجاهِلي ، أما المُسْلمون فهم أُناسٌ آخرون ، أضاءتْ أساريرُ النبي فأشْرق وَجْهُهُ الكريم ، وابْتَهَجَ قلبه الشريف ، لماذا ؟ لأنَّ مَمْلوكته أُمَّ أيمن أنْجَبَتْ طِفْلاً صغيراً اسمه أُسامة لِمَمْلوكٍ سابق اسمه زيدُ بن حارِثة ، وكان كُلَّما ذُكرت له يقول : هي أُمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّةُ أهل بيْتي ، هذا الغُلام أطْلق أصْحاب رسول الله عليه الحِبُّ وابن الحِبّ ، الحِبُّ هو زيد ، وابن الحِبِّ هو أُسامة بن زَيد .
يا أيها الإخوان ، إنْ لم تضَع تحت رِجْلِك كُلَّ قِيَم الجاهِلِيَّة وأعْرافِها والتفْريقات ، والعَنْعَنات ، والعُنْصُرِيات فلن تكون مُسلما حق الإسلام ، تذكرون أن أحد مُلوك بني غَسَّان جَبَلَة بن الأَيْهَم، أسْلم واسْتَقْبَلَهُ عمر ورَحَّبَ به وفي أثناء طوافِهِ حول البيت ، بَدَوِيٌّ من دون أنْ يدْري ويقْصِد داسَ طرَفَ إزاره فانْخَلَع إزارُهُ فَغَضِبَ والْتَفَتَ نحو هذا البدَوِيّ من قبيلة فزارَة وضربه على أنْفِهِ ضَرْبةً هَشَّمَتْ أنْفَهُ فَوْراً ، فاشْتكى هذا البَدَوِيّ لِعُمَر بن الخطاب لما فَعَلَهُ به جَبَلَة بن الأَيْهَم ، فاسْتَدْعاه سيّدنا عمر وقال له : لا بدّ من إرْضاء الفَتى ، مازال ظِفْرُكَ عالِقاً بِدِمائِهِ ، أوْ يُهْشَمَنَّ الآن أنْفُكَ ، وتنال ما فَعَلَتْهُ كَفُّكَ ‍، قال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟! هو سوقَة وأنا عَرْشٌ وتاج ! كيف ترْضى أنْ يخِرَّ النجْمُ أرْضاً ؟! فقال عمر رضي الله عنه : نزَوَاتُ الجاهِلِيَّة دَعْكَ منها ، ورِياحُ العنْجُهِيَّة ، فالنَّزَواتُ قد دَفَنَّاها أقَمْنا فوقها صَرْحاً جديداً ، وتساوى الناس لدَيْنا أحْراراً وعَبيداً ، فقال : كانَ وهْماً ما جرى في خَلَدي ، أنني عندك أقْوى وأعزّ ، أنا مُرْتَدٌّ إذا أكْرَهْتَني ، فقال عمر رضي الل عنه : عُنُقُ المُرْتدِّ بالسيفِ تُحَزّ ، عالمٌ
نبْنيهِ كلُّ صدْع فيه بِشَبى السيف يُداوى ، وأعزُّ الناس بالصُّعْلوك بالعَبْد تساوى ؛ هذا هو الإسلام يُمْكِنُ أنْ تُعامِلَ الناس وكأنَّك واحدٌ منهم ، فإن كان عندك خادِم أو أجير أو مُوَظَّف أو امرأة خادِمَة ، فهذه لها مكانَتُها وشأنُها عند الله وهي أشْرفُ من ألف امرأة تؤذي الناس فَهِيَ تُطْعم أوْلادها بِعَرَقِ جبينها ، يجب أنْ تشْعُر أنَّهُ لا فضْل لك على أحد إلا بالتَّقْوى ؛ كُلُّ هذه القِيَم التي تعارف عليها الناس ؛ لا قيمة لها فالقرآن أغْفَلَها وأهْمَلَها وسَكَتَ عنها ، فالقُرآن فيتبنّى قيمتين اثنتين قيمة العِلْمُ وقيمة العَمَل ، قال تعالى :

( المجادلة : الآية 11 )
والقيمة الثانِيَة قوله تعالى :

( الأحقاف : الآية 19 )
لا تَقُلْ أصْلي وفَصْلي أبداً ، وحَجْمي المالي كذا وقيمته بالمِئتي مليون ! كُلُّهُ كلام فارغ ، وسيمُ الطَّلْعَة ؛ كلُّ هذه القِيَم وسامة الطَّلْعة ، وقِيَمُ الغِنى والقُوَّة ، وقِيَمُ الذكاءِ كُلُّها لا قيمة لها عند الله ، فَعِند الله قيمتان : العلم والعمل ؛ يُمْكِنُ أنْ يُقاسَ الناسُ بهما ، واحْرَصْ على أنْ تُحْفَرَ في ذِهْنِك هذه الآية :

( الحجرات : الآية 13 )
فإما مؤمن وإما عُنْصُري والتفْكيرٌ الطبقي أساسه الغِنى والفقْر ، والقوَّة والضَّعْف ، رُبَّ أشْعَثَ أغْبر ذي طِمْرَيْن ، مدْفوعٍ بالأبواب ، لو أقْسَمَ على الله لأَبَرَّه لكنّ هذا من غير تَكَلُّف فإذا عَرَفْتَ الله وحُبَّهُ للناس جميعاً ، فمن هنا يأتي تواضُعُك وحُبُّكَ للآخرين .
المُسْلِمون حينما أطْلقوا على هذا الغُلام كلمة حِبّ وابن حبّ رسول الله - طبْعاً أُمُّهُ مَمْلوكة ، وأبوهُ عبْدٌ فأغْلَبُ الظنّ أنَّ هذا الغُلام مُلَوَّن ليس أبيض أزْهر - ما بالَغوا ، فكان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهُ حُبًّا شديداً وتَغْبِطُهُ الدنيا كُلُّهاعليه ، كانَ أُسامة يُقارِبُ في السِنِّ الحسن بن فاطِمَة الزهْراء ، وكان الحَسَن أبيض أزْهر ، رائِع الحُسْن شديد الشَّبَهِ بِجَدِّهِ رسول الله ، وكان أُسامةُ أسْوَدَ البَشَرة ، أفْطَسَ الأنف ، شديد الشَّبَهِ بِأُمِّه الحَبَشِيَّة ؛ لكنَّ النبي صلوات الله عليه ما كان يُفَرِّقُ بينهما في الحُبِّ حُبُّهُ لِسِبْطِهِ الحَسَن كَحُبِّهِ لابن مُتبناهُ أًسامة ، كان يأخذُ أسامة فَيَضَعُهُ على إحْدى فخذله ويأخذ الحَسَن ويضَعُهُ على فخذِهِ الأُخْرى ، ثمَّ يَضُمُّهما إلى صَدْرِه ويقول : اللهمَّ إني أُحِبُّهُما فَأَحِبَّهُما ! هذا هو الإنسان الكامل ، ولقد قُلتُ منذ يَوْمَين : إنَّ الإنسان لو سار في الطريق عارِياً ، فالإنْسانُ بَشِعٌ جداً وهو عاري الجسد وهو لا يرْتَكِبُ حماقَةً ولا يسْقُطُ عند الناس كما لو تعامل مع الناس بِمِقْياسَيْن فهناك في الحياة : بِنْتُك ، وكُنَّتَك - زوْجَةُ ابنك - هل لك اسْتِعْداد أنْ تُعامِل ابنتك مثل أنْ تُعامِل زوْجة ابنك ؟ لماذا إذا قالتْ لك ابنتك : أنا مريضةٌ يا أبي تُصَدِّقُها فَوْراً ، وإذا قالتْ زوْجَةُ ابنك الكلام نفسه لم تُصَدِّقْها ! لماذا هذه تُصَدِّقُها وتلك لا تُصَدِّقها ؟! هل لك اسْتِعْدادٌ أنْ تعامل ابنك كما تعامل مُوَظَّفاً يعْملُ عندك في مَحَلٍّ تِجاري ؟ إنْ حَمَلَ ابنك شيئاً ثقيلاً بادَرْتَهُ معترضاً وإنْ حملها خادمك لم تُلْقِ بالاً !! هذه هي العُنْصُرِيَّة
وهي أنْ تقيس ابنك بِمِقْياس والأجير بِمِقْياس ، وابنتك بِمِقْياس وزوْجَةُ ابنك بِمِقْياسٍ فأنت عُنْصُري ، هل لك اسْتِعْداد أنْ تخدمَ والد زوْجَتِك كما تخْدُم والدك ؟ أيها الإخوة لا حِظوا أنفسكم فإنَّ الإنسان أحْياناً يقيسُ بِمِقْياسَيْن وهو لا يشْعُر ذكر لي أحدهم قصة وهي واقِعِيَّة ، بِيَوْمٍ واحدٍ ابنُها اشْترى غسالة حديثة لِزَوْجَتِه ، وصِهْرُها اشْترى غسالة لِابِنْتِها ، فالحماة بِيَوْمٍ واحدٍ عَنَّفَتْ ابنها على شِرائِهِ هذه الغسالة ، وفي اليوم ذاته قالت اللهم ارْض على فُلان صهرها رَيَّحَ لي ابْنتي من دون أنْ تشْعُر ، هذه هي العُنْصُرِيَّة ، وهي من ضَعْف الإيمان ، هل لك اسْتِعْداد أنْ تُعامل زوْجَةُ ابنك كابْنَتِك ؟ والصانِع كابنك ؟ فإذا أراد الصانع الخُروج من العمل قبل ساعة من أجل الالْتِحاق بالمَدْرَسَة الليلية وقُلْتَ له : لا ، كان ذلك علامة الأنانيَّة والعُنْصُرِيَّة ، اِبْكِ على حالك ، نحن نعيشُ هذا الكلام ونراهُ بالمُسْلمين ، واقعاً ابنه يُؤمن له اثنى عشر أُسْتاذاً ، وخادِمُهُ لا يسْمح له بالخُروج قبل الوقت بقليل من أجل الدِراسة !! ثلاثة مئة ألف ليرة كلَّفَتْني من أجل الدروس الخاصَّة ، هذا الأمر يُؤْلِمُني أنْ يصدُر من المسلمين ، اُنْظُروا كيف فعل النبي عليه الصلاة والسلام ؟ أسْوَدَ البَشَرة ، أفْطَسَ الأنف ، شديد الشَّبَهِ بِأُمِّه الحَبَشِيَّة ، وعلى رُكْبَتِهِ اليُسرى سِبطه الحَسَن ؛ أبيض أزْهر مُشْرق الوَجْه ، كان عليه الصلاة والسلام يضُمُّهُما إليه ويقول اللهم إني أحبهما فأحبهما .
عن أَبِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ طَرَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لا أَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ قَالَ فَكَشَفَهُ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ فَقَالَ هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا *
( رواه الترمذي )
راقبْ نفْسَكَ حينما تُعامِلُ الناس ، عامِلِ الناس كما تُحِبّ أنْ يُعامِلوك ، هل عندك اسْتِعْداد إذا كنت مُوَظَّفاً وجاءَكَ رجُلٌ مُراجِع أنْ تضعَ نفْسَكَ مكانه ، أم أنك تضع أمامه تَضَعُ ألف عَقَبَة ، كأن تقول له : لا بد من أنْ تُصَدِّق لي على هذا التوقيع ، وأنت تقْدِر أنْ تتجاوز له عن هذا ، وتيسر له المعاملة ، ولكن تعرقلها ، إما لِإظْهار قيمتك وإما لكي تُشْعِرَهُ أنَّك إنْسانٌ مُهِمّ وخطير فالإنسان عليه أن يعامِل الناس كما يُحِبّ أنْ يُعامِلوه .
تَرْوي بعض الرِّوايات أنَّهُ بلغ من شِدَّة حُبِّ النبي عليه الصلاة والسلام لأُسامة أنَّه عثر يوماً بِعَتَبَةِ الباب فَشُجَّتْ جَبْهَتُهُ وسال الدمُ من جُرْحِهِ فأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى عائِشة رِضْوان الله عليها أنْ تُزيل الدَّم عن جُرْحِهِ فربما أنَّها لم تسْتَجِبْ سريعاً ، أو لم تَطِبْ نفْساً لِذلك فقامَ إليه النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يُزيلُ الدَّم عن جَبْهَتِه ويُطَيِّبُ خاطِرَهُ بِكَلِماتٍ
تفيضُ عُذوبِةً وحناناً ، وبِالمُناسَبَة فإياكم أنْ تنْزَلِقوا وتَظُنوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كما يفْعَلُ ذلك مع بعض الناس ؛ يُمَثِّلُ ، فهذه أبعد عن أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام بُعْد الأرض عن السماء ، والآن في زماننا هناك أشْخاصٌ أذْكِياء وبارعون في تمْثيل التَحَبُّب ، فأحْياناً يكون لك مع شَخْصٍ منْفَعَة كبيرة تجدُهُ يقول لابنه : اُعطوهُ شوكولاتا ، ليس حُباً ولكن مصْلَحَةً !! هذا يفْعَلُهُ الناس أحْياناً لكن النبي عليه الصلاة والسلام حُبُّهُ حقيقيّ وصِدْقُهُ ما بعْده صِدْق وإخْلاصه ما بعده إخْلاص .
أهْدى حكيم بن حزام أحد سَراة قُرَيْش لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم حُلَّةً ثمينةً شراها من اليَمَن بِخَمْسين ديناراً ذَهَبِياً ؛ كانت لِذي يَزَن أحد مُلوكِه ، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يقبل هَدِيَّتَهُ لأنه كان يوْمئِذٍ مُشْرِكاً ، أخَذَها منه بِالثَّمن ، لِمَنْ اشْتراها ؟ هو لا يلْبَسُها ، لَبِسَها النبي مرَّةً واحدة ثمَّ خلعها على أُسامة بن زيد فكان أُسامة يروحُ بها ويغْدو بين أتْرابِهِ من شُبان الأنْصار والمُهاجِرين ، حُلَّةٌ يرْتَديها مَلِكٌ سابق اشْتراها النبي وقَدَّمَها لأُسامة بن زَيْد ؛ حِبُّهُ .
يرْوي التاريخُ أنَّ هذا الصحابيّ الجليل كان ذَكِياًّ جداً ، وشُجاعاً خارِقَ الشجاعة ، حكيماً يضَعُ الأمور في مواضعها ، عفيفاً يأنفُ من الدنايا ، آلِفاً مألوفاً يُحِبُّهُ الناس ، تَقِياً وَرِعاً يُحِبُّهُ الله ، أحْياناً يكون الإنسانُ ذَكِياً ويُحِبُّهُ الناس ولكنَّ الله تعالى لا يُحِبُّهُ فهو منافق ، وأحْياناً الإنسان له عِبادته واتِّصاله بالله لكن يُقَصِّر أحْياناً مع الناس ، فالذي ينْبغي أن يكون أنك بِقَدْرِ ما تُحِبُّ الله بِقَدْر ما تكون مع الناس لطيفاً رحيماً وكامِلاً ومُنْصِفاً حتى يُحِبُّك الناس .
في غزوة الخَنْدَق جاءَ أُسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَنْخَرِط في هذه الغزوة ، فَرَقَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازَهُ ، أما في أُحد جاءَهُ فَرَدَّهُ صلى الله عليه وسلم لِصِغَرِه ، فَبَكى من شِدَّة تأثُّرِهِ ، الآن أين تجد أبناء الخامسة عشرة ؟! تجدهم بِالمَلْعَب ، أما هذا الشاب الذي جاءَ لِيُحارِبَ مع النبي عليه الصلاة والسلام فلما رَدَّهُ صلى الله عليه وسلم لِصِغَرِه بَكى!! ويوْمَ حُنَيْن حينما انْهَزَم المُسلمون ثبت أسامة بن زيد مع العباس عمّ رسول الله وأبي سُفْيان بن الحارث بن عَمِّهِ وسِتَّةُ نَفَرٍ آخرين من كِرام الصحابة فاسْتطاع النبي عليه الصلاة والسلام بِهَذه الفِئَة المسلمة الصغيرة الباسِلَة أنْ يُغَيِّر هزيمة أصْحابه إلى نصْرٍ وأنْ يَحْمِيَ المسلمين
الفارِّين من أنْ يفتِكَ بِهِم المشركون .
قد يتساءل الإنسان ، أُسامة بن زيد سبْعَةَ عشر عاماً يُمْكِنُ أنْ يُعَيَّن قائِداً لِجَيْش فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعَلِيّ ؟! هذا مَوْقِفُ النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ أوَّلاً : هو قُدْوَة للشباب جميعاً، كُلُّ من دخل الإسلام صار عظيماً سواء أكان شاباً أم كهْلاً أم شَيْخاً ؛ سيِّدنا أبو أيوب الأنْصاري شارك في جَيْشٍ اتَّجَه لِفَتْحِ القُسْطنْطينِيَّة وهو في الثمانين من عُمُرِه ! فهذه عَظَمَةُ الإسلام فالإسلام يصْنع الأبطال ؛ الشيْخُ له نَفْسِيَّةُ الشاب ، والشاب لهُ حِكْمَةُ الشَّيْخ .
الآن تجد شاباً مُنْدَفِعاً لكنَّهُ أحْمق ولا علم له ، حركة عَشْوائِيَّة ، وتجد شيخاً وقوراً كلُّه حكمة لا مُروءَة له ، مَرَّةً أراد أحدهم أنْ يُعَبِّر لي عن تقدُّمه في السِّنّ فقال لي : أنا أُسْتاذ ، الدولاب ماسِح ، والعداد بهذا الأسلوب ! عَبَّر عن تَقَدُّمه بالسِنّ ، لكن بالإسلام ؛ الشيْخُ له نَفْسِيَّةُ الشاب، والشاب لهُ حِكْمَةُ الشَّيْخ هذا هو الإسلام ؛ فإذا أردت أنْ تكون شيخاً وأنت شابٌّ فَكُنْ مُسْلماً ، وإنْ أردتَ أنْ تكون شاباً وأنت شيخٌ فكنْ مُسْلماً .
في يومِ مؤتة جاهد أُسامة تحت لِواء أبيه زيد بن حارِثَة وسِنُّهُ دون الثامنة عشرة فرأى بِعَيْنَيْه مصْرع أبيه فلم يَهِن ولم يتضَعْضَع وإنما ظلَّ يُقاتلُ تحت لِواء جعفر بن أبي طالب حتى صُرِع ! وعلى مرْأى منه ومشْهد ، ثمَّ تحت لِواء عبد الله بن رواحة حتى لَحِق بِصاحِبَيْه ، ثمَّ تحت لِواء خالد بن الوليد حتى اسْتَنْقَذ الجيش الصغير من براش الروم ، ثمَّ عاد أُسامة إلى المدينة مُحْتَسِباً أباهُ عند الله ، تارِكاً جسده الطاهر على تُخوم الشام راكِباً جواده الذي اسْتُشْهِد عليه ، المَوْقِف الحاسِم ومركز الثِّقَل في سيرة هذا الصحابيِّ الجليل أنَّهُ في السَّنَة الحادِيَة عشرة للهِجْرة أمر النبي عليه الصلاة والسلام بِتَجْهيزِ جَيْشٍ لِغَزْوِ الروم ، وجعل فيه أبا بكرٍ ، وعمر ، وسعْد بن أبي وقاصٍّ ، وأبا عُبَيْدة بن الجراح وغيْرهم من جِلَّة الصحابة وأمَّر على
الجَيْش أُسامة بن زيْد ، وهو لم يتجاوز العِشْرين من عُمره ، وأمره أنْ يوطِىء الخيل تُخوم البلْقاء ، وقَلْعَةَ الداروم القريبة من غَزَّة بِلاد الروم ، حرْبٌ هَدَفُها تحْجيمُ الأعْداء وفيما كان الجَيْشُ يتَجَهَّز مَرِضَ عليه الصلاة والسلام ، لو أنَّهُ يعْلمُ الغَيْب لَتَرَك هذه المُهِمَّة لِخَليفَتِه ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعْلمُ الغَيْب ، ولو أنَّهُ كان يعْلم الغَيْب لما مسَّهُ السوء ، وهو صلى الله عليه وسلم يخاف إنْ عصى ربَّهُ عذابَ يوْمٍ عظيم ، ولا يمْلِكُ لِنَفْسِهِ نفْعاً ولا ضَرًّا ؛ فمن باب أوْلى ألا يمْلِكَ لأصْحابه نفْعاً ولا ضَرًّا ! وهذا هو مقامُ النُبُوَّة وأيُّ إنْسانٍ يدَّعي فوق ذلك فَهُوَ دَجَّال ‍، يقول أُسامة لما اشْتَدَّ المرضُ على النبي الصلاة والسلام تَوَقَّفَ الجَيْشُ عن
المَسير اِنْتِظاراً لما تُسْفِرُ عنه حال النبي عليه الصلاة والسلام ، ولما ثقُلَ على نبِيِّ المرضُ أقْبَلْتُ عليه وأقْبَلَ الناسُ معي فَدَخَلْتُ عليه فَوَجَدْتُهُ قد صَمَتَ فما يتكلَّمُ من وطْأةِ الداء فَجَعَلَ عليه الصلاة والسلام يرْفَعُ يدَهُ إلى السماء ثمَّ يضَعُها عليّ فَعَرَفْتُ أنَّهُ يدْعو لي ، وما لبِثَ عليه الصلاة والسلام أنْ فارق الحياة وتَمَّتْ البَيْعَة لأبي بكْرٍ ، وأوَّلُ قرارٍ اتَّخَذَهُ هذا الصحابيّ
الجليل خليفة رسول الله أنَّهُ أمر بإنْفاذ بعْث أُسامة لكنَّ الأنْصار رأوا أنْ يُؤخَّر هذا البعْثُ وطَلَبَتْ عمر بن الخطاب أنْ يُكَلِّم أبا بكرٍ ، وقالتْ له : فإنْ أبى إلا المُضِيّ فأبْلِغْهُ عنا أنْ يُوَلِّي أمْرنا رَجُلاً أقْدَمَ سِناًّ من أُسامة - إذْ لا تناسُبَ بين سِنِّه وسِنِّ الآخرين - هذا الصِّديق اللطيف النَّاعِم الرقيق الحليم ؛ ما إنْ سَمِعَ الصِّديق من عمر رسالة الأنصار حتى وَثَبَ وكان جالِساً ، وأخذ بِلِحْيَةِ الفاروق وهَزَّها حتى كادَت تنْخَلِع ، وقال مُغْضَباً ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا ابن الخطاب اِسْتَعْمَلَهُ رسول الله وتأمُرُني أنْ أنْزِعَهُ ؛ والله لا يكون هذا أبداً ، جبارٌ في الجاهِلِيَّة خَوَّارٌ في الإسلام ، بعض كُتاب السيرة المُوَفَّقين قالوا : هذا المَوْقِف من سيِّدنا عمر ليس مَوْقِفُهُ لكن أراد هذا الصحابيُّ الجليل أنْ ينْقُلَ لِخَليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأْيَ الأنصار فإذا وَثَبَ هذا الخليفة على الفاروق وأمْسَكَهُ من لِحْيَتِهِ وهَزَّها فَلَعَلَّ الأنْصار حينئِذٍ يخافون ؛ أراد أنْ يُبَيِّنَ للأنْصار مَوْقِفَ الصِدِّيق من بَعْثِ أُسامة ولما رجع عمر إلى الناس سألوه عما حدث ، فقالوا : اُمْضوا ، ثَكِلَتْكُم أُمُّهاتكم ، فقد لقيتُ ما لقيتُ في سبيلِكم من خليفة رسول الله ، ولما انْطَلَقَ الجَيْش بانْطِلاقة قائِدِهِ الشاب شَيَّعَهُ خليفة رسول الله ؛ هذا المنظر بِتاريخ العالم ليس له نظير ، خليفة المسلمين يمْشي وشابٌ لا تزيدُ عُمُرُهُ على سبعة عشر عاماً راكِبٌ الناقة ، فقال أُسامة : يا خليفة رسول الله ، والله لَتَرْكَبَنَّ أوْ لأنْزِلَنَّ فقال أبو بكرٍ : والله لا تنْزِل ، ووالله لا أرْكَب ، وما علَيَّ أنْ أُغَبِّرَ قدَمَيَّ في سبيل الله ساعة - سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده ضَيْفٌ وهو أمير المؤمنين والسِّراج قد انْطَفَأ ، فقامَ سيّدنا عمر بِنَفْسِه وأصلح السِّراج ، فهذا الضَّيف وقع في حرَجٍ فقال له : أنت أميرُ المؤمنين ، قُل للغُلام أو أكون أنا مُصْلِحه ، فقال له : أما أنت فَضَيْفٌ وَسَخافَةٌ بالمرء أنْ يسْتخدم ضَيْفه ؛ فهكذا النبي علَّمَهُ ، ومَرَّةً كان سيِّدُنا عمر بن الخطاب مارًّا بالمسجد ورجُلٌ مُضْطَجِعٌ بِالمَسْجد ليلاً فداسَ على طَرَفَيْه فقال له ذلك المُضطجِع : أَأَعْمى أنت ؟‍ فقال: لا ، ولما سئل عمر ، قال مجيباً : سألني فأجبته فالبساطة وعدم التَكَلُّف والتواضع أخلاقهم - سيِّدُنا أُسامة لما ودَّعَ سيِّدنا الصِّديق ؛ اِسْمعوا هذا الوداع ، قال له سيِّدُنا الصدِّيق : أسْتَوْدِعُ الله دينك وأمانتك وخواتيمَ عَمَلِكَ ، وأوصيكَ بِإِنْفاذ ما أمرك به رسول الله ثمَّ مال عليه وقال : إنْ رأيْتَ أنْ تُعينني بِعُمَر فاذَنْ له
بالبقاء معي - أنت قائِدُ الجَيْش وهذا أحدُ جُنودِك - فأذِنَ أُسامةُ لِعُمَر ، هذا هو نِظامُ التَسَلْسُل، ومضى أسامةُ بالجَيْش ونفَّذَ كلَّ ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأَوْطَأ خَيْلَ المُسلمين تُخوم البلْقاء ، وقَلْعَةَ الداروم ، ونزع هَيْبَة الروم من قُلوب المُسلمين ، ومهَّد الطريق أمامهم لِفَتْحِ دِيار الشام ومِصْر ، والشمال الإفْريقي كُلِّه حتى بحْر الظلمات ، ثمَّ عاد أُسامة مُمْتَطِياً صَهْوَة الجواد الذي اسْتُشْهِد عليه أبوه حامِلاً من الغنائِم مازاد على تقْدير المُقَدِّرين ، حتى قيل إنَّهُ ما رُئِيَ جيْشٌ أسلم وأغْنَمُ من جَيْش أُسامة بن زيد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت نظْرته في مَحَلِّها وظَلَّ أُسامة بن زَيْد ما امْتَدَّتْ به الحياة مَوْضِعَ إجْلال المُسْلمين وحُبِّهِم وفاءً لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
آخرُ مَوْقِفٍ خلاصته : لما فرض له الفاروقُ عطاءً ، عني أن سيِّدُنا عمر أعْطاهُ عطاءً ويبْدو أنَّ عبد الله بن عمر كان عطاؤُهُ أقَلّ - فابن عمر بن الخطاب عطاؤُهُ قليل وأُسامة عطاؤُه أكثر ! - فقال عبد الله لأبيه مُؤاخِذاً : يا أبتِ فَرَضْتَ لأسامة أربعة آلافٍ ، وفَرَضْتَ لي ثلاثة آلاف ، وما كان لأبيه من الفضْل أكثر مما كان لك ، وليس له من الفضْل أكثر مما هو لي ، فقال له سيِّدُنا عمر : إنَّ أباهُ كان أحَبَّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبيك ، وكان هو أحَبَّ إلى رسول الله منك ، وكان عمر إذا لَقِيَ أُسامة بن زيد الشاب الناشئ يقول له : مَرْحَباً بأميري -شاب في أوائل العمر - فإذا رأى أحداً يعْجَبُ من كلامه يقول : لقد أمَّرَهُ عليّرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أيها الإخوة ، كما قُلْتُ لكم والله إنهم إن كانوا بشراً فنحن لسْنا من بني البشر ، وإن كُنا بَشَراً فهُم فوق البشر ، ولكن نقْتَدي بِهم ، ونَعْتني بِشَبابِنا ، ذلكم شابٌ قيمته عظيمة ، شابٌ ذهب إلى تُخوم الروم وقاد جَيْشاً فيه كِبارُ الصحابة والنبي عليه الصلاة والسلام وَضَع تحت قَدَمَيْه كُلّ الجاهِلِيَّة والغَطْرَسَة ، فراقِب نفْسَكَ في مُعامَلَتِك للآخرين ؛ هل عندك شيءٌ من العُنْصُرِيَّة وتحس أن لك مَيِّزات ، وهل ينْبغي أنْ تأكُلَ وحْدَك ، وأنْ تسْتَخْدِمَ الآخرين وأنْ تستثمر جُهودَهُم إن كنت كذلك فهذا التفْكير يتناقض مع الإيمان ، والحقيقة أن هذه الأخبار مُمْتِعَة ولكن الأمْتَعُ منها أنْ تُطَبِّقها ، وأنْ تنْطَلِقَ في حياتك من هذه القِيَم ؛ من العَدْل والتواضع والمُؤاثرة وحُبِّ الآخرين وتوْقيرُ الآخرين وأنْ تسْتخدِمَ مِقْياساً واحِداً وهو المِقْياس الذي وضعه الله ، قال تعالى :

( الحجرات : الآية 13 )
والحمد لله ربِّ العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 02:37 AM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com