قوله : ( قالت العاشرة : زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح ، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك )
وقع في رواية عمر بن عبد الله عند النسائي والزبير ( المبارح ) بدل ( المبارك )
وفي رواية أبي يعلى ( المزاهر ) بصيغة الجمع وعند الزبير ( الضيف ) بدل ( المزهر ) .
والمبارك بفتحتين جمع مِبْرَك وهو موضع نزول الإبل ،
والمسارح جمع مسرح وهو الموضع الذي تطلق لترعى فيه ،
ًوالمزهر بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء آلة من آلات اللهو ،
وقيل هي العود وقيل دف مربع ،
وأنكر أبو سعيد الضرير تفسير المزهر بالعود فقال : ما كانت العرب تعرف العود إلا من خالط الحضر منهم ،
وإنما هو بضم الميم وكسر الهاء وهو الذي يوقد النار فيزهرها للضيف ،
فإذا سمعت الإبل صوته ومعمعان النار عرفت أن ضيفا طرق فتيقنت الهلاك .
وتعقبه عياض بأن الناس كلهم رووه بكسر الميم وفتح الهاء ،
ثم قال : ومن الذي أخبره أن مالكا المذكور لم يخالط الحضر ولا سيما مع ما جاء في بعض طرق هذا الحديث أنهن كن من قرية من قرى اليمن وفي الأخرى أنهم من أهل مكة ،
وقد كثر ذكر المزهر في أشعار العرب جاهليتها وإسلامها بدويها وحضريها اهــ .
ويرد عليه أيضا وروده بصيغة الجمع فإنه بعينه للآلة ،
ووقع في رواية يعقوب بن السكيت وابن الأنباري من الزيادة
( وهو أما القوم في المهالك )
فجمعت في وصفها له بين الثروة والكرم وكثرة القرى والاستعداد له والمبالغة في صفاته ،
ووصفته أيضا مع ذلك بالشجاعة لأن المراد بالمهالك الحروب ،
وهو لثقته بشجاعته يتقدم رفقته ،
وقيل : أرادت أنه هاد في السبل الخفية عالم بالطرق في البيداء ، فالمراد على هذا بالمهالك المفاوز ، والأول أليق ، والله أعلم .
و ( ما ) في قولها : ( وما مالك ) استفهامية يقال للتعظيم والتعجب ،
والمعنى وأي شيء هو مالك ما أعظمه وأكرمه
وتكرير الاسم أدخل في باب التعظيم .
وقولها ( مالك خير من ذلك ) زيادة في الإعظام ، وتفسير لبعض الإبهام ،
وأنه خير مما أشير إليه من ثناء وطيب ذكر ، وفوق ما اعتقد فيه من سؤدد وفخر ، وهو أجل مما أصفه لشهرة فضله .
وهذا بناء على أن الإشارة بقولها : ( ذلك )
إلى ما تعتقده فيه من صفات المدح .
ويحتمل أن يكون المراد مالك خير من كل مالك
والتعميم يستفاد من المقام كما قيل : تمرة خير من جرادة ،
أي كل تمرة خير من كل جرادة ،
وهذا إشارة إلى ما في ذهن المخاطب ،
أي مالك خير مما في ذهنك من مالك الأموال وهو خير مما سأصفه به ،
ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الثناء على الذين قبله ،
وأن مالكا أجمع من الذين قبله لخصال السيادة والفضل .
ومعنى قولها : ( قليلات المسارح ) أنه لاستعداده للضيفان بها لا يوجه منهن إلى المسارح إلا قليلا ، ويترك سائرهن بفنائه ،
فإن فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها ،
ومنه قول الشاعر :
حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا __ على حكمه صبرا معودة الحبس
ويحتمل أن يريد بقولها ( قليلات المسارح ) الإشارة إلى كثرة طروق الضيفان ،
فاليوم الذي يطرقه الضيف فيه لا تسرح حتى يأخذ منها حاجته للضيفان ،
واليوم الذي يطرقه فيه أحد أو يكون هو فيه غائبا تسرح كلها ،
فأيام الطروق أكثر من أيام عدمه ، فهي لذلك قليلات المسارح .
وبهذا يندفع اعتراض تسرح كلها : لو كانت قليلات المسارح لكانت في غاية الهزال .
وقيل : المراد بكثرة المبارك أنها كثيرا ما تثار فتحلب ثم تترك فتكثر مباركها لذلك ،
وقال ابن السكيت : إن المراد أن مباركها على العطايا والحمالات وأداء الحقوق وقرى الأضياف كثيرة ،
وإنما يسرح منها ما فضل عن ذلك .
فالحاصل أنها في الأصل كثيرة ولذلك كانت مباركها كثيرة ،ثم إذا سرحت صارت قليلة لأجل ما ذهب منها .
وأما رواية من روى ( عظيمات المبارك )
فيحتمل أن يكون المعنى أنها من سمنها وعظم جثثها تعظم مباركها ،
وقيل : المراد أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس القرى ،
وإذا سرحت سرحت وحدها فكانت قليلة بالنسبة لذلك .
ويحتمل أن يكون المراد بقلة مسارحها قلة الأمكنة التي ترعى فيها من الأرض ،
وأنها لا تمكن من الرعي إلا بقرب المنازل لئلا يشق طلبها إذا احتيج إليها .
ويكون ما قرب من المنزل كثير الخصب لئلا تهزل .
ووقع في رواية سعد بن سلمة عند الطبراني
( أبو مالك وما أبو مالك ، ذو إبل كثيرة المسالك قليلة المبارك )
قال عياض :
إن لم تكن هذه الرواية وهما فالمعنى أنها كثيرة في حال رعيها إذا ذهبت ، قليلة في حال مباركها إذا قامت ، لكثرة ما ينحر منها وما يسلك منها فيه من مسالك الجود من رفد ومعونة وحمل وحمالة ونحو ذلك .
وأما قولها ( أيقن أنهن هوالك ) فالمعنى أنه كثرت عادته بنحر الإبل لقرى الضيفان ،
ومن عادته أن يسقيهم ويلهيهم أو يتلقاهم بالغناء مبالغة في الفرح بهم صارت الإبل إذا سمعت صوت الغناء عرفت أنها تنحر ،
ويحتمل أنها لم ترد فهم الإبل لهلاكها ، ولكن لما كان ذلك يعرفه من يعقل أضيف إلى الإبل ، والأول أولى .