فضيلة بر الوالدين والاحسان اليهما
بر الوالدين
الخطبة الاولى
من خطب يوم الجمعة
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تستقيم لكم حتى تقوموا بما فرض الله عليكم من الواجبات والحقوق وتذكروا ما نهاكم عنه من القطيعة والعقوق.
أيها المؤمنون إن بر الوالدين من آكد ما أمر الله به عباده كيف لا ؟ وقد قرن الله حقهما بحقه سبحانه وتعالى وشكرهما بشكره جل علاه فقال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾(1) وقال جل وعلا: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(2).
ومما يظهر مكانة بر الوالدين في ديننا الحنيف النصوص النبوية الكثيرة المستفيضة والتي تحث على بر الوالدين وتنهى عن عقوقهما فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود t قال: ((سألتُ رسول الله r: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد في سبيل الله))(3). وفيهما أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي r يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد))(4). وعنه أيضاً قال: قال رسول الله r: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد))(5).
أيها المؤمنون فضل الوالدين كبير وإحسانهما سابق عظيم تذكر رعايتهما لك حال الصغر وضعف الطفولة، حملتك أمك ياعبد الله في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً. فبالله يا عبد الله
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها صفواً وإشفاقاً وأنت صغير
هذه حال أمك أما أبوك أيها الأخ فتذكر كده وسعيه وتنقله وسفره وتحمله الأخطار والأكدار بحثاً عن كل ما تصلح به معيشتك. وإن كنت ناسياً فلا تنس انشغاله بك وبصلاحك ومستقبلك وهمومك.
نعم أيها الاخ الكريم هذان هما والداك ألا يستحقان منك البر والإحسان والعطف والحنان بلى والله إن ذلك لمن أعظم الحقوق.
أيها المؤمنون إن مما يحثنا ويشجعنا على بر الوالدين تلك الفضائل التي رتبها الكريم العليم على بر الوالدين فمن تلك الفضائل أن بر الوالدين سبب لدخول الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخلاه الجنة))(6).
ومن فضائل بر الوالدين تفريج الكربات وإجابة الدعوات فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج قال النبي e: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي e: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون))(7).
ومن فضائل بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر ففي الصحيحين عن أنس مرفوعاً: ((من سره أن يبسط عليه رزقه ويُنسأ في أثره فليصل رحمه))(8) وبر الوالدين أعظم صور صلة الرحم.
ومن فضائل بر الوالدين ما ورد في شأن من عق والديه فإن الأحاديث كثيرة مستفيضة في تغليظ عقوق الوالدين ولو لم يكن في ذلك إلا تحريم الجنة على العاق نعوذ بالله من الخسران لكفى ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم))(9).
أيها المؤمنون لو لم يكن في عقوق الوالدين وترك برهما إلا أنه غصص وأنكاد يتجرعها من لم يألُ جهداً في الإحسان إليك لكان كافياً في حملك على تركه واستمع بارك الله فيك إلى تلك الزفرات التي أطلقها والد ابتلي بعقوق ابنه له حتى ترى عظم ذلك وفداحته. قال الوالد مخاطباً ذلك الابن العاق:
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ماكنت فيك أؤملُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بما لي دون مالك تبخلُ
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله وقوموا بما فرض الله عليكم من بر والديكم والإحسان إليهم فإن حقهما عليكم عظيم كبير جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: إن لي أماً قد بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية فهل أديت حقها ؟ فقال الفاروق المحدَّث رضي الله عنه: لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها ولكنك محسن والله يجزي المحسنين على القليل الكثير.
الخطبة الثانية
أما بعد. . .
فياأيها المؤمنون إن للوالدين حقوقاً وواجبات نشير في هذه الخطبة إلى بعضها رجاء أن يثمر ذلك عملاً صالحاً وبراً حانياً فلئن كانت النفوس السوية مجبولة على حب من أحسن إليها فإن من شرائع الدين وسمات المروءة وضرورات العقل أن يقابل الإحسان بالإحسان قال الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلا الإحْسَانُ﴾(10). فمن حقوق الوالدين عليك محبتهما وتوقيرهما على من سواهما روى البخاري في الأدب المفرد أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك ؟ فقال: أبي فقال: لا تسمه باسمه ولا تمشِِ أمامه ولا تجلس قبله.
ومن برهما الإحسان إليهما بالقول والعمل والحال كما قال الله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.
ومن حقوقهما الدعاء لهما في الحياة وبعد الممات قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ وفي الحديث: ((إن الرجل ليرتفع في الجنة فيقول: أنى لي هذا ؟ فيقال: باستغفار ولدك لك))(11). ومن حقوقهما صلة أهل ودهما فقد روي عن ابن عمر مرفوعاً ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ودِّ أبيه))(12).
ومن حقوقهما النفقة عليهما إذا كانا محتاجين للنفقة وعند الولد مايزيد على حاجته قال شيخ الإسلام رحمه الله: على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه قاطعاً لرحمه مستحقاً لعقوبة الله في الدنيا والآخرة.
ومن حقوقهما التواضع لهما وخفض الجناح قال الله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ` وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(13).
ومن حقوقهما إنفاذ عهدهما أي وصيتهما ففي سنن أبي داود أن رجلاً قال: يارسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟ قال: ((نعم الصلاة عليهما – الدعاء لهما – وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما))(14).
هذه أيها المؤمنون بعض الحقوق التي افترضها الله عليكم لوالديكم ولا يظن من وفقه الله في القيام ببعض الحقوق أنه قد قام بما عليه وقد جزى والديه حقهما قال النبي r: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه))(15) ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانياً بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره وهو يقول إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر. ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها ؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة. أي عند الولادة اللهم إنا نسألك أن تعيننا على القيام بما افترضت علينا من بر الوالدين.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) النساء: 36.
(2) لقمان: 14.
(3) أخرجه البخاري في الأدب برقم 5970 وأخرجه مسلم في الإيمان برقم 85.
(4) أخرجه البخاري في الجهاد والسير برقم 3004 وأخرجه مسلم في البر والصلة برقم 2549.
(5) رواه الترمذي في البر والصلة برقم 1899 وسنده جيد.
(6) أخرجه مسلم في البر والصلة برقم 2551.
(7) أخرجه البخاري في الإجارة برقم 2272 وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم 2743.
(8) أخرجه البخاري في الأدب برقم 5985 وأخرجه مسلم في البر والصلة برقم 2557.