الفتن
عبد السلام العييري
إنها تموج موج البحر وهي كالقطر وهي كالحيات وهي كقطع الليل المظلم ، بسببها يبدل الإنسان دينه ، هكذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الفتن ، فقد فصلها ووضحها وحذّر منها وبيّن علاماتها وكيفية المخرج منها، بل كان يقول في الصلاة بعد التحيات ( أعوذبالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ) وما فصل النبي صلى الله عليه وسلم الفتن وذكرها إلا لأنه رؤوف رحيم يخاف علينا ، وقال ( من سمع بالدجال فلينأَ عنه ) وقال ( إن يخرج فيكم فأنا حجيجه )
الفتنة هي الابتلاء والاختبار فكل قول أو فعل يضعف الإنسان في دينه أو يصده عنه فهي فتنة وما أكثر الصوارف عن الحق فيقال فلان مفتون / فُتِنَ عن دينه .
ولها معانٍ كثيرة في القرآن منها /
أنها تطلق على الشرك ( والفتنة أشد من القتل ) و ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة )
وتطلق على الكفر ( ابتغاء الفتنة )
إذا نزلت الفتنة عميت البصائر والعقول كما قيل :
يقضى على المرء في أيام محنته ** حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
فلنحرص على إنارة الطريق والحذر من فتن الشبهات وهي الأفكار الهدامة المضلة والمقالات الصادة عن ذكر الله.
ومن فتن الشهوات كالدنيا والمال والنساء والشهرة ولبس الحق بالباطل .
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الفتن أتم بيان وذكر أنها من أشراط الساعة فقال في الصحيحين ( يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن )
ففيه تلازم بين قلة العلم والوقوع في الفتنة ، وبيّن أن الفتنة تأتي من المشرق . رواه مسلم
وقال : ( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا .... ) رواه مسلم
وفي مسلم قال ( وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة يرقق بعضها بعضاً ويقول المؤمن هذه مهلكتي )
ومن شدتها أن المؤمن يمر بالقبر يتمنى أن يكون مكانه ، وقال عند الترمذي : (يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر) فمن تمسك بالسنة حقاً فأول من يعاديه أمه وأبوه وأهله.
وعند أحمد بيّن عليه الصلاة والسلام أن الفتن تأتي كالظُلَلْ وهي السحاب الأسود.
بل قال ستأتي فتنة عمياء صماء مطبقة يصير الناس فيها كالأنعام .. رواه الحاكم وعبدالرزاق
أما أصناف الذين يفتنون عن الحق فهم:
1.الشياطين حيث قال الله عن الشيطان أنه قال ( ولأضلنهم) وقال الله في الحديث القدسي ( أني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فأخرجتهم عن دينهم )
ومن صور فتنة الشيطان وجنده : تزيين الباطل وإذا خرجت المرأة استشرفها الشيطان وزيّنها للناس ، ويحرص على التحريش والتفرقة بين الناس وقد يصاب أحد بأذى من الجن فإذا ذهب للعلاج عند ساحر شفي وإذا ذهب لقارئ صالح لم يشف فيقع الناس في شك وفتنة
أو يكون القارئ جديداً لا علم عنده فيعالج حالة واحدة فيتسامع الناس به فيجتمعوا عليه فيفتن في دينه
2.الكفار بنشر الشبهات ضد الإسلام والشهوات ضد المسلمين ولذا كان من دعاء المؤمنين ( ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) أي لا تسلطهم علينا فيصدونا عن الدين
3.الإنسان قد يفتن نفسه بأن يوقعها ويردها مواطن الفتن فيدخل مواقع الشبهات والمناظرات أو يقرأ في التوراة والإنجيل أو يحاور الملاحدة أو يستمع لأهل البدع وهو لا يملك العلم الشرعي أو ينظر في المحرمات والنساء ويطلق بصره، وكم نظره أوقعت في قلب صاحبها العلل والفتن
ففيك الداء ومنك الدواء
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)
(بل الإنسان على نفسه بصيرة)
لاتخاطر بدينك ولا تعرض نفسك للفتنة ثم تبحث عن مخرج فالوقاية خير من العلاج ، واشتكى عدد من الأزواج أو الزوجات إنحراف الأزواج أو الأولاد لأنه أدخل الفضائيات الممنوعة شرعاً وأطلق بصره وأطلع أولاده عليها ثم إذا حصل الإنحراف بدأ يبحث عن العلاج.
4.
هي الدنيا تقول بملء فيها ** حذار حذار من بطشي وفتكي
فالدنيا على أنها دنية إلا أنها فتنة وتدل على ضعف ابن آدم
فهي / طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء والأكدار
فهي إن حَلَّتْ أَوْحَلَتْ وَأَمْحَلَتْ وإن كَسَتْ أَرْكَسَتْ ، وإن أَعْطَتْ أَعْطَبَتْ.
لأجل الدنيا يعق والديه ويقطع رحمه في خلاف على حفنة من تراب أو أعلاف أو قطيع من الغنم ، وترى الإنسان يركض للدنيا ويسارع فيها مع أن الله قال لنا في أمر الآخرة ( وسارعوا ... ) ( وسابقوا .. ) ( فاسعوا إلى ذكر الله ) وأما الدنيا فقال ( فامشوا في مناكبها) ومع هذا نتباطأ عن الآخرة ونلهث خلف الريال ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( تَعِسَ عبدالدينار تعس عبدالدرهم) فسماه عبداً تعيساً بئيساً ربما ترك دينه وأهمل نفسه وأولاده وصلاته.
ومشاغل الدنيا لا تنتهي ولو خرج أهل القبور للدنيا لرجعوا إلى أعمالهم ومكاتبهم ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اتقوا الدنيا واتقوا النساء ) وقال ( إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون )
ومن مواضع الفتنة بالدنيا أن يظن البعض أن إقبال الدنيا على الإنسان دليل رضا الله عنه ( وما أموالكم .. ) ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ..) فالخضرة والنضرة والتقدم عند الكفار هذا من تعجيل الطيبات في الدنيا بل هي حسناتهم المعجلة لكن يوم القيامة ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل .. ) ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة .. )
وأكثر الأنبياء وأتباعهم فقراء فلا يعني أن الدنيا محل رضا الله إلا من عرف حق الله فيها وتقرب بها إلى الله ونعم المال الصالح للعبد الصالح ، كإبراهيم وسليمان عليهما السلام ومثل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما
اعلم عبدالله أن الله مقلب القلوب فاسأله أن يثبتك على الحق لأنك ضعيف فتسمع بمن ترك دينه أو نكص على عقبيه وأنت لا ملجأ لك ولا منجا إلا الله , واعلم أنك لن تستطيع المحافظة على نفسك ودينك إلا بأمر الله.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهاده
فقد كان عليه الصلاة والسلام يكثر من قوله ( يا مقلب القلوب .. ) وكان إذا خرج من بيته قال (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل .. ) وكان يقول صباحاً ومساءً ( وأعوذ بك أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم .. )
وإن مما يحفظ من الفتن : الحرص على طلب العلم الشرعي ومجالسة أهل العلم والانتفاع بهم وأخذ آراءهم.
اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك وأنت راضٍ عنّا .. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا.