فلاسفة العرب والعلاج النفسي :
عندما كان الغرب يعيش في دوامة من الجهل والظلام الحالك ، كان الشرق يعيش في بحبوحة من الرقي والتمدن ، في ضوء العلوم والمعارف التي كانت تنتشر بين الأمم والشعوب الإسلامية ، حيث نبغ الفلاسفة ، وظهر الحكماء ، وبرع الأطباء ، فورثوا عن حق وصدق ( أبقراط وجالينوس ) بل فاقوا الكثير من أطباء اليونان ، وزادوا عليهم معرفة علمية وعملية ، مما لفت أنظار أطباء الغرب ، وبهر عقولهم في القرون الوسطى ، فراحوا يقتبسون من علومهم ويطورونها أبان النهضة الأوروبية الأولى .
والتاريخ الطبي يحدثنا بكل وضوح أن أطباء العرب قد امتهنوا العلاج النفسي ، وأن بعض هؤلاء الأطباء قد مهر في مداواة مرضى العقول وفق أساليب علمية لا تقل في أهميتها عن الأساليب المستخدمة في هذا العصر المتطور .
وكان رائد هؤلاء وأبعدهم صيتا ، وأقواهم نفوذا ، النطاسي البارع ، والباحث القدير ، والحكيم الفيلسوف ، الشيخ الرئيس ، حجة الحق ، أبوعلي الحسين بن علي بن سينا . الذي فاق الأولين والآخرين في مهنة الطب ومعالجة كافة أنواع الأمراض التي كانت معروفة في عصره .
ويجمع الرواة والمؤرخين على أنه اشتغل في الطب وهو لا يزال في سن المراهقة لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره . ونجح نجاحا باهرا في معالجة كثير من المرضى الذين عجز الأطباء في عصره من معالجتهم ، ولم يكن يعالج مرضى الأجسام فحسب ، ولكنه وفق في مداواة مرضى العقول بطرق عقلية .
ويقال أنه كانت له معرفة بأمراض العشق ووسائل مداواته ، وذلك ما أشار إليه بالذات في كتابه القانون ، وأفرد له فصلا خاصا بالعشق حيث يقول : (( العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل ، ثم أعانته على ذلك شهوته . وعلامته غور العين ويبسها ، وعدم الدمع إلا عند البكاء ، وحركة متصلة للجفن ضحاكة ، كأنه ينظر إلى شيء لذيذ ، أو يسمع خبرا سارا ، أو أنه يمزح .
ويكون نفسه كثير الإنقطاع والإسترداد ، فيكون كثير الصعداء ، ويتغير حاله إلى فرح وضحك ، أو إلى غم وبكاء عند سماع الغزل ، ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى ، وتكون جميع أعضائه ذابلة خلا العين ، فإنها تكون ــ مع غور مقلتها ــ كبيرة الجفن سميته ، لسهره ونزفره المنجر إلى رأسه ، ولا يكون لشمائله نظام البتة ، ويكون نبضه نبضا مختلفا بلا نظام البتة ، كنبض أصحاب الهموم . ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة ، وعند لقائه بغتة ، ويمكن من ذلك أن يستدل على المعشوق من هو إذا لم يتعرف العاشق به ، فإن معرفة معشوقه إحدى سبل علاجه . والحيلة في ذلك أن يذكر أن يذكر أسماء كثيرة تعاد مرارا ، وتكون اليد على نبض المريض ، فإذا اختلف ذلك اختلافا عظيما ، وصار شبه المنقطع ، ثم عاودت وجربت ذلك مرارا علمت أنه إسم المعشوق . ثم يذكر كذلك السكك والمساكن ، والحرف والصناعات ، والنسب والبلدان وتضيف منها إلى إسم المعشوق ، ويحفظ النبض ، حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء مرارا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الإسم والحلة والحرفة ، وعرفته فإنا قد جربنا ذلك ، واستخرجنا ما كان في الوقوف عليه منفعة . ثم إن لم تجد علاجا إلا تدبير الجمع بينهما على وجه يُحله الدين والشريعة فعلت .
وقد رأينا من عاودته السلامة والقوة وعاد إلى صحته ، وكان قد بلغ الذبول ، وجاوزه ، وقاسى الأمراض العصبية المزمنة ، والحميات الطويلة , بسبب ضعف القوى لشدة العشق ــ لما أحس بوصل من معشوقه بعد مطل ــ معاودة في أقصر مدة قضينا به العجب ، واستدللنا على طاعة الطبيعة للأوهام النفسانية )) .
هذه الآراء التي أوردها ابن سينا حول العشق بطريقة فنية علمية استقاها من تجاربه الخاصة ، واستنتجها من خبراته الواسعة في الأمراض النفسية وطرق معالجتها ، تعطينا الدليل الواضح على أن ابن سينا قد عرف الأمراض النفسية وطرق معالجتها قبل أن يعرفها الغرب بقرون عديدة ، لذلك لا نستبعد أن يكون الغرب قد نقل آراء وأفكار ابن سينا هذه وطورها وبلورها حتى جاءت موافقة ومنسجمة مع تطور الطب في هذا العصر . وللحديث بقية ......
( من كتاب في سبيل موسوعة نفسية / الدكتور مصطفى غالب )
المعالجة النفسية عبر التاريخ ( 9 ) فلاسفة العرب والعلاج النفسي !!!
لموقع ومنتدى الرقية الشرعية - مؤلف ( الموسوعة الشرعية في علم الرقى ) 
