شرح الحديث
فتح الباري لابن حجر | شـــرح النووي
- 5687 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ وَفِي هَذَا الْجَانِبِ فَإِنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنْ السَّامِ" قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: "الْمَوْتُ".
الكتاب :- فتح الباري لابن حجر رقم الجزء :- 13 رقم الصفحة :- 0070 مسلسل :- 102235
قَوْله: (بَاب الْحَبَّة السَّوْدَاء) سَيَأْتِي بَيَان الْمُرَاد بِهَا فِي آخِر الْبَاب.
قَوْله: (حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي شَيْبَة) كَذَا سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ وَهُوَ أَبُو بَكْر، مَشْهُور بِكُنْيَتِهِ أَكْثَر مِنْ اِسْمه، وَأَبُو شَيْبَة جَدّه، وَهُوَ اِبْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَبُو شَيْبَة قَاضِي وَاسِط.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه) بِالتَّصْغِيرِ كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْر مَنْسُوب، وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ عُبَيْد اللَّه غَيْر مَنْسُوب، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْم فِي "الْمُسْتَخْرَج" بِأَنَّهُ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي بَكْر الْأَعْيَن وَالْخَطِيب فِي كِتَاب "رِوَايَة الْآبَاء عَنْ الْأَبْنَاء" مِنْ طَرِيق أَبِي مَسْعُود الرَّازِيِّ، وَهُوَ عِنْدنَا بِعُلُوِّ مِنْ طَرِيقه، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَد بْن حَازِم عَنْ أَبِي غَرَزَة - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالزَّاي - فِي مُسْنَده، وَمِنْ طَرِيقه الْخَطِيب أَيْضًا كُلّهمْ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى، وَهُوَ الْكُوفِيّ الْمَشْهُور، وَرِجَال الْإسْنَاد كُلّهمْ كُوفِيُّونَ، وَعُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى مِنْ كِبَار شُيُوخ الْبُخَارِيّ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَاَلَّذِي هُنَا.
قَوْله: (عَنْ مَنْصُور) هُوَ اِبْن الْمُعْتَمِر.
قَوْله: (عَنْ خَالِد بْن سَعْد) هُوَ مَوْلَى أَبِي مَسْعُود الْبَدْرِيّ الْأَنْصَارِيّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمَنْجَنِيقِيّ فِي كِتَاب رِوَايَة الْأَكَابِر عَنْ الْأَصَاغِر عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَاد فَأَدْخَلَ بَيْن مَنْصُور وَخَالِد بْن سَعْد مُجَاهِدًا، وَتَعَقَّبَهُ الْخَطِيب بَعْد أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق الْمَنْجَنِيقِيّ بِأَنَّ ذِكْر مُجَاهِد فِيهِ وَهْم. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْمَنْجَنِيقِيّ أَيْضًا: "خَالِد بْن سَعِيد" بِزِيَادَةِ يَاء فِي اِسْم أَبِيهِ، وَهُوَ وَهْم نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطِيب أَيْضًا.
قَوْله: (وَمَعَنَا غَالِب بْن أَبْجَر) بِمُوَحَّدَةٍ وَجِيم وَزْن أَحْمَد، يُقَال إِنَّهُ الصَّحَابِيّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُر الْأَهْلِيَّة. وَحَدِيثه عِنْد أَبِي دَاوُدَ.
قَوْله: (فَعَادَهُ اِبْن أَبِي عَتِيق) فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر الْأَعْيَن: "فَعَادَهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي عَتِيق" وَكَذَا قَالَ سَائِر أَصْحَاب عَبْد اللَّه بْن مُوسَى إِلَّا الْمَنْجَنِيقِيّ فَقَالَ فِي رِوَايَته: "عَنْ خَالِد بْن سَعْد عَنْ غَالِب بْن أَبْجَر عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق عَنْ عَائِشَة" وَاخْتَصَرَ الْقِصَّة، وَبِسِيَاقِهَا يَتَبَيَّن الصَّوَاب، قَالَ الْخَطِيب: وَقَوْله فِي السَّنَد "عَنْ غَالِب بْن أَبْجَر" وَهْم فَلَيْسَ لِغَالِبٍ فِيهِ رِوَايَة، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ خَالِد مَعَ غَالِب مِنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي عَتِيق، قَالَ: وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي عَتِيق هَذَا هُوَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق، وَأَبُو عَتِيق كُنْيَة أَبِيهِ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَهُوَ مَعْدُود فِي الصَّحَابَة لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُوهُ وَجَدّه وَجَدّ أَبِيهِ صَحَابَة مَشْهُورُونَ.
قَوْله: (عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَة السُّوَيْدَاء) كَذَا هُنَا بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيّ فَقَالَ: "السَّوْدَاء" وَهِيَ رِوَايَة الْأَكْثَر مِمَّنْ قَدَّمْت ذِكْره أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيث.
قَوْله: (فَإِنَّ عَائِشَة حَدَّثَتْنِي أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاء) وَلِلْكُشْمِيهَنِيّ "أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَبَّة شِفَاء" كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْيُن "هَذِهِ الْحَبَّة السَّوْدَاء الَّتِي تَكُون فِي الْمِلْح" وَكَانَ هَذَا قَدْ أَشْكَلَ عَلِيّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُرِيد الْكَمُّون وَكَانَتْ عَادَتهمْ جَرَتْ أَنْ يُخْلَط بِالْمِلْحِ.
قَوْله: (إِلَّا مِنْ السَّام) بِالْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ هَمْز، وَلِابْنِ مَاجَهْ "إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَوْت"، وَفِي هَذَا أَنَّ الْمَوْت دَاء مِنْ جُمْلَة الْأَدْوَاء، قَالَ الشَّاعِر:
وَدَاء الْمَوْت لَيْسَ لَهُ دَوَاء
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيه إِطْلَاق الدَّاء عَلَى الْمَوْت فِي الْبَاب الْأَوَّل.
قَوْله: (قُلْت: وَمَا السَّام؟ قَالَ: الْمَوْت) لَمْ أَعْرِف اِسْم السَّائِل وَلَا الْقَائِل، وَأَظُنّ السَّائِل خَالِد بْن سَعْد وَالْمُجِيب اِبْن أَبِي عَتِيق. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ اِبْن أَبِي عَتِيق ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاء فِي عِلَاج الزُّكَام الْعَارِض مِنْهُ عُطَاس كَثِير وَقَالُوا: تُقْلَى الْحَبَّة السَّوْدَاء ثُمَّ تُدَقّ نَاعِمًا ثُمَّ تُنْقَع فِي زَيْت ثُمَّ يُقَطَّر مِنْهُ فِي الْأَنْف ثَلَاث قَطَرَات، فَلَعَلَّ غَالِب بْن أَبْجَر كَانَ مَزْكُومًا فَلِذَلِكَ وَصَفَ لَهُ اِبْن أَبِي عَتِيق الصِّفَة الْمَذْكُورَة، وَظَاهِر سِيَاقه أَنَّهَا مَوْقُوفَة عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون عِنْده مَرْفُوعَة أَيْضًا، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَعْيَن عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد قَوْله: "مِنْ كُلّ دَاء" "وَأَقْطِرُوا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الزَّيْت" وَفِي رِوَايَة لَهُ أُخْرَى "وَرُبَّمَا قَالَ: وَأَقْطِرُوا..." إِلَخْ، وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة مُدْرَجَة فِي الْخَبَر، وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة؛ ثُمَّ وَجَدْتهَا مَرْفُوعَة مِنْ حَدِيث بُرَيْدَةَ فَأَخْرَجَ الْمُسْتَغْفِرِيّ فِي "كِتَاب الطِّبّ" مِنْ طَرِيق حُسَام بْن مِصَكٍّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْحَبَّة السَّوْدَاء فِيهَا شِفَاء..." الْحَدِيث، قَالَ وَفِي لَفْظ: "قِيلَ: وَمَا الْحَبَّة السَّوْدَاء؟ قَالَ: الشُّونِيز قَالَ: وَكَيْف أَصْنَع بِهَا؟ قَالَ: تَأْخُذ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَبَّة فَتَصُرّهَا فِي خِرْقَة ثُمَّ تَضَعهَا فِي مَاء لَيْلَة، فَإِذَا أَصْبَحْت قَطَرْت فِي الْمَنْخِر الْأَيْمَن وَاحِدَة وَفِي الْأَيْسَر اِثْنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَد قَطَرْت فِي الْمَنْخِر الْأَيْمَن اِثْنَتَيْنِ وَفِي الْأَيْسَر وَاحِدَة، فَإِذَا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث قَطَرْت فِي الْأَيْمَن وَاحِدَة وَفِي الْأَيْسَر اِثْنَتَيْنِ"
وَيُؤْخَذ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى كَوْن الْحَبَّة شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل فِي كُلّ دَاء صِرْفًا بَلْ رُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُفْرَدَة، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُرَكَّبَة، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مَسْحُوقَة وَغَيْر مَسْحُوقَة، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ أَكْلًا وَشُرْبًا وَسَعُوطًا وَضِمَادًا وَغَيْر ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ قَوْله "كُلّ دَاء" تَقْدِيره يَقْبَل الْعِلَاج بِهَا، فَإِنَّهَا تَنْفَع مِنْ الْأَمْرَاض الْبَارِدَة، وَأَمَّا الْحَارَّة فَلَا. نَعَمْ قَدْ تَدْخُل فِي بَعْض الْأَمْرَاض الْحَارَّة الْيَابِسَة بِالْعَرْضِ فَتُوَصِّل قُوَى الْأَدْوِيَة الرَّطْبَة الْبَارِدَة إِلَيْهَا بِسُرْعَةِ تَنْفِيذهَا، وَيُسْتَعْمَل الْحَارّ فِي بَعْض الْأَمْرَاض الْحَارَّة لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ لَا يُسْتَنْكَر كَالْعَنْزَرُوت فَإِنَّهُ حَارّ وَيُسْتَعْمَل فِي أَدْوِيَة الرَّمَد الْمُرَكَّبَة، مَعَ أَنَّ الرَّمَد وَرَم حَارّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاء، وَقَدْ قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالطِّبِّ: إِنَّ طَبْع الْحَبَّة السَّوْدَاء حَارّ يَابِس، وَهِيَ مُذْهِبَة لِلنَّفْخِ، نَافِعَة مِنْ حُمَّى الرِّبْع وَالْبَلْغَم، مُفَتِّحَة لِلسُّدَدِ وَالرِّيح، مُجَفِّفَة لِبَلَّةِ الْمَعِدَة، وَإِذَا دُقَّتْ وَعُجِنَتْ بِالْعَسَلِ وَشُرِبَتْ بِالْمَاءِ الْحَارّ أَذَابَتْ الْحَصَاة وَأَدَرَّتْ الْبَوْل وَالطَّمْث، وَفِيهَا جَلَاء وَتَقْطِيع، وَإِذَا دُقَّتْ وَرُبِطَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ كَتَّان وَأَدِيم شَمّهَا نَفَعَ مِنْ الزُّكَام الْبَارِد، وَإِذَا نُقِعَ مِنْهَا سَبْع حَبَّات فِي لَبَن اِمْرَأَة وَسُعِطَ بِهِ صَاحِب الْيَرَقَان أَفَادَهُ، وَإِذَا شُرِبَ مِنْهَا وَزْن مِثْقَال بِمَاءٍ أَفَادَ مِنْ ضِيق النَّفْس، وَالضِّمَاد بِهَا يَنْفَع مِنْ الصُّدَاع الْبَارِد، وَإِذَا طُبِخَتْ بُخْل وَتُمُضْمِضَ بِهَا نَفَعَتْ مِنْ وَجَع الْأَسْنَان الْكَائِن عَنْ بَرْد، وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن الْبَيْطَار وَغَيْره مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْمُفْرَدَات فِي مَنَافِعهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْته وَأَكْثَر مِنْهُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْله "مِنْ كُلّ دَاء" هُوَ مِنْ الْعَامّ الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاصّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْع شَيْء مِنْ النَّبَات مَا يَجْمَع جَمِيع الْأُمُور الَّتِي تُقَابِل الطَّبَائِع فِي مُعَالَجَة الْأَدْوَاء بِمُقَابِلِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهَا شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء يَحْدُث مِنْ الرُّطُوبَة. وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ: الْعَسَل عِنْد الْأَطِبَّاء أَقْرَب إِلَى أَنْ يَكُون دَوَاء مِنْ كُلّ دَاء مِنْ الْحَبَّة السَّوْدَاء، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ الْأَمْرَاض مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبه الْعَسَل لَتَأَذَّى بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَل "فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ" الْأَكْثَر الْأَغْلَب فَحَمْل الْحَبَّة السَّوْدَاء عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. وَقَالَ غَيْره: كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِف الدَّوَاء بِحَسَبِ مَا يُشَاهِدهُ مِنْ حَال الْمَرِيض، فَلَعَلَّ قَوْله فِي الْحَبَّة السَّوْدَاء وَافَقَ مَرَض مِنْ مِزَاجه بَارِد، فَيَكُون مَعْنِيّ قَوْله "شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء" أَيْ مِنْ هَذَا الْجِنْس الَّذِي وَقَعَ الْقَوْل فِيهِ، وَالتَّخْصِيص بِالْحَيْثِيَّةِ كَثِير شَائِع وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة: تَكَلَّمَ النَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث وَخَصُّوا عُمُومه وَرَدُّوهُ إِلَى قَوْل أَهْل الطِّبّ وَالتَّجْرِبَة، وَلَا خَفَاء بِغَلَطِ قَائِل ذَلِكَ، لِأَنَّا إِذَا صَدَّقْنَا أَهْل الطِّبّ - وَمَدَار عِلْمهمْ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّجْرِبَة الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى ظَنّ غَالِب - فَتَصْدِيق مَنْ لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ كَلَامهمْ. اِنْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيه حَمْله عَلَى عُمُومه بِأَنْ يَكُون الْمُرَاد بِذَلِكَ مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ الْإِفْرَاد وَالتَّرْكِيب، وَلَا مَحْذُور فِي ذَلِكَ وَلَا خُرُوج عَنْ ظَاهِر الْحَدِيث، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة) هُوَ اِبْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف.
قَوْلُهُ: (وَسَعِيد هُوَ اِبْن الْمُسَيِّب) كَذَا فِي رِوَايَة عُقَيْل، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ وَجْهَيْنِ اِقْتَصَرَ فِي كُلّ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِد مِنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا مِنْ رِوَايَة الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ: "مَا مِنْ دَاء إِلَّا وَفِي الْحَبَّة السَّوْدَاء مِنْهُ شِفَاء إِلَّا السَّام".
قَوْله: (وَالْحَبَّة السَّوْدَاء الشُّونِيز) كَذَا عَطَفَهُ عَلَى تَفْسِير اِبْن شِهَاب لِلسَّامِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ تَفْسِير الْحَبَّة السَّوْدَاء أَيْضًا لَهُ. وَالشُّونِيز بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَكَسْر النُّون وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا زَاي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَيَّدَ بَعْض مَشَايِخنَا الشِّين بِالْفَتْحِ وَحَكَى عِيَاض عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ أَنَّهُ كَسَرَهَا فَأَبْدَلَ الْوَاو يَاء فَقَالَ: الشِّينِيز، وَتَفْسِير الْحَبَّة السَّوْدَاء بِالشُّونِيزِ لِشُهْرَة الشُّونِيز عِنْدهمْ إِذْ ذَاكَ، وَأَمَّا الْآن فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ، وَالْحَبَّة السَّوْدَاء أَشْهَر عِنْد أَهْل هَذَا الْعَصْر مِنْ الشُّونِيز بِكَثِيرٍ، وَتَفْسِيرهَا بِالشُّونِيزِ هُوَ الْأَكْثَر الْأَشْهَر وَهِيَ الْكَمُّون الْأَسْوَد وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: الْكَمُّون الْهِنْدِيّ. وَنَقَلَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي "غَرِيب الْحَدِيث" عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهَا الْخَرْدَل، وَحَكَى أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيُّ فِي "الْغَرِيبَيْنِ" أَنَّهَا ثَمَرَة الْبُطْم بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُهْمَلَة، وَاسْم شَجَرَتهَا الضِّرْو بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء. وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: هُوَ صَمْغ شَجَرَة تُدْعَى الْكَمْكَام تُجْلَب مِنْ الْيَمَن، وَرَائِحَتهَا طَيِّبَة، وَتُسْتَعْمَل فِي الْبَخُور. قُلْت: وَلَيْسَتْ الْمُرَاد هُنَا جَزْمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: تَفْسِيرهَا بِالشُّونِيزِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ قَوْل الْأَكْثَر، وَالثَّانِي كَثْرَة مَنَافِعهَا بِخِلَافِ الْخَرْدَل وَالْبُطْم.