الدرس 26\50 سيرة الصحابي : سيدنا عدي بن حاتم الطائي لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 12/04/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس السادس والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم : عدي بن حاتم الطائي ، والده حاتم الطائي كان مضرب المثل بالكرم ، وعدي بن حاتم له قصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى المعاني التي تستنبط منها ، وكما قلت لكم دائماً : الذي يعنينا أن نربط السيرة النبوية وسيرة صحابة الرسول رضوان الله عليهم أجمعين بحياتنا وواقعنا .
ففي السنة التاسعة للهجرة دان للإسلام ملِكٌ من ملوك العرب بعد نفور شديد ، ولان للإيمان بعد إعراض و صدٍّ ، وأعطى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد طول إباء ، إنه عدي بن حاتم كان ملكًا من ملوك الجزيرة العربية ، و الحقيقة ترونها بعد قليل أن بطولة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في هذه القدرة الفائقة التي أكرمه الله بها على استجلاب أعدائه قبل أصدقائه .
من السهل جداً أن تجلب من يحبك لكن ليس من السهل أن تلين قلوب أعدائك الذين امتلئوا بغضاً لك .
دخل على النبي عليه الصلاة والسلام رجلٌ وقال : واللهِ يا رسول الله ما على وجه الأرض رجل أبغض إليَّ منك ، والآن ما على وجه الأرض رجل أحب إليَّ منك ، فهذه القدرة التي أكرم الله بها نبيه على امتلاك قلوب أعدائه ، بينما نحن ننفر الأصدقاء ، فضعاف المؤمنين بسبب نقص ثقافتهم ، وعدم اتباعهم للسنة النبوية ، فمَن يلوذون بهم يبتعدون عنهم ، وقلت لكم مرةً : العاجز هو الذي يعجز عن اكتساب الأصدقاء ، ولكنّ الأعجزَ منه هو الذي يعجز على الاحتفاظ بهم ، أن تصل إلى القمة أمرٌ ليس سهلاً ، ولكن إذا قيس ذلك بقدرتك على بقائك في القمة فهو سهل جداً ، أن تصل إلى مكتسبات شيء وأن تحافظ عليها شيء أعظم ، أن تحقق إنجازاً في مسيرة الإيمان ، وأن تثبت عليه شيء أعظم ، وأن تقفز قفزة نوعية في رمضان ، وأن تحافظ عليها على مدار العام شيء أعظم ، وأن تهتدي إلى الله شيء ، وأن تتابع الهدى شيء آخر ، أن تنطلق بسرعة معينة وأن تحافظ على هذه السرعة شيء آخر .
فالعاجز هو الذي عجز عن اكتساب أخ في الله ، والأعجز منه هو الذي لم يستطع أن يحافظ على هذه الأخوّة ، ولأسباب مادية ، ولأسباب تافهة خسر أخوَّته ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان من شدة كماله ورحمته وحبه للخلق يتألف أعداءه قبل أصدقائه ، وهذا عدو لدود من أعداء النبي ، وسترون بعد قليل كيف أنّ قلبه لان بالإحسان ، وبالبر تستعبد قلوب الكثيرين ، والأنبياء كما قلت لكم ، فالأقوياء ملكوا الأجساد ، لكن الأنبياء ملكوا القلوب ، فأيّ إنسان قوي بإمكانه أن يخضع الناس لرغبته ومشيئته ، ولكن ليست هذه بطولة ، البطولة هي القوة التي في يديه ، فالإنسان قد يكون في منصب حساس ؛ مدير مدرسة مثلاً ، ويستطيع أن يزعج المعلمين ، واحترامهم له لا قيمة له ، وتعظيمهم له ، وخضوعهم له قام على قوته ، وسلطته ، لكن لو نُحِّيَ عن هذا المنصب أيحتفظ بهم أصدقاء ؟ أغلب الظن لا ، إذاً الأقوياء يملكون القوالب ، بينما الأنبياء يملكون القلوب ، الأقوياء يملكون القوالب بقوتهم المادية ، لكن الأنبياء يملكون القلوب بكمالهم ، أنت بكمالك بإمكانك أن تملك القلوب .
ورث عدي الرئاسة عن أبيه ، فكان ملكاً في الجزيرة ، ملَّكته قبيلة طيِّئ ، وفرضت له الربع في غنائمها ، وأسلمت له القيادة ، ولما صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الهدى والحق ، ودانت له الجزيرة العربية حيًّا بعد حي ، رأى عدي في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم زعامة واسعة النفوذ ، يوشك أن تقضي على زعامته ، وستفضي إلى إزالة رياسته ، فعادى النبيَّ ، ولماذا عاداه ؟ حفاظاً على مصالحه ، وما أكثرَ الأشخاص في كل زمان وفي كل مكان ، حفاظاً على مصالحهم ، وعلى مكتسباتهم ، وعلى مراكزهم ، وعلى جاههم ، وعلى تبجيل الناس لهم ، وعلى تعظيم الناس إياهم ، يعادون الحق .
يا أيها الأخ الكريم ؛ إيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن تقف في خندقٍ معادٍ للحق من أجل مصالحك ، ولا بد عندئذ أن تخسر الاثنتين معاً ، وإذا وقفت مع الحق ربحت الدنيا والآخرة ، وإذا وقفت مع الباطل حفاظاً على مصالحك خسرت الآخرة ، وخسرت مصالحك ، قال تعالى :
(سورة الأنفال ، الآية 36)
لا ، لأن الله مع الحق ، ولن تستطيع أن تطفئ نور الله ، ولن تستطيع أن تضعف قوة الحق ، إياك أن تكون في درب الحق معترضاً ، فإن الحق لا يلوي على شيء مهما كان شأنه ، وما ضر السحاب نبح الكلاب ، ما ضر البحر العظيم أن ألقى فيه غلام بحجر ، إن الذين يحبون أن يغبروا على الإسلام كمن يكنس الطريق ليغبر على السماء ، وما يغبرون إلا على أنفسهم ، لأن هذا الإسلام دين الله ، بقي شامخاً كالطود على مدار العصور والحقب ، ولولا أنه دين الله لقُضِيَ عليه منذ ألف عام ، ولكن هذا الدين العظيم كلما وقفتَ في وجهه ازداد قوةً ، كلما أردت أن تقضي عليه ازداد مضاءً ، فهذا عدي بن حاتم رأى في زعامة النبي زعامةً تطغى على زعامته، ورأى في رئاسة النبي رئاسةً ستزيل رياسته ، فماذا يفعل ؟ عليه أن يعادي النبي .
أيها الإخوة ؛ يقف الحسد وراء خمسة أعشار معارضات الحق ، الإنسان أحياناً يرفض الحق حسداً من عند نفسه ، والمثل المأثور : إذا عزَّ أخوك فهن *
(لسان العرب ، مادة هين)
كن معيناً له يقبلك الله ، ويقبله ، ويرفع شأنك ، ويرفع شأنه ، وفضلُ الله عز وجل واسع ، نحن بتعاملنا مع بعضنا نريد وظيفة مدير عام ، نعلن عن مسابقة ، فيتقدم ألف شخص ، ونحن نحتاج إلى واحد ، لكن رحمة الله ليست كذلك ، رحمة الله تسع الخلق كلهم ، ولقد قرأت بيتين من الشعر ذات يوم :
***
ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب
***
أنا عدلت فيه كلمة واحدة قلت :
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
لأن الله عادل ، يتعامل مع عباده وفق قواعد ثابتة .
***
ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب
***
إذا وجدت أخاك متفوقًا فنافسْه ، قال تعالى :
(سورة المطففين )
ظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قريباً من عشرين عاماً ، لكن الله حليم ، فالإنسان يضيق ذرعاً بالكفار ، يا رب لماذا هؤلاء يعيشون ، وحياتهم بيدك ؟ رزقهم بيدك ، وحينما خلق الله عز وجل الإنسانَ سمح له أن ينكر وجوده ورزقه ، أليس كذلك ؟ لا إكراه في الدين ، ترى إنسانًا ملحدًا ، وله قلب ، ودسامات وشرايين ، ورئتان ، وكليتان ، وأمعاء ، وأعصاب ، وكذا ألف عضو يعمل في جسمه بانتظام ، وعنده فكر وذكاء وحرفة ، ويكسب مالاً ، وينفق ، ويشتري بيتًا ، ويتزوج ، وهو ملحد ، واللهُ لم يضق به ذرعاً ، لا إكراه في الدين ، لذلك أعطي الإنسان في الدنيا الكثير ، قال له : ابنَ آدم لي عليك فريضة ، ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك .
فالبطولة أن يأتي الإنسان ربه طائعاً ، راغباً محباً ، فظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قرابة عشرين عاماً ثم أسلم ، ولإسلام عدي قصة لا تنسى ، فلنترك للرجل نفسه يحدثنا عن قصته ، وأروع ما في قصص الصحابة حينما يتولى الصحابي نفسه الحديث عن نفسه .
يقول عدي بن حاتم : ما من رجل من العرب كان أشدَّ مني كراهةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعت به ، فقد كنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، معه أموال طائلة ، ربع أموال قومه ، وله زعامة وملك وشرف ، ووالده أكرم العرب وربع دخلهم له وحده ، فماذا يريد من الإسلام ؟ بالمنطق المادي هو وصل إلى قمة الدنيا.
فقد كنت امرأ شريفاً وكنت نصرانياً وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فأخذ الربع من غنائمهم ، كما كان يفعل غيري من ملوك العرب ، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرِهتُه ، ولما عظم أمره ، وامتدت شوكته ، وجعلتْ جيوشُه وسراياه تشرِّق وتغرِّب في أرض العرب ، قلت لغلام لي يرعى إبلي : لا أبا لك ، أعدد لي من إبلي نوقاً سماناً سهلة القياد ، واربطها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه قد وطئت هذه البلاد فأعلِمْني، فقدْ هيَّأ الطائرة ، ولكل عصر أساليبه ، وفي ذات غداة أقبل علي غلامي ، وقال : يا مولاي ما كنت تنوي أن تصنعه إذا وطئت أرضَك خيلُ محمد فاصنعه الآن ، فقلت : ولِمَ ثكلتك أمك ؟ فقال : إني رأيت رايات تجوس خلال الديار ، فسألت عنها فقيل لي : هذه جيوش محمد قد قدمت ، فقلت له : أعدد لي النوق التي أمرتك بها ، وقربها مني ، ثم نهضت من ساعتي ، فودعت أهلي وأولادي إلى الرحيل عن أرضي التي أحبها ، وجعلت أعد السير نحو بلاد الشام للِّحاق بأهل ديني من النصارى ، وأنزل بينهم ، لكنه وقع في غلطة كبيرة ارتكبها ، فكانت سببَ إسلامه ، وقد أعجلني الأمر عن استقصاء أهلي كلهم ، فلما اجتزت مواقع الخطر ، تفقدت أهلي فإذا لي أن تركت أختًا لي في مواطننا بنجد ، مع من بقي هناك من طيِّء ، ولم يكن مِن سبيل إلى الرجوع إليها ، فمضيت بمَن معي حتى بلغت الشام ، وأقمت فيها بين أبناء ديني ، أما أختي فقد نزل بها ما كنت أتوقعه وأخشاه ، أخته سفانة من أذكى نساء العرب ، ولها قصة مع رسول الله في كتاب آخر .
ولقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد صلى الله عليه وسلم أغارت على ديارنا ، وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا ، وسيقت إلى يثرب ، وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد ، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقفت ، وكانت ذكية جداً ، وقالت : يا رسول الله ، خاطبته بالرسالة وهذا عقل راجح ، وهي لم تسلم ، وقالت له : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ومَن وافدُك ؟ الوالد معروف حاتم الطائي ، الوافد من ؟ قالت : عدي بن حاتم ، الوافد الذي يمكن أن يأتي إليك ليفتديني ، هرب ، فقال عليه الصلاة والسلام : الفار من الله ورسوله ، ثم مضى ، وتركها صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم بشيء ، فلما كان الغد مر بها ، فقالت له مثل قولها بالأمس ، وقفت ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، قال : من الوافد ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، ثم تركها ومضى ، فلما كان بعد الغد مرَّ بها ، وقد يئست فلم تقل شيئاً ، وكان وراء النبي رجلٌ أشار لها من خلفه أن قومي وكلميه كما كلمته بالأمس ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، وفي رواية أخرى أوسع قالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، لأنها شريفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكرموا عزيزَ قومٍ ذلَّ ، وغنيًّا افتقر ، وعالماً ضاع بين الجهال .
وبالمناسبة إنكم تعلمون أنه لا تجوز الزكاة أبداً لشخصين ، مَن هما ؟ لا تجوز الزكاة لغني، ولا لذي مِرّة قوي ، شاب مفتول العضلات يقدر أن يكسب رزقه ، لا تجوز الزكاة له ، وغني كذلك ، إلا في حالة واحدة ، إذا كان غنيًا ثم افتقر ، وشخص قوي البنية ولكنه بلا عمل ، فتجب له الزكاة من بيت مال المسلمين ، حفاظاً على مكانته ، نقول له اعمل حمَّالاً ، لا يجوز هذا ، له مكانة ، والنبي الكريم كان رحيماً .
قالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تُخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائب ، أنا بنت حاتم طيِّء .
هناك تعليق للنبي عميق جداً ، فقالت له : فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائبًا ، أنا بنت حاتم طيِّء، فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمْنا عليه ، معنى ذلك أنّ الإنسان قد يكون بعقل راجح جداً ، و بذكاء لامع ، قد يعمل أعمالاً طيبة فيثني عليه الناس بها ، و لكنها ليست طاعة لله عز وجل ، فرق كبير بين أن تكون كاملاً لتنتزع إعجاب الناس و بين أن تكون كاملاً لتتقرب إلى الله عز وجل ، الأول سلوك اجتماعي ذكي ، أمّا الثاني فهو عبادة ، و السلوك الاجتماعي الذكي تحصل ثماره في الدنيا فقط ، لكن العبادة تحصل نتائجها في الدنيا و الآخرة معاً .
فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خَلُّوا عنها ، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق .
لقد رحم أباها ، لأنه كان سيد قومه ، و رحم شرفها ، إلا أنه أشار عليه الصلاة والسلام ، إلى أن السلوك الاجتماعي الذكي شيء ، والعبادة شيء آخر .
ومرةً ذكرت ذلك في موضوع الأمانة ، أنك استقرضتَ مائة ألف ، ووقعت سندًا ، وأديته في وقته ، يا أخي أنا أمين ، لا ، لست أمينًا ، ليست هذه هي الأمانة ، أنت موقع على سند ، وخصمك مُرٌّ ، وإذا لم تدفع شهَّرَ بك ، وأقام عليك دعوى ، وحجز على أموالك ، وأخذ منك المبلغ عنوة في المحاكم ، وأنت حينما دفعت هذا المبلغ دفعته طلباً للسلامة ، وحفاظاً على مكانتك وسمعتك ، الأمين رجل أعطاك مائة ألف في سيارة ، ثم وقع حادث في هذه السيارة ، ومات في هذا الحادث ، ولم يعلم أحد في الدنيا كلها بهذا المبلغ ، لا شركاؤه ، ولا ورثته ، ولا أيّ إنسان كائنًا من كان ، وليس في الأرض كلها من يطالبك به ، ولا من يُدِينُك به ، فتوجهتَ بمحض اختيارك إلى ورثته ، ونقدتهم هذا المبلغ ، هذه هي الأمانة دفعت هذا المبلغ إرضاء لله عز وجل.
والإنسان أحيانا يأخذ موقفًا رحيمًا ، وهو ليس رحيماً ، يأخذ موقفًا عادلا ، وهو ليس عادلاً ، هذا سلوك ذكي تمليه عليه مصلحته ، وبهذه الطريقة نفسر كل ما عند الأجانب الكفار من تصرفات تعجبنا ، يا أخي أخلاق المسلمين ، لا ليست أخلاق المسلمين ، ولكنهم أذكياء جداً ، وهكذا تقتضي مصالحهم ، أما إذا أردت أن ترى وحشيتهم فاستمع إلى الأخبار ، يبحثون عن حقوق الحيوان ، مستشفيات للحيوانات ، وقيود نفوس للحيوانات ، ألبسة خاصة للحيوانات ، ومكان تسوُّق خاص للحيوانات ، ولحوم خاصة للحيوانات ، وما حالُ بني البشر الذين تذبحونهم ؟ وما موقفهم من شعوب العلم الثالث ؟ ظلم ، ونهب ثروات ، واضطهاد واستعباد وقتل وتشريد ، على حدِّ قول مضن قال :
***
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب أمن مسألة فيها نظر
***
الحمد لله الآن أصبح كل إنسان يرى وحشية الأجانب ، يرى انحيازهم لضلالهم ، ويرى قسوتهم ، ويرى وحشيتهم ، وتعصبهم ، وحقدهم ، وهذا شيء يراه كل إنسان رأي العين.
فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أي يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خلُّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ارْحَمُوا ثَلاَثَةً : عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال *
(كنز العمال عن أنس)
قد تكون في المطار ، ورأيتَ رجلاً تعرفه من أهل العلم ، جالس بين السياح ، ضائعًا بينهم، غير معروف ، فإذا سلمت عليه باحترام ، وأكرمته بمكان خاص فقد عملت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارْحَمُوا ثَلاَثَةً : عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال *
(كنز العمال عن أنس)
وامتن عليها بقومها ، فأطلقهم جميعاً تكريماً لها ، هذه ضربة معلم ، بالتعبير الدارج ، والآن ترون أنّ الإنسان عبدُ الإحسان ، فاستأذنته بالدعاء ، فأذن لها ، وقال لأصحابه : اسمعوا ، وعوا، فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردِّها عليه .
أحيانا تخدم إنسانًا فيرفس ويجحد ، وقد تخدم إنسانًا ، ويكون كريمًا فلا ينسى لك هذا المعروف طوال حياته ، اللهم ارزقنا العمل الصالح مع الكرماء .
يقول سيدنا علي والله والله مرتين : لحفر بئرين بإبرتين ، فهل هذا يكون ؟ بئر ارتوازية عمقها تسعون مترًا تُحفَر بإبرة ، وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين ، صحراء كلها رمال أيمكن هذا بريشة طائر ؟! ونقل بحرين زاخرين بمنخلين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ، عشر مرات بالليفة الخشنة ، ويبقى أسود ، قال : أهون عليَّ من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين .
سيدنا عليٌّ سئل : ما الذل ؟ قال : أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده .
أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردها عليه .
قال : فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي ، وهو بدومة الجندل ، قالت له : يا أخي ايتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ، فإني قد رأيت هدياً ورأياً يغلب أهل الغلبة ، ورأيت خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، ولا رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فلسَابِقِ فضله ، ألحقْ نفسك ، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه ، لقد أقنعت أخاها عدي بن حاتم أن يذهب إلى النبي ، هو نسيها ، ولولا أنه نسيها لبقي على عداوته للنبي طوال حياته ، لكن نسيها ، وما أنساه إياها إلا الله لحكمة أرادها .
لما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : خلوا سبيلها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق ، والآن اسمعوا دقة موقف النبي ، قال لها : يا جارية إلى أين تريدين أن تذهبي ؟ قالت : أريد اللحاق بأهلي في الشام ، فقال : ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ، ليبلغك بلاد الشام ، فإذا وجدت الثقة فأعلميني ، وكأنها ابنته لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام سألت عن الرجل الذي أشار إليها أن تكلمه فقيل لها إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : يا رسول الله لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ ، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنحها ناقة تحملها ، وأعطاها نفقة تكفيها ، وأطلق سراح قومها كلهم إكراماً لها ، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به ، كي يبلغها أهلها بسلام ، فخرجت مع الركب .
فلْنعُدْ إلى عدي بن حاتم في بلاد الشام ، وهو هارب ، قال عدي : ثم جعلنا بعد ذلك نتنسم أخبارها ، ونترقب قدومها ، ونحن لا نكاد نصدق ما روي لنا من خبرها مع محمد ، لقد كان يتوقَّع قتلها ، وعلمتُ إحسانه إليها كل ذلك الإحسان ، على ما كان مني اتجاهه ، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا ، فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ، فلما وقفت علينا بادرتني بقولها القاطع الظالم ، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك ، فقلت : أيْ أُخَيَّة لا تقولي إلا أنْ تقولي خيراً ، وجعلتُ أسترضيها حتى رضيت ، وقصَّتْ علي خبرها ، فإذا هو كما تناهى إليَّ ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة عاقلة : ما ترين في هذا الرجل ، يعني محمداً ، قالت : أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن نبياً فلسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل عنده ، وأنت أنت ، وعلى الحالتين الذهاب إليه غنيمة ، فإذا كان نبياً فأنت من السابقين ، وإذا كان ملكًا فلن تذلَّ عنده ، وديننا كله مكارم أخلاق صريحة ، طلبوا تصريحًا من الحجاج ، على أنه لم يحج أحدُهم قبل العام هذا ، ثم فوجئا أن حجاجًا كثيرين حجوا من قبل، وكتبوا تصريحات كاذبة ، الآن سوف يعودون إلى سجلات الحجاج لعشر سنوات سابقة ، ويحصون كل من ذهب إلى الحج سابقاً ، وسيواجه الكاذبُ مشكلة كبيرة بعد عودته ، ويقولون أيكون الحاجُّ كاذبًا ؟ هذا لا يصح ، أنت حاج ذاهب إلى عبادة ، والإسلام كله مكارم أخلاق ، والإسلام كله صدق وأمانة وأخلاق واستقامة .
قال عدي : فهيأت جهازي ، ومضيت حتى قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرتُ لكم في بداية الدرس أننا في أمس الحاجة إلى هذه القصة ، ولقد حانت المناسبة لسماعها .
قال عدي : فهيأت جَهازي ومضيت حتى قدمت إلى عند رسول الله ، لا تقل : جِهازي - بكسر الجيم - صوابها جَهازي - بفتح الجيم - ، قال تعالى :
(سورة يوسف ، الآية 59)
فهيأتُ جَهازي ، ومضيتُ حتى قدمتُ إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير كتاب ولا أمان ، وكان عديّ بن حاتم يتصور أن يقتله النبي ، فلما سمع من أخته ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قال : ذهبت إليه بلا كتاب ولا أمان ، وكان بلغني أنه قال : "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي" ، نتعاون ، وقد بعث له بهذا الخبر ، "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي"، فدخلت عليه وهو في المسجد ، فسلمت عليه ، قال : من الرجل ؟ قلت : عدي بن حاتم ، فقام إلي ، وأخذ بيدي ، وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لماضٍ بي إلى البيت إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة ، ومعها صبي صغير ، فاستوقفته ، وجعلت تكلمه في حاجة لها ، فظل معها حتى قضى حاجتها ، وأنا واقف ، وكانت أخته قد خاطبته : يا نبي ، ولم تقل : يا ملِك ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بملِك ، ثم أخذ بيدي حتى أتينا منزله ، منزل من ؟ منزل النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تأخذه إلى بيتك فهذا منتهى الإكرام ، قال في إحدى المقامات : السوق أقرب ، والطعام أطيب ، هذه درجة ثانية ، أما إلى البيت فهذه درجة أولى ، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً ، فألقاها إليَّ ، وقال : اجلس على هذه ، فاستحييت منه ، وقلت : بل أنت تجلس عليها ، قال: بل أنت ، فجلستُ عليها ، وجلس رسول الله على الأرض ، إذْ لم يكن في بيته سواها ، سوى وسادة واحدة من أدم محشوة ليفًا ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم التفتَ إليَّ وقال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تكن ركوسياً تدين بدين بين النصرانية والصابئة ؟! قلت بلى ؛ قال : ألم تكن تسير في قومك بالمرباع ، تأخذ ربع أموالهم ، فتأخذ منهم ما لا يحل لك في دينك ، فقلت: بلى ، وعرفت عندئذٍ أنه نبي مرسل ، يعلم ما نجهل ، ثم قال لي - الآن دققوا ، الآن الوضع نحن في أمس الحاجة إليه - لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، إذا رأيت إخوانك كلهم فقراء ، والأغنياء ليسوا في المسجد ، الأغنياء في النوادي والفنادق والملاهي، فلا تنكمش ، فإخوانك كلهم فقراء ، لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم ، فأينما ذهبتم فأعداء المسلمون شرسون .
فوالله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن المُلْك والسلطان في غيرهم ، فهم ضعاف ، والقوة بيد أعدائهم ، والأسلحة الفتاكة في يد أعدائهم ، والتكنولوجيا بيد أعدائهم ، وكذلك المصارف والجامعات والأبحاث الراقية جداً ، وايمُ الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم ، فقلت : كنوز كسرى ؟ قل لواحد في اليمن ستسكن البيت الأبيض مثلاً ، يقول لك : هذا الكلام مستحيل ، هذه النسبة نفسها ، قلت : كنوز كسرى ؟! قال : نعم كنوز كسرى ، قال عدي : عندئذ شهدت شهادة الحق ، وأسلمت .
عُمِّرَ عدي طويلاً ، وكان يقول : لقد تحققت اثنتان ، وبقيت الثالثة ، وإنها والله لا بد كائنة ، فقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً ، حتى تبلغ البيت ، وكنتُ في أول خيل أغارت على كنوز كسرى ، هو نفسه وأخذتها ، وأحلف بالله لتجيئَن الثالثة ، ولقد شاء الله أن يحقق قول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فجاءت الثالثة في عهد الخليفة الزاهد العابد عمر بن عبد العزيز ، حيث فاضت الأموال على المسلمين حتى جعل مناديه ينادي : من يأخذ أموال الزكاة ، من فقراء المسلمين ، فلا يجد أحداً ، سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يجد فقيرًا يعطيه الزكاة ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، وبرّ عدي بن حاتم بقسمه .
لا تنكمش أيها الأخ عن التوبة إلى الله أنْ ترى المؤمنين ضعافًا ، أو فقراء أو أمرهم بيد عدوهم ، لكنَّ الله معهم ، وسينصرهم إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين
***
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية