الدرس 48/50 ، سيرة الصحابي : أبو ذر الغفاري ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الثامن و الأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم ، وصحابي اليوم هو سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَالْحَاسِدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ نَعَمْ فَاعْرِفُوهُ لَهُ * وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام *
(رواه الترمذي)
وبالمناسبة فإن شهادة النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه شهادة حق ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، ولأنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف المحاباة والمديح ، ولأنه الإنسان الكامل ، فإذا مدح صحابياً يمدحه بما فيه ، ولا ينطق عن الهوى أبداً ، إن هو إلا وحي يوحى .
لذلك هؤلاء الذين سعدوا بوصف الني عليه الصلاة والسلام لهم هم سعداء حقاً ، كيف لا، وقد قال الله عز وجل عن أصحابه الكرام رضي الله عنهم ورضوا عنه :
(سورة الفتح ، الآية 18)
ويا أيها الإخوة الكرام ، والله الذي لا إله إلا هو ما في الأرض شيء - بكل ما في هذه الكلمة من معنى - أثمنُ من أن يرضى الله عنك ، و لو كنت معذباً ، و لو كنت فقيراً ، ولو كنت مضطهداً ، ولو كنت ضعيفاً ، و لو كنت تعاني ما تعاني ، ولو كنت في أدنى درجة السلّم الاجتماعي ، فإذا رضي الله عنك فأنت أسعد الناس .
لذلك فالذي قال :
***
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غِضابُ
وليت الذي بيني و بينك عامر وبيني وبين العاليمن خَرابُ
***
واللهِ لقد صدق .. لكنه لِمن ذاق طعم الإيمان ، وذاق طعم القرب ، وذاق طعم الرضى، وذاق طعم أن يشعر الإنسان أن الله يحبه ، وأن خالق الكون يرعاه ، ويحمه ، ويدافع عنه ، ويجعل له وُدًّا ، قال عزوجل :
[سورة مريم]
الإنسان أحياناً يملأ الدنيا إذا كانت له صلة مع شخص مهمٍّ ، وإذا كانت معه صورة له.. فيا لطيف ، يضعها في جيبه دائمًا ، وكلما التقى بإنسان يقول : كنا البارحة معًا في سهرة .. لعله إنسان لا قيمة له عند الله أبداً ، فكيف إذا كانت لك مودة مع خالق الكون .
على كل ؛ وكما كنت أقول هذا لكم كثيراً : مهما يكن وضعك الصحي ، أو الاجتماعي أو الاقتصادي ، أو العلمي ، أو الطبقي ، أو العرقي ، فلا شيء يحول بينك وبين أن تكون بطلاً عند الله عز وجل .
لا شيء ، من أي منبت كنتَ ، من أي مشرب ، من أي طبقة ، من أي عرق ، من أي جنس ، من أي أمة ، من أي لون ، من أي شكل ، من أي وراثة ، من أي أسرة ، من أي منطقة ، أبداً .. لأن هذا الدين دين الله عز وجل ، وليس هناك عقبة إلا منك ، أمّا عقبة من منبتك ، أو من عرقك ، أو من محيطك ، فهذا لن يضيرك ، هذا هو الحق ، لذلك ترون مِن الصحابة مَن هم في قمم النسب القريشي ، ومن الصحابة من هم دخلاء على قريش ، فسلمان وبلال وصهيب دخلاء على قريش ، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ *
(الطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك عن عمرو بن عوف)
النبي عليه الصلاة والسلام ألغى النسب كله ، قال : أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً، هذا هو الإسلام ، وما سوى ذلك جاهلية ، فأيُّ إنسان يعتد بنسبه إن لم يكن مستقيماً فلا شأن له ، لكن النسب مع الاستقامة فهو على العين والرأس ، تاج يُتوَّج الإنسان به ، أما نسب بلا استقامة فكلام فارغ ، قال تعالى :
[سورة المسد]
هذا شعار من يفتخرون بالأنساب دون أن يستقيموا على أمر الله ، قال تعالى :
[سورة المسد]
فأيُّ إنسان يعتد بأسرته ، بوسامته ، بذكائه ، بقومه ، بأمته فهو اعتداد أعمى .. إنْ لم يقدم شيئًا يرفعه ، فهذا سلوك جاهلي ، وتفكير جاهلي ، ونمط جاهلي ، فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ *
(متفق عليه)
كل إنسان عنصري فهو جاهلي ، كل إنسان يحابي إنسانًا لا لأخلاقه ، ولا لعلمه ، ولكن لنسبه ، أو لاتصاله بقومه ، أو لعشيرته ، أو أسرته فهو إنسان جاهلي عنصري ، لذلك في هذا الدرس ترون أن هذا الصحابي الجليل كان من أطراف المدينة ، وادٍ من الوديان التي تصل مكة بالعالم الخارجي .
وتعرفون الوديان ممرات إجبارية ، فهناك وادٍ يعد ممراً إجبارياً بين مكة والعالم الخارجي ، في هذا الوادي الذي اسمه " ودان " كانت تنزل قبيلة غفار ، وقد تسألون لماذا في الوادي ؟ لأن الوادي مسيل الماء ، وفي قعر الوادي قد تتجمع المياه ، وقد ينبت الكلأ ، لذلك هذه القبيلة ، قبيلة غفار كانت تنزل في قعر الوادي الذي يصل مكة بالعالم الخارجي ، يعني على الطريق ، وكانت غفار قبيلة فقيرة جداً ، تعيش من ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل ، أيْ تعيش على فتات القوافل .
فقد تلاحظون على الطرقات أحيانا من يمدُّ اليد ، على الطرقات من يمسح لك زجاج السيارة ، يقول لك : من مال الله ، قبيلة فقيرة إلى درجة غير معقولة ، تقبع في واد يُعد طريقاً إجبارياً من مكة إلى العالم الخارجي ، فكانت تعيش على فتات القبائل ، وربنا سبحانه وتعالى نوَّع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم الغني ومنهم الفقير ، فمنهم القريب ومنهم البعيد ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي ، ومنهم الذكي ومنهم الأقل ذكاءً ، ومنهم ذو العشيرة ومنهم من كان دخيلاً على مكة .
إذاً كانت هذه القبيلة تعيش على ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل التي تسعى بتجارة قريش ، ذاهبة إلى بلاد الشام أو آيبة منها .
وربما عاشت هذه القبيلة على قطع الطريق على هذه القوافل ، أيْ قبيلة قطاع طرق ، وكلمة قطاع طرق تُعد وصمة عار في حق الإنسان ، قاطع الطريق ، فالمجرم الصعلوك الذي ليس له عمل ، والذي لا قيم تضبطه ، ربما كان قاطع طريق .
وكان جندب بن جنادة المكنى بأبي ذر واحداً من أبناء هذه القبيلة .
صحابي اليوم الذي هو سيدنا أبو ذر الغفاري ، كان واحداً من هذه القبيلة التي تعيش في ذلك المكان ، وعلى فتات القوافل ، أو على قطع الطريق .
والإسلام أيها الإخوة يصبغ الإنسان ، وكنت أقول هذه الكلمة : لا يمكن أن يُضاف إلى كلمة مؤمن كلمة أخرى ، تقول مؤمن متحضر ، هذا كلام ليس له معنى ، المؤمن متضجر ، إذا قلت : مؤمن غير متحضر لم يكن معقولاً ، فالمؤمن متحضر .. قد يقال : مؤمن لطيف ، لا فالمؤمن بالأساس لطيف .. فأي كلمة تضاف إلى المؤمن كلمة باطلة ، لأن الإيمان يصبغ نفسية الإنسان بصبغة الكمال ، قال تعالى :
[سورة البقرة]
لكن هذا الصحابي الجليل كان يمتاز بجرأة القلب ، ورجاحة العقل ، وبُعْدِ النظر ..
اليوم زارني إنسان يتمتع بقدرات فكرية عالية جداً ، قلت له : إنّ النبي عليه الصلاة والسلام عجب ؛ لا من إسلام خالد ، ولكن عجب من تأخر إسلام خالد ، قال له : عجبت لك يا خالد !! العجب ليس من إسلامه العجب من تأخر إسلامه ! .. قال له : أرى لك فكراً ".
معناها الإسلام متوافق توافقاً تاماً مع العقل ، كل من كان له عقل راجح يجب أن يستسلم لله عز وجل ، هذا التلازم بين العقل الراجح وبين التدين ، هذا تلازم ضروري ، وتلازم ثابت وحتمي ، فالنبي لما رأى سيدنا خالدًا ، وقد أسلم قبل عام الفتح بقليل ، قال له : عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً " .
إذاً سيدنا أبو ذر كان يمتاز بجرأة القلب ، ورجاحة العقل ، وبُعْدِ النظر ، وفطرته كانت تأبى أن يعبد الأصنام ، كان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي تُعبد من دون الله ، ويستنكر على قومه ، يستنكر فساد دينهم ، وتفاهة معتقدهم .
وكان عندنا درس للدعاة يوم السبت ، البارحة ، فأحد إخواننا الكرام ألقى محاضرة مِن مقرر تاريخ الأديان ، وفي هذه المحاضرة حديث عن الديانات في الهند ، وقرأ لنا مقتطفات من قول رجل راجح العقل هناك ، وله مكانة كبيرة جداً ، يفضل البقرة على أمه ، ويرى أن هذه البقرة يجب أن تُعبد من دون الله ..
فالإنسان حين يرى تفاهة عقل الآخرين ، فذاك الرجل له عقل راجح ، والدليل وصل إلى قمة المجتمع الهندي ، ومع ذلك حين تحدث عن دينه الهندوسي ، وتحدث عن البقرة ، وكيف أنها أفضل من أمه ، وقال : هو يرضع من أمه سنتين فقط ، لكنه يشرب الحليب البقري طوال حياته ، إذاً البقرة أفضل من أمه .
هذا ما سمعناه البارحة منقول بنصه الحرفي .
فكان أبو ذر رضي الله عنه يضيق أشد الضيق بقومه ، ويتطلع إلى ظهور نبي جديد ، يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور .
و الإنسان قد يبحث بهذا المجلس أو بذاك ، بهذا المكان أو بغيره ، ثم يقول لك : ما ارتويت ، عندي فراغ ما مُلِئ ، عندي حاجة عقلية ما ارتوت ، عندي تطلع ما وجدته ، إلى أن يهديه الله إلى جهة يرتاح لها تسد فراغ عقله ، و تسد حاجة نفسه .
سيدنا أبو ذر كان عنده فراغ ، كان عنده بحث دائم ، ثم تناهت إلى أبي ذر وهو في باديته أخبارُ النبي عليه الصلاة والسلام الذي ظهر في مكة ، وقال لأخيه أنيس : انطلق إلى مكة ، وقِفْ على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، وأنه يأتيه وحي من السماء ، واسمع شيئاً من قوله واحمله إلي .
ذهب أنيس إلى مكة ، والتقى بالنبي صلوات الله وسلامه عليه ، وسمع منه ، ثم عاد إلى البادية ، فتلقاه أبو ذر باللهفة ، وسأله عن أخبار النبي الجديد بشغف .
فقال : لقد رأيت واللهِ رجلاً يدعو إلى مكارم الأخلاق ، ويقول كلامًا ما هو بالشعر .
فقال : وماذا يقول الناس عنه ؟ .
قال : يقولون ساحر ، وكاهن ، وشاعر .
فقال أبو ذر : والله ما شفيت لي غليلاً ، ولا قضيت لي حاجة ، فهل أنت كافٍ عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره .
المعلومات غير كافية ، فأخوه ما شفى له غليلاً ، ولا قضى له حاجة .
قال : نعم ، ولكن كنْ من أهل مكة على حذر ..
انتبه ، لأن الرجل مُحارَب هناك ، فإذا علموا أنك جئته ربما قتلوك .
فتزود أبو ذر لنفسه ، وحمل معه قربة ماء صغيرة ، واتجه من غده إلى مكة يريد لقاء النبي عليه الصلاة والسلام ، والوقوف على خبره بنفسه .
بلغ أبو ذر مكة المكرمة ، وهو متوجس خيفة من أهلها ، فقد تناهت إليه أخبار غضبة قريش لآلهتهم ، وتنكيلهم بكل من تحدثه نفسه باتباع محمد ، لذا كره أن يسأل أحداً عن محمد، لأنه ما كان يدري أيكون هذا المسؤول من شيعته أم من عدوه ؟ لا يعرف .
ولما أقبل الليل اضطجع في المسجد ، فمر به رجل هو سيدنا علي بن أبي طالب ، فعرف أنه غريب ، فقال : هلم إلينا أيها الرجل ، فمضى معه ، وبات ليلته عنده ، وفي الصباح حمل قربته ومزوده ، وعاد إلى المسجد دون أن يسأل أحدًا عن شيء .
أحياناً أيها الإخوة قد يوجه الإنسان أسئلة محرجة ، كأنْ يمشي مع شخص ، يقول له : أراك هنا ، نعم أين ذاهب ؟ .. لا تحرجه ، ربما لا يحب أن يقول أين هو ذاهب ، فكل إنسان يكثر الأسئلة ، يضيق على صاحبه ، فسؤالٌ وراء سؤالٍ وراء سؤالٍ .. انظر إلى كمال سيدنا علي ، رجل غريب ينام في المسجد ، أخذه إلى البيت ، وأضافه عنده ، و ما سأله عن اسمه ، ولا ممن هو ؟ ولا لمِ جاء إلى مكة ؟
ثم قضى أبو ذر يومه الثاني دون أن يتعرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى أخذ مضجعه من المسجد ، فمر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له ، أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟ .
ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته الثانية ، ولم يسأل أحدٌ منهما صاحبه عن شيء .
فلما كانت الليلة الثالثة ، قال علي لصاحبه : ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة ؟ فقال أبو ذر : إن أعطيتني ميثاقاً أن ترشدني إلى ما أطلب فعلت ، فأعطاه عليٌّ ما أراد من ميثاق .
فقال أبو ذر : لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد ، وسماع شيء مما يقوله .
فانفرجت أسارير سيدنا علي ، وقال : والله إنه لرسول الله حقاً .
هذه على حد قوله تعالى :
(سورة طه)
هذه اللقاءات العابرة ، اللقاءات التي يظن أنها صدفة ، فليست هي صدفة ، ولكنها بقدر.
[سورة الأنفال]
[سورة طه]
فالله عز وجل علم صدقه ، فجمعه بصاحبي جليل ، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال : والله إنه لرسول الله حقاً .. وإنه وإنه وإنه .. وحدثه عن النبي ، فإذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت ـ انظر الذكاء ـ قال له : سر ورائي ، فإن رأيت شيئاً أخافه عليك ، وقفتُ كأني أريق الماء - اتفقوا على إشارة - فإن رأيت شيئاً أخافه عليك وقفتُ كأني أريق الماء ، فانتبه وارجع ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل معي ، فلم يقر لأبي ذر مضجعه طوال ليلته شوقاً إلى النبي ورؤيته ، ولهفة إلى استماع شيء مما يوحى إليه .
وفي الصباح مضى عليٌّ بضيفه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومضى أبو ذر وراءه يقفو أثره ، وهو لا يلوي على شيء ، حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم .
يقولون : إنّ أول صحابي سلَّم على النبي بسلام الإسلام هو أبو ذر الغفاري ، أما كان راجح العقل ؟! بلى ، حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : السلام عليك يا سول الله .
ولنا هنا كلام جميل ، فحين يتكلم الإنسانُ فإمّا أنْ يعلو أو يسقط ، قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
***
وكائِنْ ترَى مِنْ صَامِتٍ لكَ مُعجِبٍ زِيادَتُهُ أوْ نَقصُهُ فِي التّكَلُّمِ
***
السلام عليك يا رسول الله .
سيدنا عمر كان مرةً ماشيًا في الطريق ، فقال : السلام عليكم يا أهل الضوء ولم يَقُلْ السلام عليكم يا أصحاب النار .
يعني اللغة شيء ثمين ، مرة منشئ الأخبار صاغ الخبر التالي : يُسمح باستيراد العلف للمواطنين ، هذا غلط ، يجب أن يقول يُسمح للمواطنين باستيراد العلف .
قال له : السلام عليك يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليك سلام الله ورحمته وبركاته .
كان أصحاب النبي إذا مشوا معاً ، وفرقت بينهم شجرة ، فبعد الشجرة يلتقون ويقول : السلام عليكم .
والله أيها الإخوة ، ما من كلمة أمتع إلى القلب من " السلام عليكم " .
فعندما تقول : السلام عليكم ، يعني أنني إنسان خيَّر فلا تخف مني ، الإنسان عليه أن يكثر السلام ، حتى إذا دخل على أهل بيته ، حتى إذا دخل إلى محل ما فليبدأ بالسلام ، وَلْيُنْهِ لقاءه بالسلام .
كان أبو ذر أول من حيَّا الرسول بتحية الإسلام ، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك .
أقبل النبي عليه الصلاة والسلام على أبي ذر يدعوه إلى الإسلام ، ويقرأ عليه القرآن ، فما لبث أن أعلن كلمة الحق ، ودخل في الدين الجديد قبل أن يبرح مكانه ، فكان رابع ثلاثة أسلموا أو خامس أربعة .
بعض الصحابة يقولون : كنت في وقت وأنا ثلث الإسلام ، الثلث أي سبقه اثنان ، الآن أنت كم سبقكم من واحد ، ألف ومائتا مليون ، أنت واحد على ألف مليون و مائتي مليون ، سيدنا أبو ذر واحد على أربعة ، يعني حينما دخل في الإسلام كان رابع خمسة أو ثالث أربعة، و لنترك لأبي ذر الكلام ليقصَّ علينا بنفسه بقية الخبر .
قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فعلمني الإسلام ، وأقرأني شيئاً من القرآن ، ثم قال لي : لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة ، فإني أخاف عليك أن يقتلوك .
فقلت : والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد ، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والحقيقة التفسير سهل ، من شدة انبهاره بالدعوة ، من شدة سعادته بالإسلام ، فهل من المعقول أنّ في الناس مَن لا يعرف الإسلام ؟ فتطوع أن يخرج إليهم ، وأن يصرخ في وجههم بكلمة الحق .. مع أنّ النبي نصحه ألاّ يفعل .
قال : فجئت المسجد ، وقريش جلوس يتحدثون ، فتوسطتهم ، وناديت بأعلى صوتي ، يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً ، وهبوا من مجالسهم ، وقالوا : عليكم بهذا الصابئ ، وقاموا إليَّ ، وجعلوا يضربونني لأموت ، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكب عليَّ ليحميني منهم ، ثم أقبل عليهم ، وقال : ويلكم .. ويلكم ، أتقتلون رجلاً من غفار ، وممر قوافلكم عليهم ، انتبهوا .
انظر إلى الذكاء ، لو قال : أتقتلون إنسانًا مؤمنًا لقتلوه ، فهمْ يريدون قتله ، لكنّهم خاطبهم بلغتهم ، أحياناً الإنسان يُوفق ويخاطب الآخرين باللغة التي يفهمونها ، ليس بحكيم من خاطب أناساً بلغة لا يفهمونها ، أحياناً تخاطب إنسانًا قويًا ، و تقول : والله يجب أن تفعل هكذا ، ألاَ تخاف اللهَ ، فتقول : لا إنه لا يخاف الله ، إنه لا يخاف الله ، يظن الإنسان العاقل أنَّ أعظم شيء أن يخاف الإنسانُ من الله ، فالمتغطرس لا يخاف الله إطلاقاً ، فكل إنسان يجب أن يُخاطَب بلغة يفهمها ، وهذا من الحكمة .
قال : ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً ، جئت النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما رأى ما بي قال : يا أبا ذر ألم أنهك عن إعلان إسلامك ؟
فقلت : يا رسول الله كانت حاجة في نفسي فقضيتها .
فقال : الحقْ بقومك ، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت ، وادعُهم إلى الله ، لعل الله ينفعهم بك ، ويأجرك فيهم .
والإنسان مسؤول عن قومه ، وعن أسرته ، وعن أقربائه ، وعمن يلوذ به ، وهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام .
قال : فإذا بلغك أني ظهرت فتعال إليَّ ، ما معنى ظهرت ؟ يعني نصرني الله ، فتعال إليَّ ، الآن النبي مستضعف متخفٍّ .
قال أبو ذر : فانطلقت حتى أتيت منازل قومي ، فلقيني أخي أنيس ، فقال : ما صنعت ؟ قلت : لقد أسلمتُ وصدَّقتُ .
لقد ذهب أخوه مستطلعًا ، وذهب سيدنا أبو ذر فأسلم .
فما لبث أن شرح الله صدره ، وقال : مالي رغبة عن دينك ، فإني قد أسلمت وصدقت أيضاً.
ثم أتينا أمَّنا فدعوناها للإسلام ، والمرأة لها قيمة وشأن ، فهي أمٌّ وزوجة ، فقالت : مالي رغبة عن دينكما ، وأسلمتْ أيضاً .
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمنة تدعو إلى الله ، لا تكلُّ عن ذلك ، ولا تملّ منه ، حتى أسلم من غفار خلق كثير ، وأقيمت الصلاة فيهم .
ما معنى قوله تعالى ؟ :
(سورة النحل ، الآية 120)
أنت ممكن أن تكون أمة ، إذا كان عند الإنسان صدق شديد ، ودعا إلى الله يصبح وحده أمةً.
لكنّ فريقًا منهم قال : نبقى على ديننا ، حتى إذا قدم النبيُّ المدينة أسلمنا ، فلما قدم النبي المدينة أسلموا ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا ، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ، وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ *
(رواه مسلم)
وأسلم قبيلة أخرى أسلمتْ .
أقام أبو ذر في باديته حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ ، ثم قدم إلى المدينة ، وانقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنه أن يقوم في خدمته ، فأذن له ، ونَعِمَ بصحبته ، وسَعِدَ بخدمته ، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه ، فما لقيه مرةً إلا صافحة ، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
وأحياناً قد يضن الإنسانُ ببسمة ، يضن بإشراقة وجه ، يضن بمصافحة ، يضن بكلمة طيبة ، يضن بكلمة طيبة ، يضن بلفتة كريمة ، فيكون بخيلاً .
فالنبي عليه الصلاة والسلام كلما لقي أبا ذر كان يصافحة ، ويهشُ في وجهه ويبشّ ، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذر صبراً على الإقامة في المدينة ، بعد أن خلت من سيدها ، وأقفرت من هدي مجلسه ، فرحل إلى بادية الشام ، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعا .
وفي خلافة عثمان نزل في دمشق ، فرأى من إقبال المسلمين على الدنيا وانغماسهم في الترف ما أذهله ، ودفعه إلى استنكار ذلك ، فاستدعاه عثمان إلى المدينة ، فقدم إليها ، لكن ما لبث أن ضاق برغبة الناس في الدنيا ، وضاق الناس بشدته عليهم ، وتنديده بهم ، فأمره عثمان بالانتقال إلى الربذة ، وهي قرية صغيرة من قرى المدينة ، فرحل إليها ، وأقام فيها بعيداً عن الناس ، زاهداً بما في أيديهم من عرض الدنيا ، مستمسكاً بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية .
دخل عليه رجلٌ ذات مرة ، فجعل يقلب الطرف في بيته ، فلم يجد فيه متاعاً ، فقال : يا أبا ذر أين متاعكم ؟ فقال : لنا بيت هناك ، نرسل إليه صالح متاعنا ، ففهم الرجل مراده ، أنّه يعني الدار الآخرة ، وقال : ولكن لا بد لك من متاع ما دمت في هذه الدار ، فأجاب : ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه .
وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار ، وقال له : استعن بها على قضاء حاجتك ، فردها إليه ، وقال : أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني.
وفي السنة الثالثة والثلاثين للهجرة استأثرت يد المنون بالعابد الزاهد ، الذي قال فيه النبي صلوات الله عليه : " مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ - الغبراء الأرض ، والخضراء السماء - مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام *
(رواه الترمذي)
يعني أصدق مع ربه ، وأصدق في طلب الحق ، وأصدق في الزهد في الدنيا ، هكذا .
أردت من هذه القصة ذكرَ إنسان يعيش في وادٍ منقطع ،و تعيش قبيلته على قطع الطريق أحياناً ، وعلى فتات القوافل أحياناً ، يصبح سيدنا ، ويصبح صحابياً جليلاً ، ويصبح في أعلى قمم التقوى والصلاح .
مرةً ثانية ، أيّ وضع أنت فيه ؟ من أي انتماء أنت ؟ من أي عرق كنت ؟ من أي لون؟ من أي طبيعة ؟ من أي مستوى ؟ من أي أصل ، لا شيء في الأرض يمنعك من أن تكون مؤمناً وبطلاً قريباً من الحق .
والحمد لله رب العالمين .
***
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية