حكم تعامل المسلم مع البنوك الربوية في دار الكفر
إذا سافر رجل إلى أمريكا أو انجلترا أو فرنسا أو أوروبا أو أي دولة من دول الغرب، وهذا الرجل يعمل ومعه مال، ويريد أن يستثمر هذا المال، فهل يصح أن يضعه في البنوك الربوية هناك على أنهم أهل كفر ويستفيد بالفائدة منهم؟ وهل يصح أن يتاجر بالربا هناك مع أهل الكفر أم لا يصح؟ هذه المسألة ليست مجمعاً عليها في الجواز أو المنع، بل هي مسألة خلافية، فالخلاف فيها بين الجماهير من أهل العلم وبين الأحناف، أما الأحناف فقالوا: إذا دخل مسلم دار الكفر أو دار الحرب فيجوز له أن يتعامل مع الكفار بالربا، أي: يجوز أن يتعامل مع البنوك بالربا ويأخذ فوائد، واستدلوا على ذلك بأدلة من الأثر ومن النظر.
أما استدلالهم بالأثر فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ربا بين مسلم وحربي في دار الكفر) أو قال (لا ربا بين المسلم وبين الحربي في دار الكفر)، واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما قام بعدما خطب الناس وقال: (أيها الناس! إن ربا الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول ما أضع ربا العباس) ووجه الدلالة: أنهم قالوا: العباس كان قد أسلم بعد بدر، وحال كونه مسلماً في مكة كان يتعامل بالربا، والنبي صلى الله عليه وسلم تسامح له هذا التعامل في مكة لأنها دار كفر، ولم يعاتبه على ذلك، ولم ينكر عليه كسبه الربا مع أهل مكة.
أما استدلالهم من النظر فقالوا: الأصل في أموال الكفار الحل؛ لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا -وفي رواية حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك هذا هو الشاهد- عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) ووجه الدلالة من هذا الحديث هو مفهوم المخالفة، أيْ: فإن لم يفعلوا ذلك لا عصمة للمال ولا للدم، فإن قالوا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم، فهذه دلالة واضحة جداً على أن الأصل في أموال الكفار أن يكون حلالاً، إلا بقيد آخر وهو الإيمان، أو المعاهدة والأمان، والدليل على المعاهدة والأمان أنها تعصم المال والدم، قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ** [التوبة:29] فقالوا: إذا كان الأصل في مال الكفار الحل، فإنه يجوز للمسلم إذا ذهب إلى دار الكفر أن يتحيل عليهم ويأخذ العرض الربوي ولو كان فاسداً.
قال الشوكاني: وإن دخل المسلم دار الكفر بأمان أو بغير أمان، فله أن يأخذ هذا المال بعقد فاسد أو بعقد صحيح؛ لأن الأصل الحل.
أما الأحناف فقيدوا ذلك بأن يكون دخل بأمان، أي: دخل بالتأشيرة، ومعنى أنه دخل بأمان منهم أنهم أمنوه على نفسه وهو أمنهم على أنفسهم.
أما الجمهور فقالوا: لا يجوز بحال من الأحوال التعامل مع أهل الكفر في دار الحرب بالربا، وأدلتهم عامة في الأثر وفي النظر، أما أدلتهم من الأثر فقالوا: لعموم تحريم الربا، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ** [البقرة:278] أي: إن كنتم من المؤمنين فذروا ما بقي من الربا، ولم يذكر هنا مفهوم المخالفة وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم إن صحت هذه القاعدة، فقول الله تعالى ((وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) [البقرة:278] أي: سواء مع أهل الكفر أو مع أهل الإسلام.
وأيضاً عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا) وسواء من أهل الكفر أو من أهل الإسلام.
فهذه الأدلة التي تثبت حرمة الربا بالعموم يدخل فيها الحربي وغير الحربي.
ومن الأدلة التي استدلوا بها قولهم: الربا أصالة حرام على أهل الكفر، فكيف يستحله المسلم؟ وهذا الدليل من النظر والأثر، قال الله تعالى مبينا الانتقاد اللاذع على أهل الكفر من اليهود، قال فيهم {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ** [النساء:161] أي: أن أهل الكفر في دار الحرب قد نهوا عن الربا فكيف نتعامل معهم بالربا؟ والربا حرام عليهم أصالة فكيف يستحله المسلم؟ فمن باب أولى ألا يتقحم المسلم النار على بصيرة.
ومن النظر أيضاً قالوا: إن ما كان حراماً على المسلم في مكان فهو حرام عليه في كل مكان، فلا يصح أن يقال: إن الخنزير حرام عليه في مصر حلال عليه في الخليج، أو يقال: يحرم عليه الخمر في الخليج ويحل عليه مثلاً في المغرب، فما حرمه الله ليس معلقاً دون بلد، إلا أن تكون صفة من الصفات فننظر فيها، والحكم يدور مع صفاته.
إذاً نقول: الحرام حرام في كل الأحوال، سواء في أرض الإسلام أو في أرض الكفر، فلما حرم الله الربا نقول: التحريم على إطلاقه في أرض الإسلام وفي أرض الكفر.
أيضاً: من أدلتهم من النظر: قياس العكس، فلو دخل الكافر إلى بلد الإسلام بتأشيرة وبأمان من ولي الأمر، وجب على كل الرعية أن يحققوا هذا الأمان، ولا يجوز لهذا الكافر أن يتعامل مع المسلمين بالربا، ولا يصح ذلك بالإجماع، أما لو دخل المسلم دار الكفر فقد حرم عليه التعامل معهم بالربا بموجب الأمان، وإن كان الأصل فيه الإباحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك)، فإذا دخلت بأمان فلابد أن تؤمنهم على أموالهم وعلى أنفسهم، وهذا من باب الديانة
الراجح من الأقوال في حكم تعامل المسلم بالربا في دار الكفر
والراجح من القولين: هو قول الجمهور: أنه لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن يتعامل مع أهل الكفر بالربا في ديارهم، للأدلة الظاهرة الصريحة الصحيحة التي أثبتت حرمة الربا على العموم، فهي لا تفرق بين أرض وأرض ولا بين شخص وآخر