مُلَخَّص الأعذار المُبِيحَة لِتَرْك الجُمعة والجماعة [1]
أولاً: المرض:
فمَتى لَحِقتْ بالمريضَ مَشَقَّةٌ مِن ذَهابه للجُمعة أو الجماعة، أُبيحَ له عدم الحضور؛ لقولِهِ تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم ﴾ [التغابن: 16]، وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال: "لقد رأَيْتُنا وما يتخلَّف عنها - أي عن صلاة الجماعة - إلاَّ منافقٌ مَعْلوم النِّفاق، أو مريض، إنْ كانَ المريضُ لَيُؤتَى به يُهادَى بين الرَّجُلين حتَّى يُقامَ في الصف[2].
ثانيًا: مُدافعة الأخبَثَيْن (البَول والغائط):
يعني لا يصلي وهو يريد دخول الخلاء لقضاء حاجته، فعندئذٍ عليه أن يقضي حاجته أولاً، حتى يكون ذلك أدعَى للخشوع وحضور القلب في الصلاة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة بِحَضرة طعامٍ، ولا وهو يُدافِعُه الأخبَثان))[3]، ويُلاحَظ هنا أنّ كلمة: (لا صلاة) المذكورة في الحديث تعني: (لا صلاة كاملة)، بحيث إنه لو صلى وهو حاقن لا تبطل صلاته، ولكنها تصح مع الكراهة، واعلم أننا لم نقل هنا ببطلان الصلاة كما قلنا به في حديث: (لا صلاة لمنفرد دون الصف)، وذلك لأنه ورد في إحدى روايات حديث الأعرابي الذي بَالَ - أي تبول - في المسجد: أنه فعل ذلك بعد الصلاة، فدَلَّ ذلك على أنه صلى وهو حاقن، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة.
ثالثًا: حضور الطَّعام وهو مُحتاجٌ إليه (وذلك حتى لا ينشغل بالتفكير في الطعام أثناء الصلاة):
وقد تقدم الحديث: ((لا صلاة بِحَضرة طعامٍ))، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((إذا حضر العَشاء، فابدَؤوا به قبل أن تُصلُّوا المغرب))[4]. فيبدأ بالطعام حتَّى لو سمع الأذان أو الإقامة، فقد كان ابنُ عمر يَسْمع قراءة الإمام وهو يتعشَّى[5]، واعلم أنَّ الرُّخصة عامَّة؛ فله أن يأكل حتَّى يَشْبع، ولا يُقال له: كُلْ بِمقْدار أن تكسر جُوعك واشتهائك للطعام، وَلكنْ يُلاحَظ أنه يُشْتَرَط أن لا يتَّخِذ ذلك عادةً، بحيث لا يُقدِّم الطعام إلاَّ إذا قاربَت الإقامة؛ فإنَّ هذا متعمِّدٌ لترك الجماعة.
رابعًا: الخوف من ضياع ماله:
(كأن يخاف عليه من السرقة إذا ذهب للصلاة)، أو الخوف من فواته (كأن يأتي إليه مَن يُحضِرُ له البضائع والسِلَع وقت الصلاة)، أو الخوف من وقوع ضرَرٍ فيه (كأن يكون عاملاً في أحد الأفران، ويخشى من فساد الخُبز إذا ذهبَ للصلاة)، وذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن إضاعة المال.
خامسًا: التأذِّي بِنُزول المطر أو كثرة الوَحْل (الطِّين)في الطُّرقات:
وكذلك التأذي بالرِّيح الشديدة الباردة؛ ولِهَذا كان مُنادي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -يُنادي في اللَّيلة الباردة أو المطيرة: ((ألاَ صلُّوا في رِحَالكم))[6].
سادسًا: الخوف من ضياع المريض (كأن يخاف عليه من الموت إذا لم تأتِ إليه سيارة الإسعاف)، وكذلك ضياع الميت، وكذلك إذا خاف على نفسه الضرر:
كأنْ يكون بينه وبين المسجد كلبٌ عَقور، أو أن يكون الطريق إلى المسجد كله شوك، أو قِطَع زجاج، وليس عنده حذاء، أو يَخاف من سُلْطان ظالِم أن يَحْبسه، أو يُغَرِّمَهُ مالاً بظلم، أو يؤذيه، أو تفوته الرُّفقة الَّتي ترافقه في سفره، وكذلك مَن غلَبَه النُّعاس بحيث إنَّه لو صلَّى مع الجماعة لا يَدْري ما يقول.
سابعًا: أن يُطيل الإمام تطويلاً زائدًا عن السُّنة:
وذلك لأنَّالنبي - صلى الله عليه وسلم - لَم يُوَبِّخ الرجل الذي خرجَ من الصلاة خلفمعاذٍ بسبب إطالته، وقد ورد في بعض روايات الحديث: "أنَّ الرجل تنحَّى، فصلَّىوحده"[7]، وأمَّا إذا كان التطويل في حدود السُنَّة، فلا يَحلُّ له التخلُّف، وله أن يصلي في مسجد آخر لا يُطيل.
ثامنًا: النوم أو النسيان:
وذلك لما ثبت في الحديث: ((مَن نام عن صلاةٍ أو نَسِيَها، فلْيُصلِّها إذا ذكَرَها فذلك وقتها))[8].
تاسعًا: أكْل البصل أو الثُّوم:
وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أكل بصلاً أو ثُومًا، فلْيَعتزِلْنا - أو ليعتزل مسجدَنا))[9]، وهذا في الحقيقة يُمْنَع دفعًا لأذيته؛ وذلك لماثبتَ في الحديث تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمنعه، فقال: ((إنَّالملائكة تتأذَّى مما يتأذى منه بنو آدم))[10].
وعلى هذا؛ فهل يَجُوز أكْلُ البصل والثُّوم؟
الجواب:نعَم يَجُوز، لكنَّه إن قصَدَ بأكل البصل أو الثُّوم أنْ لا يصلِّي مع الجماعة، فهو آثِم بهذا القصد، وإن قصد به التشهِّي فلا إثم عليه، واعلم أنَّ المقصود بالبصل والثُّوم: الذيتظهر رائحته، لكنَّه متى ذهبَتْ هذه الرائحة بطبخٍ، - أو بأكْل بعض أعواد البقدونسونَحْوها -، فلا يُمنَع حينئذٍ من حضور الجماعة؛ وذلك لِما ثبتَ في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن كنتم لا بدَّ آكليهِمَا، فأميتوهماطبخًا))[11]، والله أعلم.
- ملاحظات:
1- اختلف العلماءُ فيمَن به بَخر، وهو مَن به رائحةٌ مُنْتِنَة تصدر من فمِهِ أو أنفِهِ: هل يُعذَر بترك الجماعة؟ وقد أفاد الشيخ ابن عثيمين عدمَ حضوره دفعًا لأذيته، ورجَّح الشيخالألبانِيُّ حضوره وعدم منعه، وَعَلَّلَ ذلك بأن البخر غير حاصل بسببه، بخلافالثُّوم والبصل، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
2- يُمنَع كذلك مِن حضور الجماعة: المُدَخِّن الذي تظهر رائحة السجائر أو غيرها مِن فمه فيتأذى منها المصلون، وذلك قياساً على آكل الثوم والبصل، لكنه إذا أزالَ هذه الرائحة بشيء يَمْضُغُهُ أو غير ذلك فلا مانع مِن حضوره، وكذلك إذا استطاع إزالة أي رائحة تُؤذي المصلين، وَجَبَ عليه إزالتها، كأن تكون رائحة جَوْرَبِيْهِ سيئة، فحينئذِ يخلع الجَوْرَبَيْن، ويغسل قدميه قبل الصلاة.
الاستخلاف في الصلاة:
إذا عرَضَ للإمام عارضٌأثناء الصَّلاة، وأراد لأجله الخروج من الصَّلاة؛ كأنْ يَذْكر مثلاً أنه مُحْدِث، فإنه حينئذٍيستخلف غيره من المأمومين ليتمَّ الصلاة بالناس.
استحباب تخفيف الإمام:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلَّى أحدكم بالناس، فليخفِّف؛ فإنَّفيهم الضَّعيفَ والمريضَ وذا الحاجة)[12]، وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "ما صلَّيتُ وراء إمام قطُّ أخفَّ صلاةً ولا أتَمَّ صلاةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"[13].
والمقصود بذلك أن يخفِّف، ولكن مع مراعاة إتمامالصَّلاة وأداء الأركان والواجبات باطمئنان؛ ولكن اعلم أن الإمام إذا أتى بصلاته موافقًا للسُّنة - كأن يقرأ في صلاة الجمعةبسورة الجمعة والمنافقين - فلا يكون عندئذٍ مُطوِّلاً؛ لأنه موافق للسُّنة، وكذلك لو قرأ في الفجر يوم الجمعة "الم تنزيل السجدة"، و﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ [الإنسان: 1]، فلا يكونُ مُطوِّلاً لأنه موافقٌ للسُّنة.
وعلى هذا؛ فيمكن أن نقول: التخفيف الموافق للسنَّة يكون على النحو التالي:
(أ) في الفجر:مِن ستِّين إلى مائة آية؛ مثل سُورَتَي السَّجدة والإنسان.
(ب) في الظُّهر: الركعة الأولى نحو ثلاثين آية، والرَّكعة الثانية نصفها، والثالثة والرابعة نصف الثانية (يعني 7 أو 8 آيات).
(جـ) في العصر: الركعة الأولى خمس عشرة آية، والثانية نصفها، والثالثة والرابعة نصف الثانية.
(د) في المغرب والعشاء: ماثبتَ في حديث معاذٍ أن النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقرأبعض السُّوَر، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ بـ ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴾، ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾.
واعلم أنه يَجُوز الزِّيادة عن هذا القَدْر أحيانًا؛ خاصَّة إذا كانت الجماعةُ مَحْصورة لا يَدْخُلها غيرهم - وكانَ معروفاً بين الناس أن هذا المسجد يُطِيل جداً -، وهم مُوافقون على هذه الزِّيادة، واعلم أن هذا التَّخفيف السابق هو الأَصْل فيموافقة السُّنة، ولكنَّه يَجُوز أيضاً أن يُخفِّف عن ذلك خاصة إذا حدث عارضٍ ما؛ وذلك لقوله- صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لأَدْخُل في الصَّلاة وأنا أريد أن أطيل، فأسمع بُكاء الصَّبِي، فأتجوَّز - يعني أخَفِف - في صلاتي؛ مَخافة أن أشقَّ على أمِّه))[14].
ملاحظات:
(1) يَجُوز للإمام وهو راكعٌ أن ينتِظر الدَّاخل؛ حتى يُدْرِك معه الرُكوعَ، وكذلك إذا كان فيالتشَهُّد فإنه يَجُوز له أن ينتِظر الدَّاخل؛ لكي يُدْرِك معه الصَّلاة قبل التسليم؛ بشرط أن لا يشقَّ بذلك على المأمومين أوبعضهم.
(2) إذا أطالَ الإمام إطالةً زائدة عن السُّنة، فحينئذٍ يَجُوز لِمَن شقَّ عليه من المأمومين أنينفرد عن إمامه، وأن يتمَّ صلاته لنفسه، ودليل ذلك ما ثبت عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: كان معاذُ بن جبَل يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ يَرْجع فيؤم قومَه، فصلَّى العشاء فقرأ البقرة، فانصرَفَ الرَّجل، فكأنَّ معاذًا تناولَ منه، فبلغ ذلك النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (فَتَّان، فتان، فتَّان)) (ثلاث مِرَار)، أو قال: ((فاتِنًا فاتنًافاتنًا))، وأمرَه بِسُورتين مِن أوسط المفصَّل[15]، وفي رواية مسلم: "فانحرفَ الرَّجُل، فسلَّم ثم صلَّى وحْدَه".
وقد اختلف العلماء:هل يقطع الاقتداء بإمامه فقط، ويُكمِل ما بقي من صلاته التي بدأها مع الإمام؟، أم يقطع الصَّلاة كلَّهاويبدأ صلاته من أوَّلِها؟ والجواب: له أن يفعل هذا، وله أن يفعل ذاك، والذي يترجَّح عند الشيخ عادل العزّازي أنهلا يقطع الصَّلاة كلَّها، بل ينوي المفارقة فقط، ويتمُّ ما بقي من الصلاة، ولا يعيدها من أولها.
حُكم الجماعة الثانية في المسجد: اختلفت آراء العلماء في جواز صلاة الجماعة بعد الجماعة الأولى في المسجد الذي له إمامٌ راتب، قال الشيخ عادل العزّازي: (والرَّاجح عندي: جوازُ الجماعة الثَّانيةفي المسجد؛ لما ثبتَ في الحديث عن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ وقد صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيُّكميَتَّجِرُ على هذا؟)) - يعني يُتاجر عليه، بأن يُزيدُ حسناته بالصلاة معه -، فقام رجلٌ فصلَّى معه[16]، وما ذهبتُ إليه من جواز الجماعة الثانية هو ما رجحتْه اللجنة الدائمة)[17]، وأما الجماعة الثانية في المساجد التي في طرق المسافرين، فقد اتفق العلماء على جوازها.
تنبيه هام: إذا وُجِدَتْ جماعتان تصليان في مسجد واحد، - وذلك بعد انتهاء الجماعة الأولى في المسجد -، وَكان كُلّ مِن الجماعتين لا تعلم بوجود الأخرى (كأن يكون المسجد كبيراً، أو تكون الجماعة التي بدأت أولاً منهم تصلي خلف عمود في آخر المسجد، أو غير ذلك)، ففي هذه الحالة يتم التنبيه على الجماعة التي بدأت مؤخَرَاً منهم حتى تخرج من الصلاة وتلتحق بالأولى، والله أعلم.
"التلخيص على مسؤولية الكاتب"