هل يعتبر الدم من النجاسات؟
ج : اختلف أهل العلم في ذلك :
القول الأول : المشهور عند أصحاب المذاهب الفقهية أن الدم نجس، وليس عندهم حجة، إلا أنه محرم بنص القرآن في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ**.
فاستلزموا من التحريم النجاسة كما فعلوا في الخمر ولايخفى ما فيه، لكن نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على نجاسته، وسيأتي الكلام في ذلك.
القول الثاني : بينما ذهب جماعة من المتأخرين منهم الشوكاني وصديق خان والألباني وابن عثيمين رحمهم الله إلى القول بطهارته لعدم ثبوت الإجماع عندهم.
س : بمـــاذا استـــدل أصحاب هذا القول ؟
1- أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم الدليل على النجاسة، ولا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل دمْ غير دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح ونحوها، فلو كان الدم نجسًا لبينه صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة إلى ذلك.
2- أن المسلمين ما زالوا يصلون في جراحاتهم، وقد يسيل منهم الدم الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بغسله، ولم يرد أنهم كانوا يتحرزون عنه تحرزًا شديدًا:
قال الحسن: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم.
3- وفي حديث الصحابي الأنصاري الذي قام يصلي في الليل، فرماه المشرك بسهم، فوضعه، فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دمًا.
قال الألباني رحمه الله : وهو في حكم المرفوع، لأنه يُستبعد عادة أن لا يطَّلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو كان الدم الكثير ناقضًا لبينه صلى الله عليه وسلم، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم من علم الأصول، وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفى ذلك عليه، فما هو بخاف على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فلو كان ناقضًا أو نجسًا لأوحى بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر لا يخفى على أحد. اهـ.
4- حديث مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صلى عمر وجُرحه يثعب دمًا.
5- حديث عائشة في قصة موت سعد بن معاذ قالت: لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فبينما هو ذات ليلة إذ تفجر كَلْمُه فسال الدم من جرحه حتى دخل خباء إلى جنبه، فقالوا: يا أهل الخباء ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فنظروا، فإذا سعد قد انفجر كَلْمُه والدم له هدير فمات
س : ما وجــــه الاستدلال على طهارة الدم من الحديث ؟
ج : لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه لا سيما وهو في المسجد كما أمر بالصب على بول الأعرابي.
س : ما حكم دم الحيوان المأكول اللحم ؟
ج : القول فيه كالقول في دم الآدمي من جهة عدم الدليل على النجاسة، فتستصحب البراءة الأصلية.
س : ما الذي يؤيد القول بطهارته ؟
ج : حديث ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد، فيضعه على كتفيه، فانبعث أشقاهم، فملا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا فضحكوا .... الحديث.
س : مــــا وجـــــه الدلالـــــة من الحديث على أنه ليس بنجس ؟
ج : لو كان دم الجزور نجسًا لألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه، أو خرج من صلاته.
وقد صح أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها ولم يتوضأ.
س : هل الاستدلال بأثر ابن مسعود صواب ؟
ج : قد يُنازع في الاستدلال على طهارة دم الحيوان، لأن ابن مسعود لم يكن يرى طهارة البدن والثوب شرطًا لصحة الصلاة، ويرى أنها مستحبة.
س : هل نُقل الإجماع في نجاسة الدم ؟
ج : قال ابن القيم في إغاثة اللهفان:
سئل أحمد: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: لا، الدم لم يختلف الناس فيه.
وقال مرة: القيح وضضضالصديد والمدة عندي أسهل من الدم. اهـ.
وقد نقل ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفاق العلماء على نجاسة الدم.
وكذا نقل هذا الاتفاق الحافظ في الفتح.
وقال ابن عبد البر في التمهيد:
وحكم كل دم كدم الحيض إلا أن قليل الدم متجاوز عنه لشرط الله عز وجل في نجاسة الدم أن يكون مسفوحًا فحينئذ هو رجس والرجس نجاسة وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس. اهـ.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن