وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشمس سراجا
...
سبحات المشاعر ~
بين لطف نور القمر الساجي
وألق الشمس المضيئة وتوهجها ..
والإبداع الإلهي في إنشاء السماوات السبع
يقف البيان متحيراً ؟!
لا تسعفه الحروف مهما حاولت أن تفتق كلمات الشعور
فيظل السحر مأسوراً في قلب المشاعر
وتظل الروح حائمة في سماوات القلب...
هائمة بين جلال الشمس وجمال القمر ..
ترتل آيات التسبيح ..بأعذب الكلمات ..وترتقي.
كلما شدّها الأفق .. بجاذب مغناطيسي تراها تنجذب
دون إرادة..
كل سحر الكون يجتمع في ( لحظة )
واللحظة حينما تخطف القلب يغيب فيها
فتكون هي الحياة تجمعت في نقطة اللازمان واللا مكان
بل هي كل الزمان والمكان ..
ربما يدعونها ( التجلي ) عالم ينكشف للبصيرة في الأفق ..
ثم كلمح البصر يختفي ..
فما القمر كالقمر الذي تعودنا أن نراه ،
ولا السماء كالسماء التي نشهدها كل يوم .
ولا عسجد الشمس المصفى كموجة حرير ..
كشمس قيظنا
ونعود بعد تحليقة أشواق علوية ..
وعبارات القلب الصوفية ..إلى الأرض !.
لعلها لحظة نعيم فتح فيها باب إلى الجنة تشويقاً وتنبيها
وحين يغلق الباب ، وتعود الروح خلف قضبان الجسد
يسارع القلب المأخوذ باللحظة فيغمس بيانه في
عذوبة الشعور ..ليتذوقها القلم وتسكبها الحروف ..
فلا يجد إلا القشور .. تعلن عجزه ...!!
سبحان الله ! وكيف يستطيع بشر أن يتعدى غلاف بشريته
ويترجم روحه السماوية المنطلقة بكلمات !.
***
لغة القرآن تفسر القرآن ..
قبل أن نخوض غمار اللغة ورد الشبهات الجاهلية
التي ورطت المتذاكين الجاهلين
أحببت أن يتصدر الحديث إعراب هذا الجزء من الآية الكريمة
والتي ركزت فيها الشبهة :
*( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا )*
جعل :فعل ماضي فاعله مستتر
القمر : مفعول به أول
فيهنّ : حال و نوراً: مفعول به ثاني .
***
وقفات بيانية عند الآيات ، ورد الشبهات:
هي هاتين الآيتين الكريمتين
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا )١٥/ ١٦ نوح
جاءت الآيات على لسان نوح يضرب بها مثلاً على قدرة الله تعالى
***
ولم يكن من السهل الوقوف عندها وتفسيرها بقلمي القاصر ..
فالمسألة أكبر من جمال الظاهر ..
وكان لابد من البحث والتقاط فقرات من بحوث العارفين
وتلخيص بعضها ، وأخذ الواضح منها للقارئ، وتبسيطها ،
وترك الغوص في بحر اللغة ..
فكنا نسبح في الوسط بين السطح والقاع ... !
***
والأسئلة المثارة هي :
هل حقاً ينير القمر السماوات السبع الطباق ؟!
وماذا عن الشمس المعطوفة عليه؟
هل هي أيضاً تضيء الطبقات السبع؟
والجواب أن تلك حقيقة ذكرها القرآن
ويتسع الزمان لتفسيرها كلما استجد جديد في العلم
ولن تتصادم مع الحقائق المنطقية والعلم الصحيح أبداً
مهما اكتشف ، بل تتسع وتفتح الأذهان المغلقة إلى وجوه الإعجاز .
***
وقبل كل شيء جاءت هذه الآية بلسان العرب ومعانيها
لاتثير جدلاً ولا شبهة إلا في نفس من كان جاهلاً
جاءت بلغة غنية بكنوز معانيها ، ركيزتها القرآن الكريم
الذي هو الاعجاز البلاغي بعينه.
***
الرد البلاغي على من وقع في الخلط يقول :
في معاجم اللغة ، وتفسير القرآن هناك قاعدة
تذكر (الكل )ويقصد ويراد بها( الجزء )
وهو من البلاغة المعروفة في اللغة العربية ..
**
يقول البغوي نقلاً عن الحسن البصري :
جعل القمر فيهن نوراً يقصد به ( إحدى ) السماوات السبع
وهي السماء الدنيا ..كما يقول أحدهم : أتيت بني تميم
وإنما زار بعضهم وليس كل بني تميم .
***
كما أن في اللغة العربية ما يسمى (تناوب معاني حروف الجر)
قد تأتي (في) بمعنى (مع).
قال قطرب : ( فيهنّ )بمعنى ( معهنّ )
أي : خلق القمر والشمس ( مع )خلق السموات والأرض
كما في قول امرىء القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده
ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
***
أما ابن عاشور المفسر اللغوي المعروف
يرى لـ (في) معنى آخر تقبله اللغة العربية فيقول:
اعتبار القمر من السماوات ـ أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة ـ
لأن ظرفية (في) تكون لوقوع المحوي في حاويه مثل الوعاء، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته،
كما في حديث الشفاعة: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها" ،
**
وقول النميري:
تَضوَّعَ مسكاً بطن نَعْمَانَ أنْ مشتْ به زينب في نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ
و(القمر) كائن في السماء المماسة للأرض،
وهي المسماة بالسماء الدنيا ، والله أعلم بأبعادها
هذا بالنسبة لمعنى (في)
أما المعنى الذي يفيده (نوراً) فنقول:
" نوراً " : في الآية جاءت نكرة بدليل حذف لام التعريف
ودليل التنوين آخرها، وتنكير (نوراً) يفيد
(( أن القمر نور من جملة أنوار كثيرة في السماوت (الكون)
وليس هو النور الوحيد)).
ولو كانت (النور) بأل التعريف لدل على أنها النور الوحيد
***
والآية الكريمة لم تخصص قمراً واحداً
والتركيب اللغوي المستعمل فيها لا يفيد الحصر ولا القصر،
فقوله تعالى
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)
غايته إثبات ( نورانية القمر)
دون التعرض لغيره من الأقمار بنفي ولا إثبات
مثال قول أحدهم : أنا أحب هذا الكتاب وتأثرت بما فيه
وليس معنى هذا انه لايحب غيره من الكتب ..
ولكن أشار إلى أحد الكتب التي أثرت فيه
وفي هذا المعنى
يقول ابن قدامة رحمه الله:
"مفهوم اللقب في أن يخص اسمًا بحكم ،
فيدل على أن ما عداه بخلافه ، أنكره الأكثرون،
وهو الصحيح؛ لأنه يفضي إلى سد باب القياس" .
***
سياق الآيات واضح التعلق بالمخاطبين من قوم نوح،
فقد كان عليه السلام يحاورهم، ويجادلهم بالتي هي أحسن،
ويستعمل معهم الآيات والبراهين الواضحات والمشاهدات
كي يقيسوا عليها ويعتبروا بها،
والآية الكريمة هنا في معرض سياق هذا الحوار،
فخاطبهم قائلا
(ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) .
وهؤلاء الأقوام لا يعلمون من الفضاء الفسيح أقمارا
سوى هذا القمر الذي يرونه ويشاهدونه،
ولم يكن من المناسب أن يحاججهم عليه السلام
بما لا يعرفونه من آيات الكون المنظور،
فاقتصر على ذكر القمر المعروف لكل الناس،
ودعاهم إلى الاعتبار بعظمة هذا الخلق
وجليل آياته على توحيد الله سبحانه ،
ونبذ كل ما يدعى من دونه.
ولو حدثهم عن أقمار عديدة في السماوات العلى
لارتد ذلك عليهم بمزيد من الكفران والطغيان..
وسيكيلون له التهم جزافا بالجنون والسحر ..
وحديث الخرافات ، ولما استطاع عليه السلام
أن يقيم لهم برهانا على ذلك
بحكم ذلك الزمن ، وحينئذ سوف تبطل حجته عليهم ،
وتزيدهم كفرا إلى كفرهم ؛
فكان الصواب الاقتصار على ذكر القمر الواحد.
***
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الألف واللام (أل) في كلمة (القمر) في الآية الكريمة
يراد بها الجنس ، أي جنس الأقمار
جعلها الله عز وجل نورا في السماوات،
وهذا يمكن أن يشمل القمر التابع للكرة الأرضية، وغيره من الأقمار.
**
يقول جمال الدين القاسمي :
" ليس القمر خاصا بالأرض،
بل للسيارات الأخرى أقمار
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) نوح: 16
فالألف واللام في الْقَمَرَ (للجنس ، لا للحصر)
كما في قوله تعالى:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ٤/ التين
والتفسير هنا وجدت فيه اتساعاً واقناعاً أكثر
حيث لايتطرق إلى التخصيص بل كما قال
جنس القمر دون ذكر عدده
ونحن نعرف أن القمر الذي يضئ السماء الدنيا واحد
بينما يتفاوت عدد الأقمار في كواكب المجموعة الشمسية
كما كشف العلم الحديث ..
***
وقد رأيت ان أذكر أعداد الأقمار لمزيد من الفائدة :
فبشكل عام تمتلك الأرض قمراً واحداً،
ويمتلك المريخ قمران،ويمتلك المشتري 67 قمراً،
ويتبع زحل 62 قمراً، ولأورانوس 27 قمراً،
ويمتلك نبتون 14 قمراً،
أما عطارد والزهرة فلا يمتلكان أي قمر
هذا عن المجموعة التابعة لشمسنا فقط
وتوجد في السماء الدنيا وحدها مجموعات شمسية أخرى
لايعلم عددها بالضبط إلا الله تعالى تكوّن المجرات ..
وتدور وفق نظام إلهي لاتحيد قيد أنملة كما يشاء الله
فسبحان الواحد الأحد، المبدع الصمد ..!
الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا فـ( لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر
ولا الليل سابق النهار ، وكل في فلكٍ يسبحون ).
منقول