وها هنا بحوث في باب القدر،
لأن هذا الباب كما قلنا في أول الكلام عليه
باب شائك مشكل :
المبحث الأول : لله - عز وجل - مشيئة، وله إرادة ومحبة
ووجه كون الله هو الخالق لهذه الإرادة والقدرة،
لأن الإرادة والقدرة وصفان للمريد والقادر خالقه هو الله،
وخالق الموصوف خالق للوصف، وبهذا اتضح الأمر وانجلى بأن أفعال الإنسان مخلوقة لله عز وجل .
قال الله تعالى : « ويفعل الله ما يشآء » سورة
إبراهيم 28
وقال تعالى : « الله يفعل ما يريد » سورة البقرة 253
أولاً : هل المشيئة والإرادة شيء واحد ؟
أم يفترقان ؟
الجواب : بل يفترقان .
ثانياً : هل الإرادة والمحبة شيء واحد، يعني أن الله إذا أحب شيئاً أراده، وإذا أراد شيئاً فقد أحبه ؟ أو يفترقان ؟
الجواب : بل يفترقان .
فعندنا ثلاثة أشياء : المشيئة، والمحبة، والإرادة،
وهذه الثلاثة ليست بمعنى واحد، بل تختلف .
المشيئة : تتعلق بالأمور الكونية سواء كانت محبوبة لله أو مكروهة له،
أي إن الله تعالى قد يشاء الشيء وهو لا يحبه، وقد يشاء الشيء وهو يحبه .
فالمعاصي كائنة بمشيئة الله،
وهو لا يحبها،
والفساد في الأرض كائن بمشيئة الله،
والله لا يحب الفساد،
والكفر كائن بمشيئة الله،
والله لا يحب الكفر .
فالمشيئة إذاً تتعلق بالأمور الكونية
فيشاء الله كوناً مالا يحبه وما يحبه .
المحبة : تتعلق بالأمور الشرعية،
فلا تكون إلا فيما يبيحه الله،
فالمعاصي غير محبوبة لله،
وأما الطاعات فهي محبوبة له سبحانه،
سواءً حصلت أم لم تحصل .
الإرادة : ولها جانبان :
جانب تكون فيه بمعنى المشيئة، وجانب تكون فيه بمعنى المحبة،
فإذا كانت بمعنى المحبة
فهي الإرادة الشرعية،
وإذا كانت بمعنى المشيئة
فهي الإرادة الكونية .
وإذا كانت الإرادة شرعية وهي التي تكون بمعنى المحبة، فإنه لا يلزم منها وقوع المراد
مثل قوله تعالى : « والله يريد أن يتوب عليكم »
سورة النساء 27
فهذه إرادة شرعية بمعنى المحبة،
لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لوقعت التوبة على جميع الناس،
ونحن نشاهد أن من الناس من يتوب ومنهم من لا يتوب .
وأما الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة فيلزم فيها وقوع المراد،
فإذا أراد الله شيئاً كوناً وقع ولابد وهذه الإرادة كالمشيئة، تكون فيما يحبه
وفيما لا يحبه،
لكن إذا أراد الله شيئاً بهذا المعنى وقع ولا بد،
مثل قوله تعالى : « ولكن الله يفعل ما يريد »
سورة البقرة 253
فإنه كقوله : « ويفعل الله مايشاء » سورة إبراهيم 28
سواء بسواء
ومثل قوله : « إن كان الله يريد أن يغويكم »
سورة هود 34
فإنها بمعنى يشاء أن يغويكم،
وليست بمعنى يحب أن يغويكم،
لأن الله تعالى لا يحب أن يغوي عباده .
ويمكن أن تتفق الإرادتان
ـ الشرعية والكونية ـ
في حادث واحد،
مثل إيمان أبي بكر فهذا مراد لله شرعاً وكوناً، لأن الله يحبه فهو مراد له شرعاً،
ولأنه وقع فهو مراد له كوناً .
وتنتفي الإرادتان مثل ( كفر المؤمن )
فهو غير مراد لله شرعاً، لأنه يكرهه،
وغير مراد لله كوناً، لأنه لم يقع .
ومثال الإرادة الكونية دون الشرعية مثل
( كفر أبي جهل وأبي لهب )،
فقد تعلق بكفرهما الإرادة الكونية،
لأنه وقع الكفر دون الشرعية،
لأن الله لا يحب الكافرين .
ومثال الإرادة الشرعية دون الكونية ،
مثل ( إيمان فرعون ) فهو مراد شرعاً،
لأن الله - عز وجل - أرسل إليه موسى ودعاه، لكن الله لم يرده كوناً،
فلذلك لم يقع ولم يؤمن فرعون .
المبحث الثاني : كراهية الله سبحانه للكفر
مع إرادته له :
إذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكره الكفر فكيف يريده !
مع أنه لا أحد يُكْرِه الله عز وجل ؟
فالجواب : أن المراد نوعان :
النوع الأول : مراد لذاته : وهو المحبوب، فالشيء المحبوب يريده من يريده لذاته كالإيمان،
فالإيمان مراد لله كوناً وشرعاً،
لأنه مراد لذاته .
النوع الثاني : المراد لغيره بمعنى أن الله تعالى يقدره لا لأنه يحبه،
ولكن لما يترتب عليه من المصالح فهو مراد لغيره، فيكون من هذه الناحية مشتملاً على الحكمة وليس فيه إكراه .
مثال ذلك : الكفر مكروه لله عز وجل
ولكن الله يقدره على العباد، لأنه لولا الكفر لم يتميز المؤمن من الكافر،
ولم يكن المؤمن محلاً للثناء،
لأن كل الناس مؤمنون، وأيضاً لو لم يقع الكفر فلم يكن هناك جهاد فمن يجاهد المؤمن إذاً،
ولو لم يقع الكفر ما عَرَف المؤمن قدر نعمة الله عليه بالإسلام،
ولو لم يقع الكفر، وكان الناس كلهم مسلمين ما كان للإسلام فضل، ولا ظهر له فضل،
ولو لم يقع الكفر لكان خلق النار عبثاً وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى
في قوله : « ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين(119) » سورة هود
فتبين أن المراد الكوني ـ الذي يكون مكروهاً لله ـ يكون مراداً لغيره .
وأضرب مثلاً :
« ولله المثل الأعلى » سورة النحل 60،
برجل له ابن يحبه حباً جماً،
ولو سقطت عليه شرارة من نار، لكانت كالتي سقطت على قلب أبيه، من محبته له، فمرض هذا الابن فعرض على الأطباء،
فقال الطبيب : لابد من كيه بمسمار من نار،
فقال الأب : وهو كذلك،
فهذا الكي للابن ليس محبوباً للأب لذاته بل محبوباً لغيره، فتجد هذا الأب أراد وبكل طمأنينة وراحة وانشراح صدر أراد أن يكوي ابنه بمسمار من نار،
مع أنه لو سقطت على الابن شرارة لكانت ساقطة على قلب أبيه .
فعُلِم الآن أن المكروه قد يفعل، لا لذاته ولكن لغيره، فهكذا الكفر والمعاصي والفساد، يريدها الرب - عز وجل - لما تتضمنه من المصالح، فهي مرادة لغيرها لا لذاتها .
المبحث الثالث :
قضاء الله والرضا به :
نحن نؤمن بأن الله سبحانه يقضي كل شيء، فنؤمن بقضاء الله أيّاً كان هذا القضاء،
ويجب علينا أن نؤمن به ونرضى به أيا كان، لكن هل يجب علينا أن نرضى بالمقضي ؟
أو لا نرضى ؟ .
نقول : هذا أقسام، فالمقضي نوعان :
الأو ل: مقضي شرعاً .
والثاني : مقضي كوناً .
فالمقضي شرعاً : يجب علينا أن نرضى به،
مثل : أن قضى الله علينا بوجوب الصلاة، فيجب أن نؤمن بهذا القضاء،
وأن نسلم لوجوب الصلاة،
ومثل : أن قضى الله بتحريم الزنى،
فيجب علينا أن نؤمن بهذا المقضي،
وأن الزنى محرم،
ومثل أن قضى الله بحل البيع فيجب علينا أن نرضى بذلك وأن نؤمن بأن البيع حلال،
ومثل : أن قضى الله بتحريم الربا، فيجب علينا أن نؤمن بهذا، وأن نستسلم لتحريم الربا .
فالخط العريض لهذه المسألة أن القضاء الشرعي يجب الرضا به، والتسليم به ،
لأن :
« ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » سورة المائدة 44
وأما الثاني فهو القضاء الكوني : أي ما يقضي به الله كوناً
ـ فإن كان محبوباً للنفس، ملائماً للطبع، فالرضا به من طبيعة الإنسان وفطرته،
كما لو قضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإنسان بعلم فإنه يرضى به، وكذلك لو قضى الله سبحانه للإنسان بمال فإنه يرضى به،
وكذلك لو قضى بولد فإنه يرضى به .
وإما أن يكون المقضي كوناً غير ملائم للإنسان، ولا موافق لطبيعته مثل المرض، الفقر، الجهل، فقدان الأولاد،
أو ما أشبه ذلك، فهذا اختلف العلماء فيه :
فمنهم من قال : يجب الرضا .
ومنهم من قال : يستحب الرضا .
والصحيح : أن الرضا به مستحب .
وأحوال الإنسان عند هذا النوع من القضاء وهو القضاء الذي لا يلائم الطبع ويكون مكروهاً للإنسان أحواله عنده أربع :
( يتبع ) .........................