تهذيب شرح العقيدة الطحاوية
قوله: "ولا يكون إلاَّ ما يُريدُ".
-الإِرادة الشرعيَّـة والكونيـة-
الإرادة الشرعية: هي المتضمنةُ للمحبة والرضى.
والكونية: هي المشيئةُ الشامِلَةُ لجميع الحوادث، وهذا كقوله: {فمن يُرد اللـهُ أن يهدِيَه يشرح صدرَهُ للإِسلام ومن يرد أن يُضلَّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء** الأنعام: 125 . وقوله تعالى عن نوح: {ولا ينفعكم نُصحي إِن أردتُّ أن أنصحَ لكم إِن كان اللـه يريد أن يغويَكُم** هود: 34 . وقوله تعالى: {ولكن اللـه يفعل ما يريد** البقرة: 253 .
وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: {يريدُ اللـه بكم اليـسر ولا يريد بكم العُـسْرَ** البقرة: 185 . {يريد اللـه ليبيِّـن لكم ويهديكم سُنَنَ الذين من قـبلكم ويتـوبَ عليكـم واللـه عليـم حكيـم** النساء: 26 . {واللـه يريدُ أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً. يريدُ اللـهُ أن يُـخـفِّـفَ عنكم وخُلِقَ الإِنسـانُ ضـعيفاً** النساء: 27-28 .
فهذه الإِرادة هي المذكورة في مثل قول الناس بمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده اللـه، أي: لا يحبه، ولا يرضاه، ولا يأمر به. وأما الإِرادة الكونيـة، فهـي الإِرادة المذكـورة في قول المسلمين: ما شاء اللـه كان، وما لم يشأ لم يكُنْ(1).
(1) وفي قوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإِنما يقول له كن فيكون** البقرة: 117 . وقوله: {إِنما أمره إِذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون** يس: 82 .
أقول: لعقيدة القضاء والقدر غايتان عظيمتان لا ينبغي للمرء أن يسهو عنهما وهو في غمار الجدال مع الفرق الضالة، أولهما تتعلق بذات اللـه سبحانه وبصفاته العظيمة التي يستحقها من غير أن يشركه فيها أحد من خلقه، فعقيدة القضاء والقدر تعني أن ما من شيء في هذا الكون الفسيح -مهما دقَّ أو كبر- إلا بقدر، وتعني أن اللـه قادر على كل شيء وأنه تعالى قاهر لعباده على ما يريد ويشاء، وتعني أنه لايُسبق في شيء ولا يكون في سلطانه ومملكته إلا ما يريد وهذا من تمام وكمال ربوبيته وإلهيته وعظمته وجبروته.
فعقيدة القضاء والقدر من هذا الجانب إثبات لما يستحقه اللـه تعالى من صفات الكمال، وما يستحقه من التعظيم والتوقير والإِجلال والتنزيه لجلال أسمائه وكمال صفاته -سبحانه وتعالى-.
أما الغاية الثانية، فهي تتعلق بالعبد ذاته، إذ أن من ثمار عقيدة القضاء والقدر أن تهب المرء الأمن والإطمئنان، والرضى والقناعة والزهد بما في أيدي الناس، والتفسير الصحيح لكل ما يحدث له أو حوله من غير خوف أو جزع أو قلق أو انتحار ...
فعلام الخوف والجزع، والضرُّ كله بيد اللـه تعالى لا يصيبك - ياعبد اللـه- شيء منه ولو اجتمع على ذلك جميع الإنس والجن إِلا ما شاء اللـه وأراد أن يصيبك به ..؟! فعلام القلق على العيش والإِستشراف بما في أيدي الناس، والخير كله بيد اللـه تعالى لايصيبك منه شيء إِلا بإِذن اللـه وإرادته .. ؟!
ثم علام القنوط والأسى الشديد على نزول المصاب أو فقدان العزيز، وأنت تعلم أن خيرة اللـه لك هي خير من خيرتك لنفسك كما في الحديث: "ولو اطلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع" .. ؟!
هذا كله يستلزم من العبد أن يـزداد حبـاً وتعلقـاً وانقيـاداً لخالقــه، وأن لا يخشــى إِلا اللــه ولا يقصد إِلا اللـه، ولا يرجو إِلا اللـه، فللـه وحده الأمر من قبل ومن بعد، بيده الخير والضر، والهدى والضلال، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء.