الرياء عدو الإخلاص
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيباً ) .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) .
أما بعد:
من الحقائق المسلَّمة التي يشهد لها واقع الناس، أن نفوس البشر تميل بطبيعتها إلى حب المدح والثناء؛ وأن يكون للمرء منزلة في قلوب الناس والتي ينتج عنها بعد ذلك تعظيمه وطاعته وإضفاء صفات المدح والثناء عليه؛ ولذلك كان أعظم من يُبتلى بهذه الآفة الخطيرة العلماء العاملون، والعباد المشمرون لطاعة الله، لأنهم لما منعوا أنفسهم من الشهوات والمعاصي الظاهرة، أعْيَت الشيطان الحيلة منهم فلم يجد إليهم سبيلاً إلا عن طريق الشهوة الخفية؛ وهي مراءاة الناس بالأعمال والأقوال .
فالرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها؛ وهو الشهوة الخفية التي يقود إليها محبة مدح الناس؛ والبحث عن المنزلة في قلوبهم، لذا قال سفيان بن عيينه: «إياكم والشهوة الخفية، قالوا: وما هي؟ قال: الذي يحب أن يمدح على الخير » .
فالنفس تحب انتشار الصيت والاشتهار، وذلك هو الداء الدفين الذي نسج الشيطان شباكه من خلاله ليصطاد به أهل الاستقامة والتدين لما أعيوه باستقامة سلوكهم على الطاعة، فاجتهد أن يحرف نياتهم عن جادة الحق، فيبوؤوا بحبوط أعمالهم وذهاب أجورهم .
فالرياء عدو الإخلاص؛ يحبط الأعمال؛ ويؤذن بحلول غضب الله عز وجل على من اتصف به، قال الله سبحانه: ( فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراءون*ويمنعون الماعون ) .
ولأن الله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له وحده سبحانه دون ما سواه؛ فقد حذر عباده من مراءاة الخلق بأعمالهم الصالحة فيجعلونهم شركاء مع الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: « قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » .
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الرياء لعظيم خطره؛ فقال:« إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؛ قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر، قال: الرياء. يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة؛ إذا جرى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، هل تجدون عندهم من جزاء »؛ وما كان هذا الوعيد الشديد إلا لأن هذا المرائي قد التمس بعمله الصالح رضا المخلوقين ومدحهم، فكان جزاؤه أن وكَلَه الله سبحانه لمن كان يرائيهم في عمله ويطلب مدحهم وثناءهم .
ومن أجل ذلك فقد عَظُم خوفُ السلف رحمهم الله وتحذيرُهم من الرياء، وما كان ذلك إلا لعظيم إخلاصهم ومعرفتهم بخطر الرياء؛ حيث يَذهبُ الدين وتُقتَل روحُ العبادة، فتكون كالجسد الذي لا يحوي روحاً فلا حياة له ولا نجاة، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى: « من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بغير ما يعلم الله من قلبه شانه الله عز وجل، فما ظنك في ثواب الله في عاجل رزقه؛ وخزائن رحمته، والسلام » .
ومن تأمل سيرة السلف رحمهم الله وجد أنهم من أبعد الناس عن الرياء مع قوة عبادتهم وإخلاصهم؛ وقد كانوا يؤثرون الخمول ويكرهون المدح خوفاً على أنفسهم من زيغ القلوب وتغير النيات، ولذلك أعقبهم الله عز وجل وأورثهم ذكراً حسناً وثناءً عطراً، ودعاءً صادقاً على لسان المسلمين، وعلى قدر ما كانوا مخلصين بأعمالهم مبتعدين عن الرياء وحب المدح على قدر ما فتح الله لهم قلوباً غلفاً وآذاناً صمّاً، فنفع الله بأعمالهم وأقوالهم؛ وكانوا كالغيث الذي إذا حل بأرض قاحلة عادت مروجاً وأنهاراً، فسُقي منها الظمآن؛ وانبتت الكلأ وانتفع بها الإنسان والحيوان، وقد قال علي بن الفضيل رحمه الله لأبيه: «يا أبت ما أحلى كلام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: يا بني؛ وتدري لما حلا؟ قال: لا يا أبت؛ قال: لأنهم أرادوا الله به»، وقال ابن لعمر بن ذر لأبيه: « ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد؛ فإذا تكلمت يا أبت سمعت البكاء من ها هنا وها هنا؟، فقال: يا بني ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى » .
و كان كثير من السلف يخفي عبادته حتى عن أقرب الناس إليه خوفاً من الرياء وطلباً للإخلاص, و كان يحبون خمول الذكر بالرغم مما حباهم الله به من العلم و الديانة, قال محمد بن واسع: « لقد أدركت رجالاً, كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة, قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه, لا تشعر به امرأته, ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه, ولا يشعر به الذي إلى جنبه ».
وقال إسحاق بن حنبل: « دخلت على أحمد ويده تحت خدّه, فقلت له: يا ابن أخي؛ أي شيء هذا الحزن, فرفع رأسه وقال: طوبى لمن أخمل الله ذكره » .
و كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك, فإذا كان عند الصبح رفع صوته, كأنه قام تلك الساعة .
و قال الشافعي رحمه الله: « وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس, أؤجر عليه, ولا يحمدوني » .
رحمهم الله, ومن يصل إلى ما وصلوا إليه من قوة الإخلاص, والبعد عن المدح وحُب الظهور .
إن الرياء في الدين أمر خطير, ولذلك خوّفت منه النصوص الشرعية؛ ومن ذلك أن يرائي بأنواعٍ من العبادات كتطويل المصلي صلاته لِما يرى من نظر الناس إليه؛ أو يتصدق أو يصوم لطلب المدح والثناء .
ومنه ما يكون بالقول؛ كمن يعظ ويذكر أو يحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم, أو تحسين الصوت بالقرآن ليجتمع إليه الناس .
و منه ما يفعله بعض الناس من إظهار علامات الخمول والذبول بسبب العبادة، وهذه أنواع من الرياء؛ وتكون رياءً إذا قصد في دينه طلب مراءاة المخلوقين وحُبَّ مدحهم والتماس الثناء منهم عليه؛ و إلا لو أن الله أنعم عليه بنعمة من النعم الدينية؛ كالصلاة أو الصوم؛ أو فتح عليه في جمال صوته بالقرآن؛ أو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ أو وعظه للناس وتأثيره فيهم؛ وهو لا يريد المدحَ منهم ولا يحبُّه ومدحوه على ذلك؛ فهذا ليس من الرياء؛ بل إنه مما عجلهُ الله لهُ من البشري الحسنة, وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ أرأيت الرجل يعمل العمل الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال: « تلك عاجل بشرى المؤمن » .
أما إذا كان يعمل العمل وذكره الناس به ففرح بمدحهم لاطلاعه بعلو منزلته عندهم؛ وطمعاً في أن يمدحوه ويعظِّموه ويكرموه على ذلك فهذا هو المذموم. ومن أعظم علامات الرياء أن يعمل المرء العمل؛ فإذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له, وروّح ذلك عن قلبه شدّة العبادة, فهذا السرور يدل على رياء خفي في قلبه؛ وأنه لولا التفاتُ قلبه إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس على عمله, فَعُلم بذلك أن الرياء كان مستكناً في قلبه استكنان النارِ في الحجر؛ فأظهر من اطلاع الناس أثر الفرح والسرور, ثم استشعر تلك اللذة بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهة.
و قد يختفي المرء بعبادته ولا يريد أن يطلع عليه أحد, ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام, وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير, وينشطوا في قضاء حوائجه, ويسامحوه في المعاملة, ويوسعوا له بالمكان, فإذا قصَّر في ذلك مقصِّر؛شق عليه وثقل ذلك على قلبه, وكأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها .
ولا زال المخلصون يخافون من الرياء على أعمالهم, ويجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة, ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس عن إخفاء فواحشهم, كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم لوجه الله؛ ليجازيهم الله تعالى يوم القيامة بإخلاصهم؛ قال وهب بن منبه: « ذُكِر لأحد الملوك رجلٌ من العبّاد فطمع في لقائه, فركب في موكبه وإذا السهل قد امتلأ من الناس, فقال العابد: ما هذا؟ قيل: هذا الملك, فقال لصاحبه: ائتني بطعام, فجعل يحشو فمَه ويأكلُ أكلاً عنيفاً, فقال الملك: أين صاحبُكم؟. فقالوا: هذا ؛ فقال: كيف أنت؟ قال: كالناس. فقال الملك: ما عند هذا خير, وسقط من عينه, فلما انصرف قال العابد: الحمد لله الذي صَرَفَه عني وهو لائم » .
ولذا قال أيوب رحمه الله: « والله ما صدق عبدٌ إلا سرَّه أنْ لا يُشعَر بمكانه », وقال أحمد: « قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك فإني قد ابتليت بالشهرة » .
هذا وإنَّ أشد ما عانى منه الأتقياءُ المخلصون تثبيت النيات على إخلاص العمل لله رب العالمين؛ حتى قال بعض علماء السلف: « اثنان أعالجهما منذ ثلاثين سنة؛ ترك الطمع فيما بيني وبين الناس, وإخلاص العمل لله رب العالمين ».
نسأل الله أن يصلح نياتنا وأن يرزقنا الإخلاص والقبول .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه؛ والشكر له على توفيقه وامتنانه؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه؛ وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه .
أما بعد :
فإن مما يدفع المسلم على تجنب الرياء وتحقيق الإخلاص أن يفرِّغ قلبه لله عز وجل, وأن يجاهد في تثبيت نيته على إرادة وجه الله في أعماله كلها؛ وأن يعلم المسلم مضرَّة الرياء في الآجلة والعاجلة, وما يفوته بسبب ذلك من صلاح قلبه؛ ومن المنزلة في الآخرة؛ وما يتعرض له من العذاب والمقت والخزي يوم القيامة؛ مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت قلبه من الهم بسبب ملاحظة الخلق وطلب رضاهم؛ فإن إرضاء الناس غاية لا تدرك؛ وما يُرضي قوماً يسخط آخرين, ومن طلب رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس, ثم ماذا يجني العبد من وراء مدح الناس؛ ولا يزيده مدحهم رزقاً ولا أجلاً, ولا ينفعه يوم فقره وفاقته حين يقف بين يدي الله عز وجل, وما الذي يحذره العبد من ذم الناس له إذا عمل بطاعة الله ولا يضرُّه ذمهم شيئاً؛ ولا يعجل أجله, ولا يؤخر رزقه, فإن العباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؛ ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .
فإذا تقرر ذلك في نفسه ضعفت رغبته في الرياء, وأقبل على الله تعالى بقلبه, فإن العاقل لا يرغب فيما يضره ويقل نفعه؛ فإن أكثر الناس إنما هلكوا لخوف مذمة الناس وحب مدحهم, فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضا الناس؛ رجاء المدح وخوفاً من الذم؛ وذلك من المهلكات؛ فوجب على العاقل معالجة نفسه.
وإن من أعظم ما يُضْعِف رغبة الرياء في قلب العبد؛ علمه أن ما يحصل له من الثناء والمدح على ألسنة الخلق إنما هو من فضل الله عز وجل عليه؛ ولجميل ستر الله لعيوبه عن الناس حيث أطلعهم سبحانه وتعالى على جميل أفعاله؛ وأظهر عليه الطاعة وستر عليه القبيح من الأفعال, وأظهر الجميل منها حتى قامت له المنزلة في قلوب الناس, وهذا يوجب له أن يحمد الله على جميل ستره وأن يفرح بستر الله له لا بحمد الناس, وهذا مما يرسخ عند العبد أن الأمور كلها بيد الله, وأن قلوب العباد بين أصابعه يقلبها كيف يشاء؛ فيطلب بعمله التقرب إلى الله لا مدح الخلق على ما يعمله لله, قال بعض السلف: «إذا رأيت من الناس ثناء فلا تغتر؛ فإنما ذلك بجميل ستر الله عليك » .
هذا وإنَّ مما يجدر التنبيه له؛ أنه ليس لخوف العبد من الرياء أن يترك الطاعات, بل الواجب على العبد أن يتحرى الخير ويكثر من العمل الصالح؛ مع مجاهدة النفس بإصلاح النية؛ فإن العمل متى كان الباعث عليه الدِّين وكان خالصاً لوجه الله تعالى فإنه لا يُترك .
نسأل الله أن يفقهنا في الدين؛ وأن يوفقنا للتمسك بسنة خير الورى، وأن يصلح نياتنا وزوجاتنا وذرياتنا .
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا..
1/1/1431هـ ؛ 18/12/2009م .