وعن ابن عباس أن أمراءة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت :
((إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها ؟
قال : (( نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دينٌ أكنت
قاضيته ؟ )) قالت : نعم . قال : (( فاقضوا الذي له ، فإن الله أحق
بالقضاء )) مسلم .
فالرسول صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب المحاورة مع هذه
المرأة ليضمن وصول المعلومة إلى ذهنها ، وكان بإمكان الرسول
صلى الله عليه وسلم أن يجيب بكلمة نعم وينتهي الامر ، ولكنه أراد
صلى الله عليه وسلم من هذه السائلة الاستجابة المبنية على الفهم
والا قتناع التام .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال :
(( أتدرون من المفلس ؟ )) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له
ولا متاع . فقال : (( المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة
وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ،
وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أٌخذ من خطاياهم
فطرحت عليه ، ثم طُرح في النار )) مسلم .
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا المنهج إيقاظاً لانتباه
صحابته ، وتحريكاً لعقولهم ، حتى يستقبلوا هديه وتعاليمه بنفوس
عطاش ، وقلوب ظماء ، فيستقر فيها أثبت استقرار ويعلق بها
علوق الروح بالأجسام .
وفي قصة الشاب الذي استأذن رسول الله
في
الزنا يتجلى لنا الأسلوب النبوي العظيم في محاورة الشاب
ومناقشته وإقناعه ، وسوف نوردها في مبحث قادم حول أسلوب
الرسول في معالجة أخطاء الناشئة إن شاء الله .
وبعد ، فإن هذه الطريقة تدريب للمتلقي على التفكير وتشجيعه على
المناقشة ، وتعويده على العطاء والمشاركة وإبداء الرأي .
قال الدكتور أحمد بن نافع المورعي : ( وإن أي تربية بدون
استخدام هذه الوسيلة قد تعتبر فاشلة ؛ لأنها تكوّن شخصاً ضعيف
الشخصية ، عديم التأثير ) .
5- التعليم بالتكرار :
من الأساليب التربوية الناجحة التي استخدمها الرسول صلى الله
عليه وسلم تكرار الكلمة أكثر من مرة ليفهم السامع ويدرك تلك
الكلمة فهماً واستيعاباً ، والتكرار قد يكون في الجُمل ، وقد يكون
في الأسماء ، وقد يكون في غيرها ، ومما جاء في تكرار الكلمات
ما رواه أنس بن مالك :
( أن النبي
كان إذا تكلم
بكلمة أعادها ثلاثاُ حتى تُفهم عنه ، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم
سلّم عليهم ثلاثاُ ) رواه البخاري .
وعند الترمذي من حديث أنس :
( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعقل عنه ) .
قال المباركفوري ( والمراد أنه كان
يكرر
الكلام ثلاثاً إذا اقتضى المقام ذلك ، لصعوبة المعنى ، أو غرابته ،
أو كثرة السامعين ، لا دائماً فإن تكرير الكلام من غير حاجة ليس
من البلاغة )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
قال
( رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف من أدرك والديه عند
الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة ) مسلــم .
فالرسول صلى الله عليه وسلم كرر كلمة رغم أنف ثلاث مرات
ليجذب الانتباه ويهيئ النفوس للكلمة التي بعدها توكيداً لأهميتها .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري : ( ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر – ثلاثاً - )) قالوا : بلى يارسول الله . قال : (( الإشراك
بالله ، وعقوق الوالدين )) وكان متكئاً فجلس فقال : (( ألا وقول
الزور )) قال : فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) البخاري
( وقد كرر الرسول صلى الله عليه وسلم قول الزور ؛ لأن قول
الزور وشهادة الزور يقع ضررها على الفرد نفسه وعلى المجتمع
مما قد يسبب ضياع حقوق الناس مما ينتج عنه الحقد والبغضاء ،
وبالتالي يؤدي إلى تفكك المجتمع ) .
ومما ورد في تكراره صلى لله عليه وسلم للأسم ما رواه أنس بن
مالك من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وكان رديف
النبي
: (( يا معاذ ابن جبل )) قال : لبيك
يارسول الله وسعديك – ثلاثاً )) قال : (( ما من أحد يشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرّمه الله على
النار.... الحديث ) .
وقد كرر الرسول
نداءه لمعاذ بن جبل تهيئة
للخبر العظيم الذي سوف يحمله ، والتكرار من أهم الطرائق التي
يجب أن يتبعها المعلم والمربي ، فإن السامع قد يفوته بعض الكلام
أو يعجز عن فهمه للمرة الأولى ، وقد يشرد ذهنه أو يسترعي
انتباهه بعض ما حوله ، فيصرفه عن إدراك ما يسمع ، فيأتي
التكرار إسعافاً له ومعونة ترده إلى المعنى ، وتوصل المعنى إليه .
6- أسلوب التشويق وإثارة الانتباه :
لقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب التشويق والإثارة ،
إما بطرح سؤال يثير به النشاط الذهني ، ويجذب به الانتباه
والتشويق لما سيقوله ، وذلك أن النفس البشرية تتطلع إلى
استكشاف كل جديد . ويوضح ذلك الحديث الذي رواه مسلم في
صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه
كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء؟ )) قالوا : لا يبقى
من درنه شيء ، قال : (( ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن
الخطايا ) .
وكذلك الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلمسأل
الصحابة قائلاً :
( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل
المسلم حدّثوني ماهي ؟ ) فوقع الناس في شجر البوادي ، ثم قالوا :
حدثنا ما هي يارسول الله ؟ قال : ( هي النخلة ) مسلم .
فالرسول أشرك الصحابة في الحديث واستثار هممهم لا ستكشاف
الإجابة ، ولم يلجأ لأسلوب الإلقاء .
ويتجلى أسلوب التشويق في قوله صلى الله عليه وسلم: ( يطلع
عليكم الآن رجل من أهل الجنة )
فكم كان تشوق الصحابة وتلهفهم
لرؤية ذلك الصحابي الذي بشّر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه
من أهل الجنة ثلاث مرات ؛ مما حدا بشاب من شباب الصحابة
وهو عبدالله بن عمرو بن العاص للوقوف على أعمال ذلك
الصحابي ليقتدي به .
7- استخدام وسائل الإيضاح للتوضيح والبيان وتقريب المعنى :
لقد سبق الرسول صلى الله عليه وسلم التربية الحديثة بأربعة عشر
قرناً حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعم قوله في بعض أحاديثه
برسومات ووسائل إيضاح تقرّب المعنى للأذهان فمن ذلك :
مارواه ابن مسعود قال : خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً
مربعاً وخطّ خطاً في الوسط خارجاً عنه ، وخطّ خططاً صغاراً إلى
هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط فقال :
( هذا الإنسان ، وهذا أجله محيطاً به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو
خارج أمله ، وهذه الخطط الصغار الأعراض ، فإن أخطأه هذا
نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا ) البخاري .
وهذه دعوة للمعلمين لا ستخدام الرسومات في الكتابات مع الشرح
للمساعدة في إيصال المعلومة بشكل سريع .
ومن الوسائل المرئية التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم
في أحاديثه القمر ، كما في حديث جرير بن عبد الله قال : كنا عند
النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال :
( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن
استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
فافعلوا ، ثم قرأ
** وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ ** ( قّ: من الآية39) رواه البخاري .
واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة تشترك فيها الحواس
الثلاث معاً ، فقد استخدم صلى الله عليه وسلم الجُمّار والنخلة ، فهم
يرونها ويمسونها بأيديهم ويأكلون منها ، فعن عبدالله بن عمر قال :
كنا عند النبي
فأتي بجمّار فقال : ( إن في
الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم ) ، فأردت أن أقول هي النخلة فإذا
أنا أصغر القوم فسكتُّ قال النبي
: ( هي
النخلة ) رواه البخاري .
واستخدم النبي
أصابعه للإيضاح وتقريب
المعنى ، فعن أبي موسى الأشعري عن النبي
قال :
( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضـاً ، ثم شبّك بين
أصابعه .. ) رواه البخاري .
و عن أنس عن النبي
قال : ( من عال جاريتين
حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين في الجنة وضم أصابعه)
رواه مسلم .