نصيحة ذهبية للدعاة إلى الله !
فضيلة العلامة أحمد بن يحيى النجمي :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل اله فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه - وبعد :
فإن الله خلق الخلق لعبادته فقال : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . [ الذاريات : 56 - 58 ] .
ومن أجل بيان العبادة التي فرضها الله على عباده أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لكي يعلم الناس ما يجب عليهم لربهم - جل وعلا - ، وليعلموا أن سعادتهم وشقاوتهم مرتبطة بالعبادة إيجابًا ونفيًا فعلاً وتركًا قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . [ الأعراف : 35 - 36 ] .
وخاتم الرسل وأفضلهم نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى الناس كافة وخاطبه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . [ الأعراف : 158 ] .
فأحيا الله به القلوب ، ونور به البصائر، وفتح به أعينا عميًا ، وآذانا صمًا ، وقلوبا غلفًا ، وأغنى الله به بعد العيلة وكثّر به بعد القلة ، وهداهم الله به إلى التوحيد والتوجه بالعبادة إلى بادئ هذا الكون بعد أن كانوا يسجدون للأحجار والأشجار ، ويدعون ما لا يسمع ولا يبصر ، ولم يقبضه الله حتى ترك أمته على محجة بيضاء بينة الصّوى واضحة المعالم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولما كان لابد للناس مع طول الزمن من أن يصيبهم الجهل وتحيط بهم الغفلة وتكتنفهم الصوارف التي تصرفهم عن تعلم الدين أو عن العمل به ومتابعته ، وكان يستحيل أن يتفرغ الجميع لطلب العلم والتفقه فيه ؛ لذلك فقد فرض الله على هذه الأمة أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ؛ كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
لذلك كان لزامًا على طلاب العلم وحملة الشريعة أن يتابعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، ويخلفوه بخير في أمته ، ويجددوا ما اندثر من شريعته ، ويحيوا ما أميت من سنته ، ويصححوا عقائد هذا الدين مما علق بها ، ويردوا على المبطلين الذين يريدون تشويه دين الله بالأكاذيب المفتراة عليه وعلى مبلغيه في الماضي والحاضر ؛ يفعلون ذلك مخلصين لله ومتأسين بمبلغه الأول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لقوله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . [ يوسف : 108 ] .
وإن حاجة الأمة إلى الدعوة إلى الله الخالصة المخلصة التي تصحح عقائدهم وتنقيها من الأكدار والشوائب ، وتحثهم على أداء ما يجب لله أو لخلقه واجتناب ما يحرم ، وتحذرهم من مغبة الفساد والإفساد ؛ كحاجتهم إلى نزول الغيث عند القحط والطعام الشهي عند الجوع والماء البارد عند العطش ، بل أشد لأن من فقد الطعام والشراب غايته الموت وربما يفضي به الموت إلى الجنة ، أما فقد الدين فهو يترتب عليه الخسران الأبدي الذي يفضي بالعبد إلى النار وبئس القرار ، وفرق بين الخسارتين .
الدعوة إلى الله فرض كفائي على طلبة العلم كل على قدر استطاعته ؛ فإن تركوه جميعًا أثموا ، وإن قام به البعض وجب على الباقين إعانته ، وإذا كان في الحي أو في القرية الواحد أو الإثنين من طلبة العلم وجب عليهم عينًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في حيهم وبلدتهم امتثالاً لقوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
وليهنأ طلاب العلم الذين يدعون إلى الله مخلصين نهجهم أنهم خلفاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الدلالة على الله وعلى صراطه المستقيم ، والسعي في إصلاح المجتمعات ومنع الفساد ومحاربته بالنهي عنه والتحذير منه ومن مغبته الوخيمة ، فلهم الحظ الأوفر من إرثه - صلوات الله وسلامه عليه - . قال تعالى : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) . [ هود : 116 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدًا ؛ فليتبوأ مقعده من النار ) .
وقال - أيضًا - : ( نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فرُبّ مبلغ أوعى من سامع ، ورُب حامل فقه ليس بفقيه ) .
ثم إن الدعوة إلى الله ضمان للمجتمع الذي توجد فيه من العذاب العاجل والعقوبات العاجلة إذا أعطيت حقها ؛ فعلى الداعي الإخلاص والجدية في دعوته وعدم التواني فيها أو الخروج عن المضامين الدعوية بالقول والعمل بما تقتضيه ؛ فإن توانى الداعي أو ضَعُف وخار أو تبرم بالأذى أو استعجل النتائج لم تكن النتيجة على المطلوب ؛ بل ربما كانت عكسية فيستفحل الفساد ويسيطر المفسدون ، ويكون في ذلك إيذان بشر مستطير أو عذاب كبير ، وعلى هذا فلابد للداعية أن يكون مسلحًا بأمور نجملها في ما يلي :
- أولاً : العلم ؛ فمن شرط الداعية أن يكون عالمًا بما يدعوا إليه ، وقد أفادت هذا الشرط الآية الكريمة ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) . [ يوسف : 108 ] .
والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه ؛ فإن دعا إلى التوحيد كان عالمًا بأنواعه ملمًا بما يناقضه من الشركيات صغيرها وكبيرها ، وإن دعا إلى الصلاة كان عالمًا بها وبشروطها وصفاتها وفرضها ونفلها وهلم جرا .
وإن عرض له شيء لا يعرفه توقف فيه حتى يعرفه بطلبه من مضانه في الكتب أو بعرضه على من هو أوسع منه علمًا بأن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، أو لا أدري.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : ( لا أدري . فقال السائل : إنه لعظيم قولك لا أدري ، وأنت ابن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : أعظم من ذلك عند من يعقل عن الله أن أقول ما لا أعلم ) .
وسأل رجل القاسم بن محمد عن مسألة ؛ فقال القاسم : ( لا أحسن ؛ فجعل الرجل يقول : رفعت إليك لا أعرف أحد غيرك ، فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي ، والله لا أحسنه . فقال شيخ من قريش جالس في جنبه : إلزمها يا بني فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم ؛ فقال القاسم : والله لأن تقطع لساني أحب الي من أن أتكلم بما لا علم لي به ) .
- ثانيًا : الحرص على الطلب وأخذ العلم من مظانه ، والبحث عنه والمذاكرة به ، وسؤال العلماء واستشارتهم فيما يشكل حتى ينشرح صدرك إلى القول الذي تراه أقرب الى الحق .
- ثالثًا : الحكمة في الدعوة ، وهي حسن التصرف ولباقة العرض وخفض الجناح ولين القول ، وقد أشارت إلى هذا الشرط الآية الكريمة . قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) . [ النحل : 125 ] .
- رابعًا : الرفق واللين في المخاطبة ولو كان المدعو جبارًا عاتيًا قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) الآية . [ آل عمران : 159 ] .
وقال لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) . [ طه : 43 - 44 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ) .
- خامسًا : الصبر ، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . [ الأحقاف : 35 ] .
وقال - أيضًا - : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) . [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : (( وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . [ العصر ] .
فالصبر هو أحد الصفات الأربع المشروطة في النجاة من الخسران ، وهي :
1 - الإيمان ويتضمن العلم لأن الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بمعلوم .
2 - العمل بالعلم والمقصود من العلم العمل ، قال سفيان الثوري : ( يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ) .
وقال مالك بن دينار : ( إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب ؛ كما يزل القطر عن الصفاء ) .
3 - التواصي بالحق : وهو الدعوة إلى الله - عز وجل - وإلى سبيله ومرضاته . قال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) . [ فصلت : 33 ] .
وقال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) . [ آل عمران : 110 ] .
4 - التواصي بالصبر على ما ينال الداعية من الأذى ، والأذى لابد أن ينال الداعية الصادق ولذلك فقد قرن الله - عز وجل - التواصي بالصبر مع التواصي بالحق وذم الناكلين عن الدعوة خوفًا من الأذى ؛ فقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ ) . [ العنكبوت : 10 ] .
- سادسًا : أن يكون الداعية عدلاً في أقواله وأفعاله . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) . [ النساء : 135 ] .
وفي الحديث : ( قل الحق ولو كان مرا ) .
- سابعا : أن يتصف الداعية بالتواضع . قال تعالى : ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) . [ الإسراء : 37 ] .
وفي الحديث : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ) .
- ثامنًا : أن يكون الداعية أسوة صالحة للمدعوين بأن يكون مسارعًا إلى الخير متباعدًا عن الشر حتى يكون مطبقًا لما يقول ؛ فيرضى عنه ربه ، وحتى لا تكون هناك فجوة بين قوله وفعله قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) . [ الصف : 2 - 3 ] .
قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وهذه الصفات الثمان كلها في شخصية الداعية . أما ما يتعلق بالطريقة ؛ فهي :
- تاسعًا : أن يبدأ بالأهم فالمهم ، وفي " الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل معاذًا إلى اليمن فقال : ( إنك تأتي قومًا أهل كتاب ؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ... ) الحديث .
- عاشرًا : أن يحرص على تصحيح العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك بالله الذي لا يقبل معه عمل بل ولا يغفر معه ذنب قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) . [ النساء : 48 ] .
سواء في ذلك شرك العبادة أو شرك التحكيم وهذان النوعان يخرجان صاحبهما من الملة . وهناك نوعان آخران من الشرك لا يخرجان صاحبهما من الإسلام وهما الشرك الأصغر والخفي ويجب على الداعية أن يبين جميع أنواع الشرك , وكذلك أيضا التحذير من البدع فإذا صفا العمل من هذين النوعين كان ما عداهما أهون يسعى في معالجته بادئا بالأهم فالمهم .
- الحادي عشر : أن لا يصرح بالأسماء وإن علم أصحابها ؛ فإن ذلك من سياسة الدعوة وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ) .
وفي حديث بريرة : ( فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) .
ولا يصرح بالأسماء إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك ؛ كأسماء المبتدعين الذين اتخذهم الناس قادة ، وعلى هذا جرى أهل الحديث ، وبهذا أخذ أهل السنة والجماعة . [ انظر " توحيد ابن خزيمة " ، و " الرد على بشر المريسي " ، لعثمان بن سعيد الدارمي ، و " كتاب السنة " ، لعبد الله بن أحمد وغيرها ] .
- الثاني عشر : أن يتخولهم بالموعظة حتى لا يسئمهم أو يملهم ، ولا يطيل عليهم كثيرًا حتى لا يحرجهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم شواغل ، فليكن الواعظ عونًا للناس على أنفسهم فالكلام القليل الجامع خير من كثير ينسي بعضه بعضًا ؛ إلا إذا دعي الشخص لندوة أو محاضرة فلا مانع أن يطيل إذا علم رضاهم ورغبتهم ، ولتكن - أيضًا - معقولة .
- الثالث عشر : التوكل على الله اعتمادًا عليه ورضى بكفايته واطمئنانًا إلى تدبيره . قال تعالى : ( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) . [ إبراهيم : 12 ] .
- الرابع عشر : بذل الوسع والطاقة في الدعوة إلى الله ، وأن نعطيها من جل أوقاتنا لا من فضولها ، واستغلال المناسبات وتحين الفرص ، ومتابعة الكلمات وترتيب القراءات في المساجد وما أشبه ذلك ، والمهم أن تستولي على همه حتى تكون شغله الشاغل ليل نهار هذا هو المفروض .
- الخامس عشر : اللجوء إلى الله دائمًا بكثرة الدعاء والتضرع إليه وطلب العون منه وإمداده بالتوفيق والسداد ، وصرف الشيطان عنه ليكون دائمًا متصلاً بربه مستعينًا على عدوه وراغبًا إليه فيما يصلحه ويصلح دعوته ، وأن يمده بالإخلاص فيها وفي كل ما يأتي ويذر .
وأخيرًا هذا ما أمكن تدوينه في هذه العجالة عن الدعوة والداعية ومن هو مجبول على النقص لا يكمل له عمل .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
فضيلة العلامة أحمد بن يحيى النجمي : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل اله فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه - وبعد :
فإن الله خلق الخلق لعبادته فقال : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . [ الذاريات : 56 - 58 ] .
ومن أجل بيان العبادة التي فرضها الله على عباده أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لكي يعلم الناس ما يجب عليهم لربهم - جل وعلا - ، وليعلموا أن سعادتهم وشقاوتهم مرتبطة بالعبادة إيجابًا ونفيًا فعلاً وتركًا قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . [ الأعراف : 35 - 36 ] .
وخاتم الرسل وأفضلهم نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى الناس كافة وخاطبه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . [ الأعراف : 158 ] .
فأحيا الله به القلوب ، ونور به البصائر، وفتح به أعينا عميًا ، وآذانا صمًا ، وقلوبا غلفًا ، وأغنى الله به بعد العيلة وكثّر به بعد القلة ، وهداهم الله به إلى التوحيد والتوجه بالعبادة إلى بادئ هذا الكون بعد أن كانوا يسجدون للأحجار والأشجار ، ويدعون ما لا يسمع ولا يبصر ، ولم يقبضه الله حتى ترك أمته على محجة بيضاء بينة الصّوى واضحة المعالم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولما كان لابد للناس مع طول الزمن من أن يصيبهم الجهل وتحيط بهم الغفلة وتكتنفهم الصوارف التي تصرفهم عن تعلم الدين أو عن العمل به ومتابعته ، وكان يستحيل أن يتفرغ الجميع لطلب العلم والتفقه فيه ؛ لذلك فقد فرض الله على هذه الأمة أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ؛ كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
لذلك كان لزامًا على طلاب العلم وحملة الشريعة أن يتابعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، ويخلفوه بخير في أمته ، ويجددوا ما اندثر من شريعته ، ويحيوا ما أميت من سنته ، ويصححوا عقائد هذا الدين مما علق بها ، ويردوا على المبطلين الذين يريدون تشويه دين الله بالأكاذيب المفتراة عليه وعلى مبلغيه في الماضي والحاضر ؛ يفعلون ذلك مخلصين لله ومتأسين بمبلغه الأول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لقوله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . [ يوسف : 108 ] .
وإن حاجة الأمة إلى الدعوة إلى الله الخالصة المخلصة التي تصحح عقائدهم وتنقيها من الأكدار والشوائب ، وتحثهم على أداء ما يجب لله أو لخلقه واجتناب ما يحرم ، وتحذرهم من مغبة الفساد والإفساد ؛ كحاجتهم إلى نزول الغيث عند القحط والطعام الشهي عند الجوع والماء البارد عند العطش ، بل أشد لأن من فقد الطعام والشراب غايته الموت وربما يفضي به الموت إلى الجنة ، أما فقد الدين فهو يترتب عليه الخسران الأبدي الذي يفضي بالعبد إلى النار وبئس القرار ، وفرق بين الخسارتين .
الدعوة إلى الله فرض كفائي على طلبة العلم كل على قدر استطاعته ؛ فإن تركوه جميعًا أثموا ، وإن قام به البعض وجب على الباقين إعانته ، وإذا كان في الحي أو في القرية الواحد أو الإثنين من طلبة العلم وجب عليهم عينًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في حيهم وبلدتهم امتثالاً لقوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
وليهنأ طلاب العلم الذين يدعون إلى الله مخلصين نهجهم أنهم خلفاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الدلالة على الله وعلى صراطه المستقيم ، والسعي في إصلاح المجتمعات ومنع الفساد ومحاربته بالنهي عنه والتحذير منه ومن مغبته الوخيمة ، فلهم الحظ الأوفر من إرثه - صلوات الله وسلامه عليه - . قال تعالى : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) . [ هود : 116 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدًا ؛ فليتبوأ مقعده من النار ) .
وقال - أيضًا - : ( نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فرُبّ مبلغ أوعى من سامع ، ورُب حامل فقه ليس بفقيه ) .
ثم إن الدعوة إلى الله ضمان للمجتمع الذي توجد فيه من العذاب العاجل والعقوبات العاجلة إذا أعطيت حقها ؛ فعلى الداعي الإخلاص والجدية في دعوته وعدم التواني فيها أو الخروج عن المضامين الدعوية بالقول والعمل بما تقتضيه ؛ فإن توانى الداعي أو ضَعُف وخار أو تبرم بالأذى أو استعجل النتائج لم تكن النتيجة على المطلوب ؛ بل ربما كانت عكسية فيستفحل الفساد ويسيطر المفسدون ، ويكون في ذلك إيذان بشر مستطير أو عذاب كبير ، وعلى هذا فلابد للداعية أن يكون مسلحًا بأمور نجملها في ما يلي :
- أولاً : العلم ؛ فمن شرط الداعية أن يكون عالمًا بما يدعوا إليه ، وقد أفادت هذا الشرط الآية الكريمة ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) . [ يوسف : 108 ] .
والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه ؛ فإن دعا إلى التوحيد كان عالمًا بأنواعه ملمًا بما يناقضه من الشركيات صغيرها وكبيرها ، وإن دعا إلى الصلاة كان عالمًا بها وبشروطها وصفاتها وفرضها ونفلها وهلم جرا .
وإن عرض له شيء لا يعرفه توقف فيه حتى يعرفه بطلبه من مضانه في الكتب أو بعرضه على من هو أوسع منه علمًا بأن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، أو لا أدري.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : ( لا أدري . فقال السائل : إنه لعظيم قولك لا أدري ، وأنت ابن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : أعظم من ذلك عند من يعقل عن الله أن أقول ما لا أعلم ) .
وسأل رجل القاسم بن محمد عن مسألة ؛ فقال القاسم : ( لا أحسن ؛ فجعل الرجل يقول : رفعت إليك لا أعرف أحد غيرك ، فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي ، والله لا أحسنه . فقال شيخ من قريش جالس في جنبه : إلزمها يا بني فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم ؛ فقال القاسم : والله لأن تقطع لساني أحب الي من أن أتكلم بما لا علم لي به ) .
- ثانيًا : الحرص على الطلب وأخذ العلم من مظانه ، والبحث عنه والمذاكرة به ، وسؤال العلماء واستشارتهم فيما يشكل حتى ينشرح صدرك إلى القول الذي تراه أقرب الى الحق .
- ثالثًا : الحكمة في الدعوة ، وهي حسن التصرف ولباقة العرض وخفض الجناح ولين القول ، وقد أشارت إلى هذا الشرط الآية الكريمة . قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) . [ النحل : 125 ] .
- رابعًا : الرفق واللين في المخاطبة ولو كان المدعو جبارًا عاتيًا قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) الآية . [ آل عمران : 159 ] .
وقال لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) . [ طه : 43 - 44 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ) .
- خامسًا : الصبر ، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . [ الأحقاف : 35 ] .
وقال - أيضًا - : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) . [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : (( وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . [ العصر ] .
فالصبر هو أحد الصفات الأربع المشروطة في النجاة من الخسران ، وهي :
1 - الإيمان ويتضمن العلم لأن الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بمعلوم .
2 - العمل بالعلم والمقصود من العلم العمل ، قال سفيان الثوري : ( يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ) .
وقال مالك بن دينار : ( إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب ؛ كما يزل القطر عن الصفاء ) .
3 - التواصي بالحق : وهو الدعوة إلى الله - عز وجل - وإلى سبيله ومرضاته . قال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) . [ فصلت : 33 ] .
وقال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) . [ آل عمران : 110 ] .
4 - التواصي بالصبر على ما ينال الداعية من الأذى ، والأذى لابد أن ينال الداعية الصادق ولذلك فقد قرن الله - عز وجل - التواصي بالصبر مع التواصي بالحق وذم الناكلين عن الدعوة خوفًا من الأذى ؛ فقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ ) . [ العنكبوت : 10 ] .
- سادسًا : أن يكون الداعية عدلاً في أقواله وأفعاله . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) . [ النساء : 135 ] .
وفي الحديث : ( قل الحق ولو كان مرا ) .
- سابعا : أن يتصف الداعية بالتواضع . قال تعالى : ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) . [ الإسراء : 37 ] .
وفي الحديث : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ) .
- ثامنًا : أن يكون الداعية أسوة صالحة للمدعوين بأن يكون مسارعًا إلى الخير متباعدًا عن الشر حتى يكون مطبقًا لما يقول ؛ فيرضى عنه ربه ، وحتى لا تكون هناك فجوة بين قوله وفعله قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) . [ الصف : 2 - 3 ] .
قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وهذه الصفات الثمان كلها في شخصية الداعية . أما ما يتعلق بالطريقة ؛ فهي :
- تاسعًا : أن يبدأ بالأهم فالمهم ، وفي " الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل معاذًا إلى اليمن فقال : ( إنك تأتي قومًا أهل كتاب ؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ... ) الحديث .
- عاشرًا : أن يحرص على تصحيح العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك بالله الذي لا يقبل معه عمل بل ولا يغفر معه ذنب قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) . [ النساء : 48 ] .
سواء في ذلك شرك العبادة أو شرك التحكيم وهذان النوعان يخرجان صاحبهما من الملة . وهناك نوعان آخران من الشرك لا يخرجان صاحبهما من الإسلام وهما الشرك الأصغر والخفي ويجب على الداعية أن يبين جميع أنواع الشرك , وكذلك أيضا التحذير من البدع فإذا صفا العمل من هذين النوعين كان ما عداهما أهون يسعى في معالجته بادئا بالأهم فالمهم .
- الحادي عشر : أن لا يصرح بالأسماء وإن علم أصحابها ؛ فإن ذلك من سياسة الدعوة وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ) .
وفي حديث بريرة : ( فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) .
ولا يصرح بالأسماء إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك ؛ كأسماء المبتدعين الذين اتخذهم الناس قادة ، وعلى هذا جرى أهل الحديث ، وبهذا أخذ أهل السنة والجماعة . [ انظر " توحيد ابن خزيمة " ، و " الرد على بشر المريسي " ، لعثمان بن سعيد الدارمي ، و " كتاب السنة " ، لعبد الله بن أحمد وغيرها ] .
- الثاني عشر : أن يتخولهم بالموعظة حتى لا يسئمهم أو يملهم ، ولا يطيل عليهم كثيرًا حتى لا يحرجهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم شواغل ، فليكن الواعظ عونًا للناس على أنفسهم فالكلام القليل الجامع خير من كثير ينسي بعضه بعضًا ؛ إلا إذا دعي الشخص لندوة أو محاضرة فلا مانع أن يطيل إذا علم رضاهم ورغبتهم ، ولتكن - أيضًا - معقولة .
- الثالث عشر : التوكل على الله اعتمادًا عليه ورضى بكفايته واطمئنانًا إلى تدبيره . قال تعالى : ( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) . [ إبراهيم : 12 ] .
- الرابع عشر : بذل الوسع والطاقة في الدعوة إلى الله ، وأن نعطيها من جل أوقاتنا لا من فضولها ، واستغلال المناسبات وتحين الفرص ، ومتابعة الكلمات وترتيب القراءات في المساجد وما أشبه ذلك ، والمهم أن تستولي على همه حتى تكون شغله الشاغل ليل نهار هذا هو المفروض .
- الخامس عشر : اللجوء إلى الله دائمًا بكثرة الدعاء والتضرع إليه وطلب العون منه وإمداده بالتوفيق والسداد ، وصرف الشيطان عنه ليكون دائمًا متصلاً بربه مستعينًا على عدوه وراغبًا إليه فيما يصلحه ويصلح دعوته ، وأن يمده بالإخلاص فيها وفي كل ما يأتي ويذر .
وأخيرًا هذا ما أمكن تدوينه في هذه العجالة عن الدعوة والداعية ومن هو مجبول على النقص لا يكمل له عمل .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .