الحياء من الله
لفضيلة الشيخ الدكتور صالح السحيمي
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. صَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
أَمَّا بَعْدُ:
إخوتي وأحبتي في الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))
هذا الحديث فيه بيانٌ لأهمية الحياء من الله -سبحانه وتعالىٰ-، والحياء من الله -جلَّ وعلا- يتمثلُ في عدم مبارزته بالمعاصي، وفي عدم التهاون في الطاعات.
هذه حقيقة الحياء من الله؛ ولذلك فإنَّ حقيقة الحياء هي أن تستحي من الله -جلَّ وعلا-؛ وذلك بأن تفعل ما أوجب الله عليك، وأن تجتنب كل ما نهاك الله عنه، تتَّبع الأوامر، وتمتثل الأوامر، وتجتنب الزواجر والنواهي، وتكون دائمًا مراقبًا لربك في السرَّاء والضرَّاء، والمَنشط والمكره، والعسر واليسر؛ فهذه حقيقة الحياء من الله -سبحانه وتعالىٰ-، ولذلك فإن الذي لا يستحي من الله يفعل كل ما يخطر بباله أو توسوس به نفسه أو يملِيهِ عليه قرينه وشيطانه، إذا لم يكن حيِّيـًا من الله -جلَّ وعلا-، فإنه لا يُبالي بما يفعل، ولا بما يترك، ينهمك في المعاصي، ويقصِّر في الطاعات، ويلعب عليه الشيطان، ويسوِّل له ويسوِّف له، إلى أن يفارق هذه الدنيا ،وهو على غير هُدىً -والعياذ بالله-.
أما المسلم الحق: فهو الذي إذا وسوس له الشيطان وراودته نفسه الأمارة بالسُّوءِ على فعل أمرٍ منكر؛ تذكَّر أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- الذي يراك حين تقوم وتقلُّبَك في الساجدين- مُطَّلعٌ على حركاتك وسكناتك؛ وبالتالي سيجازيك عليها، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا.
ولهذا فإنَّ أعلى مراتب الدين هو الإحسان؛ الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، تؤدِّي العبادة أداء من يعلم أن الله لا تخفى عليه خافية، تؤديها مبتغيًا بها وجه الله -سبحانه وتعالىٰ-، تؤديها وأنت تقصد وجه الله، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ، ومن يعبد الله كأنه يراه يحقق أعلى درجات ومراتب الدين؛ ألا وهي: الإحسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مراتب الدين في حديث مجِيء جِبْرِيل إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرِّرُه فيما يجيب، فسأله عن الإسلام؛ فقال:
((أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ، ثم سأله عن الإيمان: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ؛ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
وجعل هذا خاتمة هذه المراتب؛ لأنها أعلىٰ درجات الدين، وأعلىٰ مراتب الدين؛ وهي: الإحسان.
وقد قسَّم الله المؤمنين في سورة فاطر على هذا المنوال؛ فقال -جل وعلا-:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ .
فحقيقةُ الإحسانِ يا عبد الله! أن تراقب الله في السرِّ والعلن، ومراقبة الله -تبارك وتعالىٰ- تقتضي منك أن تحاسب نفسك في الكلام، وفي الفكر، وفي العقيدة، وفي غُدوِّك