الحمد لله الشافي الكافي، الممرض المصح المعافي، وصلى الله على رسولنا وعلى والده إبراهيم، الذي قال الله على لسانه: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ".1
لم يؤت المرء نعمة أعظم وأفضل بعد الإيمان بالله ورسوله من نعمة العافية، فعلينا أن نشكرها ولا نكفرها، وأن نحذر من أن نغبن فيها، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"2، مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"3.
ولهذا عندما سأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم إمرة اليمن أوغيرها، قال له: "يا عباس، سل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة".
اللهم ارزقنا العافية في الدين والدنيا والآخرة.
لقد جمعت بين هذين الأمرين لارتباطهما، ولأن حكم أحدهما لا ينفك عن حكم الآخر.
دفعني لكتابة هذا البحث ما رفعه أحد المخلصين الأخيار من أن تعلم الطب ليس من فروض الكفايات، ولا من العلوم المهمات، مما أثار بعض التساؤلات، وأحدث شيئاً من الجدل والنزاعات، وفي اعتقادي أن الذي دفعه إلى إظهار هذا القول ونشره، والإفتاء به، بجانب قناعته أن التداوي ليس واجباً، وأن تعلم الطب ليس واجباً كفائياً، ردة فعل للواقع المعاش، متمثلاً في الآتي:
1. تغافل الناس عن العلوم الشرعية بصفة عامة، وعما يجب عليهم وجوباً عينياً نحو ربهم، ورسولهم، وإسلامهم، إذ العلم منه ما هو فرض عين على المكلف، ومنه ما هو فرض كفاية.
2. المخالفات الشرعية الكثيرة المصاحبة للتعليم الجامعي عموماً، التي أخطرها على الإطلاق الاختلاط غير المبرر، تقليداً للكفار، ولأن هذه الجامعات أنشئت وأسست على غرار الجامعات عند الكفار.
3. عزوف الكثيرين عن الدين وتعلقهم بأمر الدنيا، وحرصهم على الوظائف التي تعينهم على ذلك.
4. لا يجوز للمسلم أن يشتغل بأي علم من العلوم الكفائية أوغيرها من العلوم المباحة إلا بعد أن يتعلم ما أوجبه الله عليه.
5. استجابة لطلبه جزاه الله خيراً أن يناقش هذا الموضوع نقاشاً علمياً، مستنداً على الأدلة الشرعية، ومقاصد الشريعة المرعية، عملاً بقوله تعالى: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ"5، لفيف من أهل العلم وطلابه، بعيداً عن المراء والجدل وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
6. الكم الهائل من الأطباء غير المستوعبين، مع ندرة العلماء الشرعيين.
والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعافينا من دفع الحق وغمط الناس.
أما بعد..
فقد حان أوان الشروع في المطلوب، فنسأل الله العون والسداد والتوفيق والرشاد، فنقول:
أولاً: التداوي أوالعلاج
تعريفه
نعني بذلك جميع وسائل وصور التداوي المشروعة المتاحة، نحو:
1. الحِمْيَة، فالوقاية خير من العلاج، لهذا قال طبيب العرب الحارث بن كَلدة6: "المعدة بيت الداء، والحِمْيَة رأس الدواء"، الذي يرويه البعض حديثاً وهو ليس بحديث.
2. الدعاء والرقى الشرعية، وهي أنفع أنواع العلاجات لمن تحقق يقينه بها، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية).7
3. الطب النبوي، الوصفات الطبية والطرق العلاجية التي أثرت عنه صلى الله عليه وسلم، قال القحطاني في نونيته:
وتداوى بالعسل المصفى واحتجم فهما لدائــك كله بـرءان
4. العقاقير الطبية الحديثة والعمليات الجراحية.
5. الطب البلدي من الأعشاب ونحوها، مع الحرص على معرفة مقاديرها، قال القحطاني:
دبر دواءك قبل شـربك وليـكن متآلف الأجـزاء والأوزان
6. الطب البديل بصوره المختلفة.
مع الحذر من تمكين المتطببين من نفسك أوعرض نفسك عليهم.
حكم التداوي والعلاج
بعد أن أجمع أهل العلم على إباحة العلاج والتداوي وعلى مشروعيته، اختلفوا في أيها أفضل: فعله أم تركه، أم هو واجب؟ على ثلاثة مذاهب:
1. يستحب فعله.
2. يستحب تركه.
3. يجب فعله، ولكل فريق حججه وأدلته.
أدلة المستحبين للعلاج والتداوي
استدل المستحبون للعلاج وتعاطي الدواء سواء كان رقية، أوعقاقير، أوجراحة، أونحوها، بالآتي:
ما أخرجه أحمد في مسنده8: "أن عروة كان يقول لعائشة: يا أُمَّـتاه لا أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشِّعر وأيام الناس، أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس ـ أومن أعلم الناس ـ ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال9: فضربت على منكبيه وقالت: أي عُريّة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عن آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فكانت تنعت له الأنعات، وكنت أعالجها، فمن ثم علمتُ".
وروى الخلال في كتاب الطب بإسناده عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فتعالجه".10
وعن ابن عمر أنه اكتوى من اللقوة11، واسترقى من الحية.12
وبأن الحِجَامة سنة، فقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليها فقال: "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة".13
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: "ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شفاءاً".14
وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عباس رضي الله عنهما: "الشفاء في ثلاث: شَرْبة عسل، وشَرْطة مِحْجَم، وكيَّـة نار، وأنهى عن الكي".15
أدلة المستحبين لترك العلاج
استدل المستحبون لترك العلاج بالآتي:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرضت عليَّ الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رُفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه؛ قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سوادٌ قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً بغير حساب".
ثم دخل ولم يبيِّن لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم، أوأولادنا الذين وُلدوا في الإسلام، فإنا وُلدنا في الجاهلية.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكلون".
فقال عُكَّاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: "سبقك عكَّاشة".16
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل"17.
وبما رواه سعيد بن منصور بسنده عن العَّقـار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتوكل من أرقى واسترقى"18.
وبتخييره للجارية التي كانت تُصرع وتتكشف، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فخيَّرها بين أن يدعـوَ لها فتشفى وبين أن تصبر ولها الجنة، فاختارت الثانية، وسألته أن يدعو الله لها ألا تتكشَّف فدعا"19.
أدلة الموجبين للتداوي
واستدل الموجبون للتداوي بالآتي:
عن أسامة بن شريك قال: كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاءاً، غير داءِ واحد؛ قيل: ما هو؟ قال: الهَرَم".
وفي رواية: "إن الله لم ينزل داءاً إلا أنزل له شفاءاً، عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله."20
وعن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءاً، فتداووا ولا تتداووا بحرام."21
مذاهب أهل العلم المقتدى بهم في ذلك
الأحناف قالوا: إن التداوي مؤكد حتى أنه يداني الوجوب.
المالكية قالوا: يستوي فعله وتركه.
الشافعية قالوا: فعل التداوي أفضل من تركه، وقال بعض الشافعية إنه واجب.
الحنابلة قالوا: يُباح التداوي وتركه أفضل.
أقوال أهل العلم في ذلك
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم "لكل داء دواء..." الحديث في صحيح مسلم: (وفي هذا الحديث إشـارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا، وجمهور السلف، وعامة الخلف، قال القاضي22: في هذه الأحاديث جمل من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب، وجواز التطبّب في الجملة، واستحبابه بالأمور المذكورة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، وفيها رد على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية وقال كل شيء بقضاء وقدر، فلا حاجة إلى التداوي، وحجة العلماء هذه الأحاديث، ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضا من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار، وبالتحصن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير، والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها، ولابد من وقوع المقدَّرات، والله أعلم)23.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد، بل قد تنازع العلماء أيما أفضل التداوي أم الصبر؟ للحديث الصحيح، حديث ابن عباس عن الجارية التي كانت تُصرع وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فقال: "إن أحببتِ أن تصبري ولكِ الجنة، وإن أحببتِ دعوتُ الله أن يشفيكِ"24، فقالت: بل أصبرُ، ولكني أتكشفُ فادعُ الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف؛ ولأن خلقاً من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأُبَيّ بن كعب، وأبي ذرّ، ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي).25
وقال ابن مفلح26رحمه الله: (يباح التداوي، وتركه أفضل، نصَّ عليه ـ أي أحمد ـ قال في رواية المروذي: العلاج رخصة وتركه درجة أعلى منه؛ وسأله إسحـاق بن إبراهيم بن هاني في الرجل يمرض، يترك الأدوية أويشربها؟ قال: إذا توكل فتركها أحب إليّ.
وذكر أبوطالب في كتاب التوكل عن أحمد رضي الله عنه أنه قال: أحبُّ لمن عقد التوكل وسلك هذا الطريق تركُ التداوي من شرب الدواء وغيره، وقد كانت تكون به عللٌ فلا يخبر الطبيبَ بها إذا سأله؛ وقدَّمه ابن تميم وابن حمدان، وهو قول ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" متفق عليه؛ وذكر بعضهم أن فيه: "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون"، وذكره بعضهم من رواية مسلم وهو الصواب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اكتوى أو استرقى فقد بَرِئ من التوكل"27، رواه أحمد وغيره، وإسناده ثقات وصحَّحه الترمذي.
وروى سعيد28، حدثنا سفيان عن أبي نجيح عن مجاهد عن العقار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتوكل من أرقى أو استرقى"29، إسناده جيد... وقيل بل فعله أفضل وبه قال بعض الشافعية... وقطع به ابن الجوزي في المنهاج، واختاره الوزير ابن هبيرة في الإفصاح30؛ قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكدٌ حتى يداني به الوجوب؛ قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه، فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه).31
من آثر الصبر عند المرض على العلاج
هناك عدد من السلف، من الصحابة فمن دونهم، آثروا الصبر عند المرض على العلاج، منهم على سبيل المثال:
الخليفة الراشد أبوبكر الصديق رضي الله عنه، قال الحافظ ابن الجوزي في ترجمته عند وفاته: (وعن أبي السفر قال: مرض أبو بكر فعاده الناس؛ فقالوا : ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني؛ قالوا: وأي شيءٍ قال لك؟ قال: إني فَعَّال لما أريد).32
الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ندم على رجوعه من سَرْغٍ عندما نزل به الطاعون بالشام 18ﻫ؛ قال النووي: (قال القاضي عياض: وروي هذا عن عمر رضي الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ).33
أبوعبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، لقد حاوله عمر الخروج من الطاعون فناظره وقال: أتفرُّ من قدرِ الله؟ فقال عمر: ليت غيرك قالها، نفر من قدر الله إلى قدر الله، فخرج عمر وتركه.
قال ابن الجوزي: لما اشتعل الوجع قام أبوعبيدة بن الجراح في الناس خطيباً، فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه.
قال: وطعن34فمات رحمه الله، واستخلف على الناس معاذ بن جبل)35.
معاذ بن جبل رضي الله عنه، فما قاله أبو عبيدة قاله معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما استخلف.
قال ابن الجوزي: (واستخلف على الناس معاذ بن جبل فقام خطيباً بعده فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم ، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه.
قال: فطُعَن ابنه عبد الرحمن، قال: ثم قام فدعا ربه لنفسه فطُعِن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبِّل ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو ابن العاص).36
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، دخل عليه عثمان في مرضه فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي؛ قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي؛ قال: ألا أدعو لك الطبيب؟ قال: مرضني.37
أبوالدرداء رضي الله عنه، حين مرض قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: رآني الطبيب؛ قيـل له: ما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.38
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه.
أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه.
الجارية39التي كانت تصرع عندما خيَّرها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن تصبر ولها الجنة وبين أن يدعو لها بالشفاء، فاختارت الصبر.
الحسن البصري، كان يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل.
سعيد بن جبير رحمه الله.
مالك بن أنس الإمام رحمه الله كان به سلس البول لمدة عشرين سنة لم يخبر به أحداً إلا في أخريات أيامه ، دعك من أن يعالجه .
الإمام أحمد رحمه الله، فقد روى ابن مفلح عنه أنه كانت تكون به علل فلا يخبر الطبيب بها إذا سأله، وروي له في مرض موته أن طاوساً كان يكره أنين المريض ويعده من باب الشكوى، فما أَنَّ حتى مات.
إبراهيم الحربي رحمه الله، وهو من تلاميذ الإمام أحمد كانت به شقيقة أربعين سنة لم يعلم بها أهله، دعك عن غيرهم .
داود بن علي الظاهري.
من تعاطى الرقية والدواء
سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فعله تشريعاً لأمته.
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ابن عمر رضي الله عنهم .
روى ابن عبد البر بسنده: (أن ابن عمر كان إذا دعا طبيباً يعالج أهله اشترط عليه ألا يداوي بشيء مما حرَّم الله، واكتوى ابن عمر وغيره من السلف، وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق، قال مالك: لا بأس بذلك).
عمران بن حصين رضي الله عنه، وقد كان مريضاً بالناسور ثلاثين عاماً وكانت الملائكة تزوره وتعوده، وعندما اكتوى انقطعت منه وعندما امتنع من الكي عاودته مرة ثانية.
ولهذا فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية صلاة المريض، فقال له: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"، أخرجه البخاري.
عطاء بن أبي رباح رحمه الله.
التداوي لا ينافي التوكل
اعلم أخي الحبيب أن التداوي والعلاج لا ينافي التوكل، إذ التوكل اعتماد القلب على الله سواء أخذ المرء بالأسباب أم لا، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن استشاره في عدم عقل ناقته لتوكله: "اعقلها وتوكل"، الحديث.40
وقال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً"، الحديث.41
ولهذا فقد أمر الإمام أحمد جماعة من أهل اليمن عندما عزموا على الحج من غير تزود بالتزود، وتلا عليهم الآية: "وتزوَّدوا فإن خير الزاد التقوى"42، وعندما أصرُّوا على ذلك قال لهم: لا تخرجوا مع القافلة، فقالوا: مالنا بدٌّ من الخروج معهم؛ فقال لهم: إذاً على جُرُبِ القوم توكلتم.
قال الإمام النووي رحمه الله موفقاً بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرقون ولا يسترقون"، وغيره من الأحاديث التي تنهى عن الرَّقى وبين قول عائشة رضي الله عنها: "كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، قال: بسم الله يُبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شرِّ كل حاسدٍ إذا حسد وشرِّ كل ذي عين".43
قال: (قوله "إن جبريل رقى النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكر الأحاديث بعده في الرقى، وفي الحديث الآخر في الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون"، فقد يُظن مخالفاً لهذه الأحاديث، ولا مخالف، بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار، والرقى المجهولة التي بغير العربية، وما لا يعرف معناها، فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر، أوقريب منه، أومكروه؛ وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة؛ ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين: أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل، والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البر، و حكاه عمن حكاه؛ والمختار الأول، وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى).
وقال المازري44: (فيحتمل أن يكون النهي كان ثابتاً ثم نُسخ، أويكون النهي لأنهم كانوا يعتقدون منفعتها بطبيعة الكلام كما كانت تعتقد الجاهلية، فلما استقر الحق في أنفسهم وارتاضوا بالشرع أباحها لهم مع اعتقادهم أن الله هو النافع الضار، أويكون النهي في الرقى الكفرية).45
وقال الحافظ ابن عبد البر: (اختلف العلماء في هذا الباب فذهبت منهم طائفة إلى كراهية الرّقى والمعالجة، قالوا: الواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاماً بالله تعالى، وتوكلاً عليه، وثقةً به، وانقطاعاً إليه، وعلماً بأن الرقية لا تنفعه، وأن تركها لا يضره، إذ قد عَلِم الله أيام المرض و أيام الصحة، فلا تزيد هذه بالرقى والعلاجات، ولا تنقص تلك بترك السعي والاحتيالات، لكل صنف من ذلك زمن قد علمه الله، ووقت قدّره قبل أن يخلق الخلق، فلو حرص الخلق على تقليل أيام المرض وزمن الداء، أوعلى تكثير أيام الصحة، ما قدر على ذلك؛ قال الله عز وجل: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا"، ثم قال: وذهب آخرون من العلماء إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي، وقالوا: إنه من سنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها، لروايتهم لها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم، وعند نزول البلاء بهم في التعوّذ بالله من كل شر، وإلى الاسترقاء، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء.
ثم قال بعد أن ذكر أدلة كل من الفريقين: والذي أقول به أنه قد كان من خيار هذه الأمة وسلفها وعلمائها قوم يصبرون على الأمراض حتى يكشفها الله، ومعهم الأطباء، فلم يعابوا بترك المعالجة، ولو كانت المعالجة سنة من السنن الواجبة، لكان الذم قد لحق من ترك الاسترقاء والتداوي، وهذا لا نعلم أحداً قاله، ولكان أهل البادية والمواضع النائية عن الأطباء قد دخل عليهم النقص في دينهم، لتركهم ذلك، وإنما التداوي والله أعلم أباحه على ما قدمنا لميل النفوس إليه وسكونها نحوه، "لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ"، لا أنه سنة، ولا أنه واجب، ولا إن العلم بذلك علم موثوق به لا يُخالف، بل هو خطر وتجربة موقوفة على القدر، والله نسأله العصمة والتوفيق وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء).46
وقال العلامة ابن القيم: (وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد بأضدادها، بل لا يتمّ حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث أن معطِّلها يعتقد أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل، الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطِّلاً للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً.
وفيها ردٌّ على من أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قدِّر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدِّر فكذلك، وأيضاً فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يُدفع ولا يُردُّ؛ وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا)47.
وقال الحافظ ابن عبد البر: (روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشَعَر"48، واكتوى ابن عمر وغيره من السلف49؛ فمن زعم انه لا معنى للرقى والاستعاذة، ومنع من التداوي، والمعالجة، ونحو ذلك مما يلتمس به العافية من الله، فقد خرج من عرف المسلمين، وخالف طريقهم، قالوا: ولو كان الأمر كما ذهب إليه من كره التداوي والرُّقى، ما قطع الناس أيديهم وأرجلهم وغير ذلك من أعضائهم للعلاج، وما افتصدوا، ولا احتجموا، وهذا عروة ابن الزبير قطع ساقه.
قالوا: ويحتمل أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم لا يسترقون ولا يكتوون"، أن يكون قصد إلى نوع من الكيِّ مكروه منهي عنه، أويكون قصد إلى الرُّقى بما ليس في كتاب الله ولا من ذكره، وقد جاء عن أبي بكر الصديق كراهية الرقية بغير كتاب الله وعلى ذلك العلماء).50
الخلاصة
الخلاصة أن التداوي جائز ومباح وقد فعله سيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم فلا حرج البتة على من تعاطاه، وكذلك لا حرج على من آثر الصَّبر على المرض وأخذ بالعزيمة إن كان من أهل اليقين والتوكل، وإلا فالأفضل في حقه مباشرة العلاج مع كامل اليقين أن الله هو الشافي، وعليك أخي المسلم أن تسأل الله العافية، ولا تكن مثل ذلك الشيخ الصوفي الذي قال: اللهم ابتليني بما شئت؛ فحُصِر بوله، فكان يطوف على الصبيان في الكتاتيب ويقول لهم: ادعوا لعمِّكم الكذاب.
يتبع