التفريق بين فقه النفس وفقه الواقع
عرَف المتقدِّمون فقه الواقع باسم ( فقه النفس )، وبين القديم والجديد فروق جوهرية تتجلى من كلمة ذهبية لابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث يقول: " ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يُعدَم أجرين أو أجرا، فالعالم مَن يتوصَّل بمعرفة الواقع والتفقّه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصَّل شاهد يوسف بشقّ القميص مِن دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصَّل سليمان بقوله: » ائتوني بالسكين حتى أشقّ الولد بينكما « إلى معرفة عين الأم، وكما توصّل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حمَلت كتاب حاطب لمّا أنكرته: " لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لنُجَرِّدَنّك " إلى استخراج الكتاب منها، وكما توصّل الزبير بن العوّام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله حتى دلَّهم على كنز حُيَي لمّا ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: " المال كثير والعهد أقرب من ذلك "، وكما توصّل النعمان بن بشير بضرب المتهَمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب مَن اتّهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله . ومَن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بَعث الله بها
رسوله ".
ومن خلال هذه الأمثلة وشرح ابن القيم لها يتبيَّن لك أنه ـ رحمه الله ـ يتحدَّث عن الفراسة التي يُؤْتاها الحاكم حينما تعرض له قضايا يَجهلها ولا يَعرف واقعها، لا كما ظَنَّ قوم ـ حين وجدوا ابن القيم استعمل لفظ ( فهم الواقع والفقه فيه ) ـ أنه يعني فقه الواقع الذي استحدثوه، وفسَّروه بالاطِّلاع على الواقع ومتابعة أخباره! فإن هذا المعنى لم يُعَرِّج عليه ـ رحمه الله ـ قط، لأنه ليس عِلماً فكيف يكون فقهاً وهو مقدور لكل ( حشّاش ) ونوكي؟! ثم إنني ما زدْتُ ههنا على أن نقلْتُ كلامه الذي في » إعلام الموقعين « ـ وهو الذي أخطأوا فهمه ـ بشرحه له هو نفسه في » الطرق الحكمية «.
ولذلك صدَّر ابن القيم كتابه » الطرق الحكمية في السياسة الشرعية « بالحديث عن فراسة الحاكم والقاضي، بل لقد جاء عنوانه في بعض المخطوطات: » الفِراسة المَرْضية في أحكام السياسة الشرعية « فتدبّر! ومِن كلام ابن القيم هذا أخذت تسمية كتابي، فوصفت القادر على هذا النوع من الفهم بوصفين هما: الاجتهاد والفراسة.
لذا فإن الذي ننعاه على متفقهي زماننا في واقع المسلمين ليس هو مجرد الاطلاع على مكايد الأعداء، فهذا شرّ لا بدَّ من معرفته، ولكن ننعى عليهم ما يأتي:
أ ـ تأسيسهم الإصلاح على العمل السياسي، وهذا الخطأ وحده كاف لإسقاط منهجهم كله نظرا لمخالفته منهج الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فكيف وقد انضمّ إليه ما سيأتي.
ب ـ دخولهم في العمل السياسي وإفتاؤهم في قضاياه وليسوا من أهله قال الله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ**.
ج ـ ومِنْ ثم افْتِياتهم على أهله:العلماء والأمراء، قال الله تعالى: {ولَوْ رَدّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ**.
د ـ ومِنْ ثم طعنهم في أهله، وهو انحراف واقع، ما له من دافع، لأن صدورهم أضيق عن تحمُّل خلافهم لهم، لو كان لخلافهم اعتبار، ولقد ساءني جدا أن أقرأ جواب سلمان العودة على سؤال مجلة » الإصلاح « الإماراتية عن قضية الخليج، حيث قال: " وأكَّدَت على أنهم ليسوا على مستوى مواجهة مثل هذه الأحداث الكبيرة، وكشفَتْ كذلك على عدم وجود مرجعية علمية صحيحة وموثوقة للمسلمين بحيث أنها تحصر نطاق الخلاف وتستطيع أن تُقدِّم لها حلاًّ جاهزا صحيحا وتحليلا ناضجا ..!!".
يَعلم الله أنني كنت أعلم ما عند سلمان من مزالق مهلكة، لكنني لم أتصوره يوما ما بهذا المستوى والجرأة على أهل العلم، ولو أخبرني به أحد لكذّبتُ أو تأوّلتُ؛ لأنه لو جاز لأحد أن يُسقط جهود العلماء بل أن ينفي وجودهم لم يجز لسلمان أن يكون فريسته، لأنه يعيش بين ظهراني هيئة كبار العلماء، التي كثيرا ما يُظهر توقيره لها، فهل هي عنده مرجعية علمية غير صحيحة؟! وهل فتاواها تحليلات غير ناضجة؟! وهل يُعَدّ الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين غير موثوقين حتى يَعتبر وجودهم كالعدم؟! اللهم إن هذا لظلم عظيم!
هذا وليَقُل المتعصبون للرجال: لعله لا يقصد ذلك! أو لا بدَّ من قراءة السابق واللاحق! فقد تركنا لكم الوقت لذلك فهل أنتم فاعلون؟
وهذا المزلق انحراف شنيع؛ لأنه :
ـ إما طعن في العلماء، فقد صحّ عن عبادة بن الصامت t أن رسول الله قال: (( ليس من أمتي مَن لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويَعرف لعالمنا حقه )) رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
مستل من كتاب مدارك النَّظر في السّياسة بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
تأليف:عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني