وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* مفردات الحديث:
- الكلب: بفتح فسكون، حيوان معروف، والأنثى كلبة، والجمع كلاب، والكلب مشهور بشدة الرياضة والوفاء.
قال علماء الأحياء: الكلب حيوان أهلي من الفصيلة الكلبية ورتبة اللواحم، ومنه سلالات كثيرة.
- مهر البغي: المهر هو العوض الذي يقدم في النكاح، ويسمى ما يدفع للزانية تجوزًا؛ لكونه على صورته.
- البَغي: بفتح الموحدة وكسرة الغين وتشديد الياء، هي الزانية، أصله بغوي على وزن فعيل بمعنى فاعله، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فصار بغُي، ضم الغين، فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء، وتجمع البغي على بغايا.
فالبغاء: بكسر الباء ممدودًا هو الطلب، وكثُر استعماله في الزنا، فيقال: بغت المرأة تبغي بغاء: إذا زنت، فهي بغي فعولٌ بمعنما فاعلة، نسأل الله العافية.
- حُلْوَان الكاهن: بضم الحاء المهملة مصدر حلوته حلوانًا إذا أعطيته، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلاً بلا مشقة، فهو ما يأخذه الكاهن على
__________
(1) البخاري (2237)، مسلم (1567).
كهانته، أما الكاهن فهو الذي يدعي علم الغيب، وهو شامل للعرَّاف، والمنجِّم، وضرَّاب الحصى، وقاريء الكف، وغيرهم من الدجالين والمشعوذين.
قال ابن الأثير: الكاهن الذي يخبر بالغيب المستقبل، والعرَّاف الذي يخبر بما خفي، فبعضهم زعم: أنَّ له تابعًا من الجن يلقي إليه الأخبار، وبعضهم يزعم: أنَّه: يعرف الأمور بمقدمات وأسباب، يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله، أو فعله، أو حاله، ومنهم من يدَّعي أنه يستدرك الأمور بفهمٍ أُعطيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ** [البقرة: 172] فهو تبارك وتعالى أحلَّ الطيبات وحرَّم الخبائث، فالمكاسِب الخبيثة حرَّمها، فكان مما حرَّم ما جاء في هذا الحديث الشريف.
2 - الكلب أنجس الحيوانات وأقذرها، فنجاسته لا يطهِّرها إلاَّ التراب، مع تكرير الغسل سبعًا، فنهى عن اقتنائه، وبيعه، واتخاذه، ما لم تشتد الحاجة إليه، لحراسة الغنم، أو الزرع، أو يتَّخذ للصيد فيباح اقتناؤه، أما النَّهي عن ثمنه فهو يحتمل أحد أمرين:
أحدهما: أنَّ النَّهي عن ثمنه؛ لأنَّه حرام، وهذا يقول به من يرى بطلان بيعه، وتحريم ثمنه، وهم جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، سواء جاز اقتناؤه، أو لا.
أما الإمام أبو حنيفة فيرى صحة بيعه، وإباحة ثمنه، والنَّهي عنه إنَّما هو لدناءته، لا لتحريمه، والراجح هو القول الأول.
3 - سيأتي في حديث أبي الزبير عند مسلم زيادة للنسائي "إلاَّ كلب صيد" وبعض العلماء قيد إطلاق الحديث بها، والجمهور اعتبروها شاذةً وأخذوا بعموم الحديث.
4 - الزنا من أعظم المعاصي، وأفحش المنكرات، فما يؤخذ عليه من أجرٍ فهو خبيث حرام، سواء كانت الزانية حرةً، أو أمةً.
5 - ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به ذنب عظيم، وإثم كبير، وذلك بمثل ما يدعيه الكهان، والعرَّافون، والمنجمون، وأصحاب الشعوذة من أنَّهم يعلمون المغيبات، من الأمور المستقبلة، والأشياء الخفية، لاسيما إذا جعلت هذه الدعاوي الباطلة وسيلة لسلب أموال الناس بالباطل.
6 - أنَّ ما يندر من صدق هدذه الدعوى الغيبية لا تكون إلاَّ بإخبار الشياطين لهم، والشياطين لا يخبرونهم إلاَّ إذا خدموهم وأطاعوهم بالكفر بالله تعالى، وما دونه من المعاصي، كما قال تعالى عنهم: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا** [الأنعام: 128].
7 - الإتيان إلى هؤلاء الدجالين معصية قد تصل إلى الكفر عند تصديقهم بما يقولون، ففي الحديث "من أتى عرَّافًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمَّد" [رواه أحمد (9171)].
8 - فالحديث ينهى عن الأمور التي تمس الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، فيكون النَّهي فيها أشد، وعنها آكد، والنَّهي يقتضي التحريم.
9 - الإسلام دين صدق فلا يقر الدجالين والمشعوذين، ودين طهارة ونزاهة فلا يرضى كسب المال بالطرق الوسخة والفاحشة المنكرة، ودين جِد فلا يرضى أخذ أموال الناس إلاَّ بطرقٍ نافعةٍ يستفيد منها الطرفان، أما المنَافع المحرَّمة فلا يعترف بها، ولا يجعل لها ثمنًا، ولا وزنًا.
10 - إذا كانت هذه الأمور منكرة فالعقود التي توصل إليها محرَّمة باطلة، وما ترتب عليها من كسب فهو حرام، فنهي الشارع يقتضي التحريم والفساد.
11 - جاء في بعض روايات الحديث: "وثمن الدم"، والدم المسفوح، ومنه
المسحوب من بدن الصحيح للمريض، فبيعه حرام، ولكن إذا اضطر إليه للمريض، أو للعمليات، فدفع العوض فيه جائز من أجل الضرورة، والإثم إنما هو على الآخذ، وليس على الباذل للعوض لحاجةٍ أو ضرورة إثمٌ، وقد أصدر في هذا مجلس كبار العلماء قرارًا، ذكروا فيه هذا التفصيل في حكمه.
***