الحلـــــــــــــــقة الثالثــــــــــــــــــة :
ومن آثار الذنوب والمعاصي :أنها تورث الوحشة في قلب العبد وضيق صدره :
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- :
( ومن أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله ،وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره ، ومحبة سواه ؛ فإن من أحب شيئاً غير الله عُذِّب به،وسجن قلبه في محبة ذلك الغير ، فما في الأرض أشقى منه ،ولا أكسف بالاً،ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً .
فهما محبتان :محبة هي جنة الدنيا وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها ، بل حياتها وقرة عينها ، وهي محبة الله وحده بكل القلب، وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه، ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر ، وهي سبب الألم والنكد والعناء ، وهي محبة ما سواه سبحانه ) زاد المعاد(2/25) .
ومن عقوبات المعاصي والآثام :انتشارُ الأمراض النفسيّة بين أفراد المجتمع، وحلولُ المخاوف والقلق والاكتئاب، وحصولُ الهمّ والضجر ..
وذلك لأن الذنوبَ تَصرِف القلوبَ عن صحّتها واستقامتها إلى مرضها وانحرافها، فـلا يزال القلبُ مريضاً معـلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياتُه وصلاحُه،فتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان،بل الذنوبُ أمراضُ القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلا بتركها .
قال جـلَّ وعلا: ( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍوَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) سورة الانفطار،الآية:13-14.
قال ابن القيم : (ولا تحسبنَّ أنّ النعيم في هذه الآية مقصورٌ على نعيم الآخرة وجحيمها فقط،بل في دورهم الثلاثة هم كذلك،-أعني:دار الدنيا ودار البرزخ ودارَ القرار- فهؤلاء أي: أصحاب الطاعة- في نعيم، وهؤلاء -أصحابُ العصيان- في جحيم،وهل النعيم إلاَّ نعيمُ القلب؟! وهل العذاب إلا عذاب القلب؟! وأيّ عذابٍ أشدّ من الخوف والهمّ والحزن وضيق الصدر) الداء والدواء (79) .
فأهلُ الطاعة والتقوى في مأمن من الهموم والغموم،وفي بعد عن الضجر والقلق،ذلك بأنهم حقّقوا طاعةّ الله،واجتنبوا معاصيَه، فربنا جلَّ وعـلا يقول: ( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة الأنعام:48 .
ويقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) سورة الأحقاف،الآية:13.
أمَّا المُعْرِضُ عن طاعة ربه وسيده ومولاه ،فهو في هموم متلاحقه،وأحزان متتابعة،وقلق مستمر ..وتراه في وحشة دائمـة يجـدها في قلبـه بينه وبين الله سبحانه لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلاً،ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها، لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلاَّ مَن في قلبه حياة ،وما لجرح بميت إيلام،فلو لم تترك الذنوب إلا حذراً من وقوع تلك الوحشة ،لكان العاقل حَرِيّاً بتركها.
شكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه، فقال له:
إذا كنتَ قد أوحشتك الذنوب ... فـدعـها إذا شئتَ واستأنسِ
وليس على القلب أمرُّ من وحشة الذنب على الذنب.
يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله- مُبَيِّناً بعض أضرار الذنوب: (ومنها : ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمَّ،فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره،فإن الطاعة نور،والمعصية ظلــمة،وكلَّما قويت الظلمة ازدادت حيرته،حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر،كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سواداً في الوجه،حتى يراه كل أحد .
قـال عبد الله بن عباس-رضي الله عنه-: (إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه ،ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوة في البدن،ومحبة في قلوب الخلق، وإنَّ للسيئة سواداً في الوجه،وظلمة في القبر والقلب ،ووهنا في البدن ،ونقصاً في الرزق ،وبغضة في قلوب الخلق ) .
ويقول سبحانه: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىقَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراًقَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) سورة طـه،الآية:124-126 .
فالمعرض عن طاعة الله تعالى وذكره والرغبة إليه : حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه ، منكدة ،معذباً فيها .
يتبع إنْ شاء الله تعالى .