قال الحافظ السّيوطيّ رحمه الله :
" لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبيّنا صلّى الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز ،
قال قومٌ : وجهُ إعجازِه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ،
ولم يكن ذلك من شأن العرب .
وقال آخرون : ما تضمَّنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين ،
حكاية مَن شاهدها وحضَرها .
وقال القاضي أبو بكر :
وجْهُ إعجازه ما فيه من النّظم والتأليف والترصيف ،
وأنه خارج عن جميع وجوه النّظم المعتاد في كلام العرب ،
ومُباينٌ لأساليب خطاباتهم ،
قال :
ولهذا لم يمكنهم معارضته .
وقال ابن عطية : الصحيح
– والذي عليه الجمهور والحذّاق –
في وجه إعجازه :
أنّه بنظمه وصحّة معانيه وتَوَالي فصاحة ألفاظه ،
وذلك أنّ الله أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ،
فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ،
علم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تَلِي الأُولى وتُبيّن المعنى بعد المعنى ،
ثم كذلك مِن أول القرآن إلى آخره .
والبشر يعمُّهم الجهل والنسيان والذهول .
ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر
لا يحيط بذلك ،
فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة .
وبهذا يبطل قول من قال :
إنّ العرب كان في قدرتها الإتيان
بمثلِه ، فصُرِفوا عن ذلك ،
والصحيح أنه لم يكن في قدرة
أحد قط .
ولهذا ترى البليغ يُنقِّح القصيدة
أو الخطبة حولا ،
ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلمّ جرّا ،
وكتاب الله تعالى لو نَزَعْتَ منه
لفظةً ،
ثم أُدير لسان العرب على لفظة
أحسن منها لم يوجد .
ونحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع ،
لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ
في سلامة الذّوق ،
وجودة القريحة .
وقامت الحجّة على العالم
بالعرب ؛
إذ كانوا أرباب الفصاحة ،
ومظنّة المعارضة ،
كما قامت الحجة في معجزة
موسى – عليه السلام – بالسّحَرة ، وفي معجزة عيسى
– عليه السلام – بالأطبّاء ،
فإنّ الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما تكون في
زمن النّبيّ الذي أراد إظهاره ،
فكان السّحر قد انتهى في مدّة موسى – عليه السلام –
إلى غايته ،
وكذلك الطبّ في زمن عيسى
– عليه السلام – ،
والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال المراكشيّ في
" شرح المصباح " :
الجهة المعجزة في القرآن تُعرف بالتفكُّر في علم البيان ،
وهو – كما اختاره جماعة في
تعريفه –
ما يُحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى ، وعن تعقيده ، ويعرَف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال ...
... لأن تعجُّبهم كان من فصاحتِه ،
ولأنّ مسيلمة وابن المقفّع
والمعري وغيرهم ، قد تعاطوها ،
فلم يأتوا إلاّ بما تمجّه الأسماع ، وتنفر منه الطباع ،
ويضحك منه في أحوال تركيبه ،
وبها - أي : بتلك الأحوال -
أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء .
فعلى إعجازه دليل إجماليٌّ ،
وهو أنّ العرب عجزت عنه
وهو بلسانها ، فغيرُها أحرى .
ودليل تفصيليٌّ ،
مقدمته التفكُّر في خواص تركيبه ،
ونتيجته العلم بأنه تنزيلٌ من المحيط بكل شيء علما " .
نقلته من : الإتقان في علوم القرآن
( 2 / 1005 - 1009 )
ط : دار ابن كثير .
مع شيء من الاختصار .