الإمام الشوكاني
المولود : 1173 ـ 1760م .
المتوفى : 1250 ـ 1834م .
هو : أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق ، الشوكاني (1) .
وقد أوصل الشوكاني نسبه إلى سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ عند ترجمته لوالده ـ رحمه اللّه تعالى ـ في البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2) .
* مولده :
ولد ـ رحمه اللّه تعالى ـ يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجه سنة 1173 هجريه في بلدة " هجرة شوكان " (3) .
قال الإمام الشوكاني ـ عند الكلام على ترجمة والده :
" ونسبة صاحب الترجمة إلى شوكان ليست حقيقية ؛ لأن وطنه ووطن سلفه وقرابته " شوكان " بينه وبينها جبل كبير مستطيل يقال له : " هجرة شوكان " فمن هذه الحيثيه كان إنتساب أهله إلى " شوكان " (4) .
* نشأته وطلبه للعلم :
نشأ ـ رحمه اللّه تعالى ـ بصنعاء اليمن ، وتربى في بيت العلم والفضل فنشأ نشأة دينيه طاهرة ، تلقى فيها معارفه الأولى على والده وأهل العلم والفضل في بلدته ، فحفظ القرآن الكريم وجوّده ، ثم حفظ كتاب " الأزهار " للإمام "المهدي " في فقه الزيديه ، ومختصر الفرائض للعُصيفيري و الملحه للحريري ، والكافيه والشافيه لابن الحاجب ، وغير ذلك من المتون التي اعتاد حفظها طلاب العلم في القرون المتأخرة .
وكان ـ رحمه اللّه تعالى ـ كثير الإشتغال بمطالعة كتب التاريخ ، والأدب ، وهو لايزال مشتغلاً بحفظ القرآن الكريم .
ومما ساعد الإمام الشوكاني على طلب العلم والنبوغ المبكر : وجوده وتربيته في بيت العلم والفضل ، فإن والده ـ رحمه اللّه تعالى ـ كان من العلماء المبرزين في ذلك العصر ، كما أن أكثر أهل هذه القريه كانوا ـ كذلك ـمن أهل العلم والفضل .
* قال الشيخ " الشوكاني " عن والده وأهل قريته :
"... وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الزمان ، لايخلو وجود عالم منهم في كل زمن ، ولكنه يكون تارة في بعض البطون ، وتارة في بطن أخرى ، ولهم عند سلف الأئمة جلالة عظيمة ،وفيهم رؤساء كبار ، ناصروا الأئمة ، ولاسيما في حروب الأتراك ، فإن لهم في ذلك اليد البيضاء ، وكان فيهم إذ ذاك علماء و فضلاء ، يعرفون في سائر البلاد الخولانيه بالقضاة " (5) .
وهكذا استطاع " الشوكاني " أن يستفيد من علماء عصره ، وما أكثرهم ، فأخذ يطلب العلم بجميع فنونه : فقرأ " شرح الأزهار " على والده ، و " شرح الناظري " على " مختصر العصيفيري " .
كما قرأ " التهذيب " للعلامة التفتازاني ، و " التلخيص " في علوم البلاغة للقزويني ، والغاية لابن الإمام ، و " مختصر المنتهى " لابن الحاجب في أصول الفقه ، و " منظومة الجرزي " في القراءات و "منظومة " الجزار في العروض ، و " آداب البحث والمناظرة " للإمام العضد ، وما إلى ذلك من سائر العلوم النقلية والعقلية .
وظل هكذا ينتقل بين العلماء ، يتلقَّى عليهم ، ويستفيد منهم ، حتى صار إماماً يشار إليه بالبنان ، ورأسا يرحل إليه ، فقصده طلاب العلم والمعرفة للأخذ عنه ، من اليمن والهند ، وغيرهما حتى طار صيته في جميع البلاد ، وانتفع بعلمه كثير من الناس (6) .
وقد تأثر الإمام الشوكاني بشخصيَّات كثيرة من العمالقة الذين كانوا قبله :
منهم من بلده اليمن ، وأشهرهم : العلامة محمد بن إبراهيم الوزير ، والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ( ت 1182ه ) ، والعلامة الحسن بن مهدي المقبلي ( ت 1108ه ) ، والحسين أحمد الجلال ( ت 804 ه ) .
ومنهم من غير بلده ولم يكونوا في عصره ، وعلى رأسهم : إمام الدنيا ابن حزم الأندلسي ( ت 456ه ) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ( ت 728 ه ) .
* صفاته الخلقية والخُلقية :
لم تذكر كتب التاريخ والتراجم عن صفاته " الخلقية " سوى أنه كان متوسط الطول ، كبير الرأس ، عريض الجبهة ، بادي الصحة ، موفور العافية .
أما صفاته " الخُلقية " فكثيرة ومشهورة ، حتى ألف في مناقبه وفضائله الكثيرون من تلاميذه ، منهم :
1 ـ السيد العلامة إبراهيم بن عبداللّه الحوثي .
2 ـ العلامة محمد بن محمد الديلمي .
3 ـ القاضي العلامة محمد بن حسن الشجني الذماري ، ألف في ذلك كتاباً حافلاً سماه : " التقصار في جيد زمن علامة الأقليم والأمصار " .
والواضح في حياة " الشوكاني " أنه بدأ حياته منقبضاً عن الناس ، لايتصل بأحد منهم ، إلا في طلب العلم ونشره ، ولا سيما هؤلاء الذين يحكمون أو يتصلون بالحاكمين ، وكان يرسل فتاويه ، ويصدر أحكامه دون ان يتقاضى عليها أجراً .
وكانت حياته بسيطة متقشفة ، يعيش على الكفاف الذي وفره له والده فلما تولى القضاء ، وأجزل له الأجر ، تنعم في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه ، وأضفى على تلاميذه وشيوخه مما وسع اللّه عليه به .
ويذكر بعض المؤرخين أن " الشوكاني " اختص بالكثير من الإقطاعات والصدقات ، وهم يؤكدون أنه لم يترك من ذلك شيئاً ، بعدما عمل في القضاء دام أكثر من أربعين عاماً ، بل كان ينفق ذلك كله في طرق الخير والبر .
ومن المؤكد ـ كذلك ـ أن الدنيا لم تكن أكبر همه ، وأن عرضها الزائل لم يكن يشغله عن الهدف الأسمى الذي وضعه لنفسه ، وهو نشر دين اللّه تعالى وإحقاق الحق . ولذلك كان يقدر أهل العلم والفضل ، الذين لايتكالبون على جمع حطام الدنيا ، والتقرب إلى الحكام .
فيذكر بالتقدير والإجلال ذلك العالم الفاضل : " إسماعيل بن علي بن حسن " الذي كان يحضر مجلس الإمام ويقول : " لم أسمع منه على طول مدة اجتماعي به هناك مؤذنة بالخضوع لمطلب من مطالب الدنيا ، لا تصريحاً و لا تلويحاً " (7) .
وكان " الشوكاني " باراً بشيوخه وتلاميذه ، فتح أمامهم أبواب العمل في الدوله ، ودافع عنهم ، وتشفع لهم عند الأئمة في كل أمر وقعوا فيه . وبالرغم من حدة ذكائه ، وجودة ذهنه ، وتشدده لآرائه واجتهاداته ، لم يكن يحط من قدر علمه ليدخل في مهاترات المتعالمين ، وكانت قسوته على الأفكار والآراء ، لاعلى الأشخاص ، لأنه كان يدرك أنه سبق هذا الجيل بأجيال ، فترك ثروته العلمية والفكرية لتتفاعل مع الزمن ، يكشف عن وجهها ما تبديه قرائح العلماء " (8) .
وبالجمله : فمحل القول في هذا الأمام ذو سعة ، فإن وجدت لساناً قائلاً فقل :
زد في العلا مهما تشا رفعة *** وليصنع الحاسد ما يصنع
فالدهر نحوي كما ينبغي *** يدري الذي يخفض أو يرفع (9)
* عقيدته :
يرى " الشوكاني " أن طرق المتكلمين لاتوصل إلى يقين ، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما هدفت إليه ، لأن معظمها ـ كما يقول ـ قام على أصول ظنية ، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل ، والفريه على الفطرة .فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً تخالف ما عليه الآخر ، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو صحيحاً ، من حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر ، فبطل عنده ما صح عند غيره ، وقاسوا بهذه الأصول المتعارضه كلام اللّه ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من العقائد ، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما يعتقده الآخر (10) .
ثم جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تبارك وتعالى ، فأثبتوا للّه تعالى الشيء ونقيضه ، ولم ينظروا إلى ما وصف اللّه به نفسه ، وما وصفه به رسوله ، بل إن وجدو ذلك موافقاً لما تعقلوه ، جعلوه مؤيداً له ومقوياً ، وقالوا : قد ورد دليل السمع مطابقاً لدليل العقل ، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه ، جعلوه وارداً على خلاف الأصل ومتشابهاً وغير معقول المعنى ، ولا ظاهر الدلاله ، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم ، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه ، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنه ، وجعل المتشابه عند أولئك محكماً عنده ، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده (11) .
ومن مظاهر هذا التناقض : ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات ، بناء على مبدئهم في التنزيه ، وما غلا الأشعرية من الوقوع في التجسيم ، بناء على ما ذهبوا إليه من التأويل ، والمبالغة في الإثبات (12) .
* يقول الشوكاني عن هذه المسائل :
" و إن كنت تشك في هذا ، فراجع كتب الكلام ، وانظر المسائل التي قد صارت عند أهله من المراكز ، كمسألة التحسين والتقبيح ، وخلق الأفعال ، وتكليف مالا يطاق ، ومسألة خلق القرآن ، فإنك تجد ما حكيته لك بعينه " (13) .
لذلك : كان المسلك القويم في الإلهيات ، والإيمان بما جاء فيها ، هو مسلك السلف الصالح ، من الصحابة والتابعين ، من حمل صفات الباري على ظاهرها ، وفهم الآيات والأحاديث على ما يوحيه المعنى اللغوي العام ، وعدم الخوض في تأويلها ، والإيمان بها على ذلك ، دون تكلف ولا تعسف ، ولا تشبيه ولا تعطيل ، وإثبات ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ لنفسه من صفاته ، على وجه لا يعلمه إلا هو ، فإنه القائل جل شأنه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " ( 14) . فأثبت لنفسه صفة السمع والبصر ، مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه (15) .
والإمام الشوكاني قد اعتنق هذا المبدأ ، وجعل عمدته في الدعوة إلى مذهب السلف هاتين الآيتين الكريمتين :
أولهما قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " (16) .
وثانيهما قوله تعالى : " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً " (17) .
ففيهما الإثبات والنفي ، إثبات صفات الباري ـ جلَّ شأنه ـ ونفي مماثلة هذه الصفات للحوادث ، ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته ، والزجر عن الخوض في كيفية هذه الصفات .
وقد سجل الشوكاني آراءه ومذهبه في ثنايا كتبه المختلفه ولاسيما كتابيه :
1 ـ " التحف في مذاهب السلف " .
2 ـ " كشف الشبهات عن المشتبهات " .
هذا ، وقد اعتنق الشوكاني هذا المذهب بعد طول بحثه ومطالعة في كتب " علم الكلام " حتى صرح بأنه لم يعتنق مذهب السلف تقليداً ، وإنما عن إجتهاد و اقتناع .
ولذلك يقول :
" ولتعلم أني لم أقل هذا تقليداً لبعض من أرشدك إلى ترك الاشتغال بهذا الفن ، كما وقع لجماعة من محققي العلماء ، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في الاشتغال به ، وإحفاء السؤال لمن يعرفه ، والأخذ عن المشهورين به ، والإكباب على مطالعة كثير من مختصراته و مطولاته ، حتى قلت عند الوقوف على حقيقته أبياتاً منها :
وغاية ما حصلته من مباحثي *** ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة *** فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره *** وما قنعت نفسي بدون التبحر (18)
* مذهبه الفقهي :
تفقه الشوكاني في أول حياته على مذهب الإمام " زيد بن علي بن الحسين " وبرع فيه ، وفاق أهل زمانه ، حتى خلع ربقة التقليد ، وتحلى بمنصب الإجتهاد ، فألف كتابه : " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " فلم يقيد نفسه بمذهب الزيدية ، بل صحح ما أداه إليه اجتهاده بالأدلة ، وزيف مالم يقم عليه الدليل ، فثار عليه أهل مذهبه ، من الزيدية ، المتعصبون لمذهبهم في الأصول والفروع ، فكان يقارعهم بالدليل من الكتاب والسنة ، وكلما زادوا ثورة عليه زاد تمسكه بمسلكه ، حتى ألف رسالة سماها : " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد " ذهب فيه إلى ذم التقليد وتحريمه ، فزاد هذا في تعصبهم عليه ، حتى رموه بأنه يريد هدم مذهب آل البيت ، فقامت ـ بسبب هذا ـ فتنة في " صنعاء " بين خصومه وأنصاره ، فرد عليهم بأنه يقف موقفاً واحداً من جميع المذاهب ، ولا يخص مذهب الزيدية بتحريم التقليد فيه ( 19) .
وهكذا اختار " الشوكاني " لنفسه مذهباً لا يتقيد فيه برأي معين من آراء العلماء السابقين ، بل على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده ، وهذا ما يلحظه القارىء لكتابه " نيل الأوطار " حيث ينقل آراء ومذاهب علماء الأمصار ، وآراء الصحابة والتابعين ، وحجة كل واحد منهم ، ثم يختم ذلك ببيان رأيه الخاص ، مختاراً ما هو راجح فيما يقول .
ويرى أن الاجتهاد قد يسره الله تعالى للمتأخرين ، وأنه أصبح ميسوراً أكثر مما كان في الصدر الأول فيقول :
" ... فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم ، أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين ، تيسيراً لم يكن للسابقين ؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت ، وصارت من الكثرة إلى حد لا يمكن حصره ، وكذلك السنة المطهرة ، وتكلم الأئمة في التفسير ، والتجريح والتصحيح ، والترجيح ، بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد ، وقد كان السلف الصالح ، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد ، ومن قطر إلى قطر ، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجنهاد على المتقدمين ، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح ، وعقل سوي " (20) .
يتبع