ومنها: أن شُهود العبد ذنوبه وخطاياه توجب له أن لا يرى لنفسه على أحد فضلا، ولا له على أحد حقا، فإنه يشهد عيوب نفسه وذنوبه، فلا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويُحرم ما حرم الله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه لم يَرَ لها على الناس حقوقاً من الإكرم يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً وأقل قيمة من أن يكون له بها على عباد الله حقوق يجب عليهم مراعاتها، أوله –لأجلهِ - فضلٌ يستحقُّ أن يُكرم ويعظم ويقدم لأجله، فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط فقد أحسن إليه، وبذل له مالا يستحقه، فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود وأهله، فما أطيب عيشه! وما انعم باله! وما اقر عينه!
وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق، شاكيا ترك قيامهم بحقه، ساخطا عليهم، وهم عليه أسخط؟!
فسبحان من بهرت حكمته عقول العالمين .
ومنها: أنه ويوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها؛ فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويلٌ لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس.
هذا من علامة الشقاوة، كما أن الأول من أمارات السعادة.
ومنها: أنه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين، وشهد أن المصيبة واحدةٌ، والجميع مشتركون في الحاجة - بل في الضرورة - إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم ،كذلك هو أيضا ينبغي أن يستغفر لأخيه المسلم، فيصير هجيراه(7): رب اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات.
___________
(7) دأبة وعادته.
وسمعتُ شيخنا يذكره، وذكر فيه فضلاً عظيماً لا أحفظه، وربما كان من جملة أوراده التي لا يُخل بها، وسمعته يقول: إن جعله بين السجدتين جائز، فإذا شهد العبد أن إخوانه مصابون بمثل ما أُصيب به محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه لم يمتنع من مساعدتهم إلا لفرط جهله بمغفرة الله وفضله، وحقيق بهذا أن لا يساعد فإن الجزاء من جنس العمل.
وقد قال بعض السلف: إن الله لما عتب على الملائكة بسبب قولهم:** أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ **[البقرة:30]، وامتحن هاروت وماروت بما امتحنهما به جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم وتدعو الله لهم.
ومنها: أنه إذا شهد نفسه مع ربه مسيئاً خاطئاً مفرطاً، مع فرط إحسان الله إليه في كل طرفة عين، وبره، به ودفعه عنه، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه نفساً واحدا، وهذه حاله معه، فكيف يطمع أن يكون الناس معه كما يحب، وان يعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد ولا يعصونه لا يخلون بحقوقه وهو مع ربه ليس كذلك؟ وهذا يوجب له أن يستغفر لِمُسيئهم، ويعفو عنه، ويسامحه، ويُغْضي عن الاستقصاء في طلب حقه.
فهذه الآثار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه، ومن اجتنى منه أضدادها وأوجبت له خلاف ما ذكرناه فهي - والله - علامة الشقاوة، وأنه من هوانه على الله وسقوطه من عينه خلى بينه وبين معاصيه ليقيم عليه حجة عدله، فيعاقبه باستحقاقه.
وتتداعى السيئات في حق مثل هذا، وتتألف، فيتولد من الذنب الواحد ما شاء الله من المتآلف و المعاطب التي يهوى بها في دركات العذاب، والمصيبة كل المصيبة الذنب يتولد من الذنب، ثم يتولد من الاثنين ثالثٌ ثم تقوى الثلاثة فتوجب رابعا، وهلم جرا.
ومن لم يكن له فقه نفسي في هذا الباب هلك من حيث لا يشعر؛ فالحسنات والسيئات آخذ بعضها برقاب بعض، يتلو بعضها بعضا، ويُثمِرُ بعضها بعض قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها.
وهذا اظهر عند الناس من أن تضرب له الأمثال وتطلب له الشواهد، والله المستعان.
من كتاب مفتاح دار السعادة (1/286)
منقول