عندما كنتُ غلاماً صغيراً كان يطرق أذني كُليمات قلائل تُذاع عبر مذياعٍ من خطيبٍ يخطب بالنّاس يوم الجمعة..
(اللهم ردّ الينا فلسطين)!!!
كلاماتٌ حفظتُ مبناها بيد لم أفقه معناها آنذاك...و مرّت السّنوات و تعاقب الخطباء و كلٌ ورث تلك المقولة (اللهم ردّ الينا فلسطين)!!!
و عندما قاربت من الاحتلام و حلّ التلفاز و ارتحل المذياع زاد الخطباء على تلك الكلمة التي بلغتْ بين يدي الخطب ما بلغتْ فاتحة الكتاب بين يدي الصلاة...
(اللهم ردّ الينا فلسطين)!!!( اللهم ردّ الينا صلاحاً و معتصماً)!!!
و عندما بلغتُ سنّ البلوغ بلغ الخطباء سنّ الرّشد فتذكروا الأندلس (اسبانيا)
فضجّوا بالدّعاء (اللهم ردّ الينا فلسطين و الأندلس)!!!
و تمرّ السّنوات مرّ السّحاب و يُكتَبُ الموت على خطباء و يُولد آخرين, بيد فلسطين و الاندلس بين البعث و النّشور!!!
و أحدثْ الخطباء حدثاً لم يكنْ في أسلافهم و أجدادهم و أتوا بدعاً من القول و قيل على رؤوس المنابر (اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك)!!!
و ما بالك بإثنين ثالثهماالبوسنة و الهرسك!!!
و لم تمضِ سنة و أختها حتى لحق بالبوسنة عراقاً و بالخطباء عراكاً بين ثالوثٍ و كفى و بين رابعٍ و مضى!!!
(اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق)!!!
ثمّ رجب و شعبان و رمضان كان خطباء المساجد في ليلة السّابع و العشرين منه على قول رجلٍ واحدٍ ((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان)!!!
و جاء شوّال و ذو القعدة و الحجّة فكان خطيب يوم عرفة يُعرّف النّاس بالشّيشان و بلاد القوقاز فكان دعاؤه ((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان و الشيشان)!!!
و عندما تزوجتُ تزوّج ذاك الدّعاء بصومالٍ و بات الخطيب يتفنن بإنقاء الحروف و السّجع في الدعاء حتى ضمّ جرح الصومال الى جراحاتٍ أكل عليها الدّهر...
((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان و الشيشان و الصومال)!!!
ثمّ أنجبتْ زوجتي (ماريا) و أنجبَ الخطباء بكراً يُدعى كشمير و لسان حالهم هل من مزيد !!!
((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان و الشيشان و الصومال و كشمير)!!!
و أتى عبد الرحمن ولدي و أتى عبّاد بوذا فنحروا الصين و تعبّد خطباء المساجد بقولهم ((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان و الشيشان و الصومال و كشمير و الصين)!!!
و أتتْ رزان ابنتي الأخرى و حلّتْ الرزيّة بفلبّين و لحقتْ بركبْ أخواتها و كان لها حظٌّ منْ خطباء المساجد (((اللهم ردّ الينا فلسطين و الاندلس و البوسنة و الهرسك و العراق و افغانستان و الشيشان و الصومال و كشمير و الصين و فلبّين)!!!
وعندما بلغتُ سنّ العشرين قبل هذا أصابني ما أصاب الخطباء فكنتُ لا أعدل عن تلك الجملة المشهورة دعاءً!!!!
و بُعيدَ ذا بسنواتٍ بات خطباؤنا يخطبون جمع النّاس ب (اللهم ردّ الينا حمص و درعا و دمشق و دير الزور و جسر الشغور و القصير و الغوطة و حلب وداريّا و الرستن...)و الله المستعان
و لمّا بغلتُ الثلاثين بلغتْ الأماني مبلغاً عظيماً و الجراحات نزيفاً عميقاً و الخطباء فقهاً صحيحاً فتركوا إرث أجدادهم و خطبوا بالنّاس و قالوا ( اللهم ردّ المسلمين الى دينك رداً جملاً) !!!
ضاعت فلسطين و الاندلس و البوسنة و العراق و افغانستان و الشيشان و الصومال و كشمير و الصين و فلبيّن عندما ضاع المسلمون!!!
و لنْ تعود تلك الدّيار الاّ عندما يعود أهل الاسلام الى اسلامهم,و أهل الجهاد الى جهادهم...
و منْ فقه الخطباء و حنكتهم كان دعاؤهم بعد ذلك إيجازاً (( اللهم ردّ المسلمين الى دينك رداً جملاً)و ( اللهم انصر المسلمين في كلّ مكان)!!!
و بالمقابل كان الدّعاء إيجازاً عندما خذل أهل العقد و الربط أوطانهم و اعتكفوا عند عروشهم و لله الأمر من قبل و من بعد...
كتبه علي سليم
صبيحة يوم السبت الواقع 18 ايار الموافق 8 رجب
(((ضاعتْ القدس...و ضاعتْ قداستها)))
