موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 25-04-2023, 12:18 AM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : عبد الرحمن بن عوف ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي

االدرس 4 / 50 ، سيرة الصحابي : عبد الرحمن بن عوف ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 02 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس الرابع من دروس سير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابي اليوم ؛ سيُّدنا عبد الرحمن بن عوف ، وقبل أن نبدأ الحديث عن هذا الصحابي الجليل لا بدَّ من مقدمة .
وخلاصة المقدمة هي أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية ، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير ، قويٌّ وضعيف ، شابٌ وكهلٌ وشيخ ، صحيح ومريض ، ذو نسب عالٍ ، وذو ضآلة في النسب ، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع ، لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به ، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية ، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه ، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله ، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق ، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا ؛ الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت ؛ بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ ؛ بأيَّة قوة ، بأيِّ ضعف؛ بأيِّ غنى ؛ بأيِّ فقرٍ ؛ بأيِّ وجاهة ، وبأيِّ خمول ؛ بأي وَسَامةٍ ، وبأيِّ دمامة ، فإذا عرفت الله عز وجل ، و طبَّقتَ منهجه ، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما ، قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان ؛ من قال ذلك ؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض ، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل ؛ يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن ، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين ؟ كان ملكاً ، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان ، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم ، قد تُغطَّى بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة "، في نفسي معنى أرجو الله أن يمكنني من التعبير عنه ؛ لا تقل : أنا ابن فلان ؛ لا تقل : أنا لي نسبٌ رفيع ، أو لي نسب وضيع ؛ لا تقل : أنا فقير ، لا تقل : أنا شاب ، كن ابن من شئتَ ؛ في أيِّ حالٍ شئتَ ، وفي أيِّ طور شئت ، وفي أيِّ مستوى شئتَ ، فإذا عرفتَ اللهَ ، وعرفتَ منهجه ، وطبَّقتَ شرعَه ، وأقبلتَ عليه ، واصطبغتَ بصبغته ؛ فأنت عند الله عظيم .
نحن اليوم مع صحابي كان من أغنى الصحابة ، سأُِريكم كيف يكون الغنى مع الإيمان ، قد يقول أحدكم : قد مرَّ بنا تاريخ الصحابة كثيرًا في أوقات خلتْ ، فأقول: كلكم يعلم أنَّ في التعليم الإعدادي والثانوي والابتدائي مثلاً نصًّا للمتنبيِّ ، قد تجده في كتاب الصف الخامس ، وتجده في كتاب الصف الثامن ، والنص نفسه تجده في كتاب الصف الحادي عشر ، والنص نفسه يدرسه طلاب الجامعة في السنَّة الثالثة في الأدب العباسي ، أن يكون النص واحدا في كل هذه المراحل ، هل يعني ذلك أن مستوى التدريس واحد ؟ لا ، نحن عندما كنا في الجامعة كان الأستاذ رحمه الله يمضي ساعتين في شرح بيتين من الشعر ، فيظل يشرحها ، ويحللها ، ويبيِّن معنى كلماتها و معنى تراكيبها وصورها ، إلى أن يشخب هذان البيتان دمًا ، فلذلك ولو أن هذا الصحابي معروف عندكم ، ولكن لا أريد في هذه الدروس الجديدة من السيرة أنْ أكتفي بسرد الوقائع ؛ هذه قد تجدونها في كتب السيرة ، والكتاب يغني عن الدرس ، لكنْ أرجو الله عز وجل أنْ يوفِّقني إلى تحليل هذه الوقائع ؛ ومركز الثقل في هذا الدرس هو التحليل وليس السرد .
مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة : ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟ فقالوا لها : يا أم المؤمنين ؛ إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، جاءت من الشام تحمل تجارة له ، قالت أم المؤمنين : قافلة تحدث كل هذه الضجَّة ! قالوا : أجل يا أم المؤمنين ؛ إنها سبعمئة راحلة ، تصوَّر قافلةَ شاحناتٍ عددُها سبعُمئة تراها على الساحل ، فستضيق نفسك بها ، و في عدِّها ، سبعمئة راحلة ، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل ، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء ، عن ذكرى مرَّت بها ، أو عن حديث سمعته ، ثم قالت : أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا ، يعني زحفاً ، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً ، فإنّه من أصحاب رسول الله ، وإنه من السابقين السابقين ، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق ، وهاجروا إلى الحبشة مرتين ، وكان هذا الصحابي في ترتيب المسلمين الثامن ؛ ثامن مسلم دخل الإسلام ، أسلم على يد سيدنا أبي بكر ، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة ، ويدخلها حبواً ! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى ، أنا شخصياً كنتُ أقول حينما أذكر هذه القصة - لا أدري أكنتُ أقول هذا عن وعي أو عن غير وعي - كنتُ أقول : قالت السيِّدة عائشة : أخشى أن يؤخِّر عبدَ الرحمنِ مالُه ، فيدخل الجنة حبواً ، أما هنا ؛ فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً ، اختلف الأمر ، إذا عُزِيَ القولُ إلى السيدة عائشة فالقضية سهلة ، إذا عُزِيَ القولُ إلى غير الرسول فالقضية سهلة ؛ قد يخطئ وقد يصيب ، أمَّا إذا عُزِيَ القول إلى النبي الكريم فهو الحق المطلق ، والصواب المطلق .
سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً ؛ نقل نصيحة لا نقل نميمة ، وهناك فرق كبير بين أنْ تنقل الخبر شامتا ؛ أنْ تنقله متشفياً صدرُك ، وبين أن تنقله ناصحاً ، وبالمناسبة أعجبني أخٌ كريم رأى أمرًا منكراً ؛ فقد رأى إنسانا يقدم على منكر في مكان يرأسه رجلٌ طيِّب ، فقال له إنْ فعلتَ هذا فسأبلِّغ فلاناً ، فإذا استدعاك فلانٌ فأنا الذي بلَّغتُه ، أنا أعجبني هذا الموقف ، ومرَّة غلامٌ صغير سمع عمَّه يقول : لو أن محمداً صادق فيما يقول فنحن شرٌّ من الحُمُرِ ، عهْدُهُ بعمِّه أنه مؤمن ، فإذا به كافر ، فقد قال له : هذه كلمة كفر ، والله يا عمَّاه ما رجلٌ تحت قبَّة السماء بعد رسول الله ، أحبُّ إليَّ منك ، ولكنني سأبلِّغ رسول الله ، هذه كلمة كفر لا مجاملة فيها ، فإذا تجاملنا مجاملات بكلام غلط ، أو بكلام فيه إساءة وتجاوز ، فهذا مجتمع المنافقين ، ولا نرقى بهذه الطريقة ، ولكن مجتمع المؤمنين فيه غيرة شديدة ، والقصة لها وقت آخر ، وذكر هذا الغلامُ الخبرَ للنبي عليه الصلاة والسلام ، واستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام فأنكر ، قال يا رسول الله : إن هذا غلامٌ كذَّاب ، أأنا أقول هذا الكلام ؟ فنزل الوحي مصدقا قول الغلام ، فأمسك النبيُّ بأذن الغلام متحبِّبًا : لقد صدَّقك الله من فوق سبع سماوات ، وكانت توبة هذا المنافق على يد هذا الغلام ، وقال : يا رسول الله لقد تبتٌ من هذا الذنب ، ولن أعود إليه ، وبدل أن ينتقم منه زاد في إحسانه إليه ، فأحيانا الكلمة إذا أخذتها مأخذ الجِّدِّ نصحتَ بها ، فهؤلاء الذين أوصلوا هذا الكلام إلى سيِّدنا عبد الرحمن ليسوا نمامين ، ولكنهم ناصحون ، ونقل بعضُ أصحابه مقالة عائشة رضي الله عنها ، فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرَّة ، وأكثر من صيغة ، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة ، وقال لها : لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه ، ثم قال : أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله ، كلها ، سبعمئة شاحنة ، سبعمئة راحلة محمَّلة بالبضائع من الشام قدَّمها كُلَّها في سبيل الله ، قال : والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً ، ولكن هناك مُشْكلة ؛ هذا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، أيُعْقل أن يكون قوْلُ النبي غير واقِعٍ ؟! وهي مُشْكِلَةٌ عانَيْتُ منها كثيراً ، حُلَّتْ بِكَلِمة واحدة تَرَوْنها بعد قليل ؛ قال : أما إني أُشْهِدُك أنَّ هذه القافلة بِأَحْمالها وأَقْتابها وأحْلاسِها هي في سبيل الله ، هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ ، هذا هو الغنيُّ المؤمن ، هذا الذي يكون سيِّد المال ، وليسَ عبداً له ، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة ، في سبيل مرْضاة الله عز وجل ، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السماوات والأرض ، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه ، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام ، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر، لما يخْطِب الإنسان فتاةً ، فإذا قرؤوا الفاتحة فقد تمَّت الخطبة بِكَلمة ، أحْياناً تشْتري بيْتاً ، ثمَّ يأتي التوْقيع بِكَلِمة ، فإذا بك تجد نفْسك تسْكُتُ ، ففي الأمور الحاسِمَة يضْطرب الإنسانُ ويشْعُر بالضِّيق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :" ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أبا بكر " ، وقال سيِّدُنا ابن عوف أيضاً : حينما عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعُثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فما غُمَّ عليهم الأمر ، ولا أبْطؤوا ، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه ، ويحْمِلون لِواءَهُ ، معنى ذلك لما ينْشرحُ صَدْرك للحق فهذه علامة طيِّبة ، حينما لا تتَرَدَّدُ ، كلكم يذكر قِصَّة سيِّدنا عبد الله بن رواحة حينما عَيَّنَهُ النبي عليه الصلاة والسلام قائدًا ثالثاً ، وكيف أنَّ القائد الأول حمل راية المُسْلمين ، فقاتل بها حتى قُتِل ، وحملَها بعده سيّدنا جعفر ، فقاتل بها حتى قُتِل ، فلما جاء دَوْرُ عبد الله بن رواحة تَرَدَّدَ ، ويَذْكُر المُؤرِّخون أنه تردَّد بِقَدْر هذين البيْتَيْن :
يا نفْسُ إلاّ تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صَليت
إنْ تفْعلي فِعْلها رضيت و إنْ تَوَلَّيْتِ فقد شَقيت
وأخذ الراية فقاتِل بها حتى قُتِل ، لكنَّ النبي الكريم قال : رأيْتُ أخاكم جعْفرًا وهو في الجنَّة ، ورأيْتُ أخاكم زيداً وهو في الجنَّة ، ثمَّ سكتَ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فلما سكتَ النبي قَلِقَ الصحابة الكِرام على أخيهم عبد الله ، فقال الصحابة : ما فعل عبد الله ؟ قال : ثمّ أخذها عبد الله ، فقاتَلَ بها حتى قُتِل ، وإني لأرى في مقامِهِ اِزْوِراراً عن صاحِبَيْه ، درجته هَبَطَتْ ، فإذا كانَ الصحابة هَبَطَت درجَتُهُم بتَرَدُّدِهم ثلاثين ثانِيَة ، فَكَيْفَ بنا ؟! تَرَدُّدٌ فقط ، لماذا التَّرَدُّد ؟ لِبَذْل النفْس ، وليْس لِبَذْل المال ، أما الآن فتضعُ له مُقَدِّمات ، وتُبَيِّن له عِظَم العمل الصالح والجنَّة ، ثمَّ يُعْطيك عشْرَ لَيْراتٍ ، قال لي أحدهم : دخلْتُ مَحَلاًّ تِجاريًا في رمضان ، والمَحَلُّ كبير وفَخْم ، البضاعة بالملايين ، فقال له : عندنا أيْتام ، ومدارس شرْعِيَّة ، قال : فإذا بي أراهُ أخْرج عشْر لَيْراتٍ ، واللهِ لو رآها هو في الطريق لم يأخُذُها ؛ أفهذه قيمة الآخرة عنده ؟ لذلك قال تعالى :

[ آل عمران : الآية 133 ]
وهذا أحد التجار كذلك ، أنا لا أزكي على الله أحداً ، لكني أظنه مؤمناً ، كلما جاءته جمْعيَّة خيرية ، أو لجنة بناء مسْجد يقول لهم : دونَكُم الصندوق ، خُذوا منه ما تشاؤون ، ولا تُعْلِموني كم أخَذْتم ، هذا الإنْسان عاشَ عُمْراً لا بأسَ به ، ولكنَّهُ أصيب بِمَرضٍ خبيثٍ في دمه ، فجاءَتْ مُخابرة إلى البيت ، وفي البيت عدَّةُ هواتف ، ورُفِعَتْ سماعة ، فرفعَ هو السماعة ، وكانت المكالمة من المستشفى ، وأخذ الموظف يقرأ له التقْرير ؛ معلنًا أنَّ القضِيَّةُ مُنْتهيَّة ، ولا بدّ أنْ يموت بعد ثلاثة أيامٍ ! سمِعَها بِأُذُنه ، والقِصَّة واقِعِيَّة ، وقصَّها عليّ أُناسُ كثيرون ، تلقى هذا الخبر بِنَفْسٍ رَضِيَّة ، لأنَّ عمله صالحٌ ، ولأنه قدَّمَ ماله أمامه ، والآن سرَّهُ اللَّحاقُ به ، اسْتَدْعى أحد أصْدِقائِهِ التُّجار - وهو الذي قصَّ علينا القِصَّة - وقال له : يا أبا فُلان ، الفِلْم انتهى ! باللغة العامِيَّة ، والصَّفْقَة الفُلانِيَّة بِعْها ، ووزِّعْ أثْمانها على النحْو التالي ، والصَّفْقة الفُلانيَّة : اُطْلُب من صاحِبِها أنْ يُلْغِيَها ، خطَّطَ له تخْطيطاً دقيقاً ، كلُّ علاقاته المالِيَّة أنْجَزَها أوَّلَ يومٍ ، واليوم الثاني طلب أوْلاده وأصْهاره وبناته وودَّعَهُم ، وفي اليوم الثالث : دخل للحمام فاِغْتَسَل اِغْتِسال درجة أولى بِيَدِه ، دون أنْ يُغَسِّلَهُ أحد ، واضْطَجَع على السرير حتى الساعة الثانِيَة عشر ، واسْتَقْبَل أحد علماء دِمَشْق الأجِلاء ، وهذا العالم مع إخْوانه أجْرَوا له تهْليلة وقرآن حتى الساعة الواحدة ، وفي الساعة الواحد سلَّمَ روحَهُ لبارِئِه ، شيءُ لا يُصَدَّق ، أن يتلَقى الإنسانُ خبرَ وفاته بِصَدْرٍ رَحِب ، وبِنَفْسٍ طيِّبة ، هذا لأنه كلما دخل عليه إنْسان من جمْعِيَّة خيريّة يقول له : دونك الصنْدوق اِفْتَحْه، وخُذْ ما تُريد ، وأُنْشِدُك الله ألاّ تقول لي كم أخَذْتَ ! يقول الله عز وجل في الحديث القُدْسي : "عبدي أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه ؟ يقول يا رب لم أُنْفِق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، يقول الله عز وجل : ألم تعْلم أنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين ، إنَّ الذي خَشيتَهُ على أوْلادك من بعْدِك قد أنْزَلْتُهُ بهم ، يقول لِعَبْدٍ آخر آتاه مالاً : أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه ؟ يقول: يا رب أنْفَقْتُهُ على كُلّ مُحْتاجٍ ومِسْكين لِثِقَتي أنَّك خيرٌ حافِظاً ، وأنت أرْحم الراحِمين ، فَيَقُول الله عز وجل : أنا الحافظ لِأولادك من بعدك ، فهذا الصحابي الجليل هو ثامِنُ رجلٍ دخل في الإسْلام ، ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة ، فهُوَ لم تكُن له كَبْوة ، بل أقْبل بِكُلِّه ، وهو من العَشَرَة المُبَشِّرين بالجنَّة ، ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق ، وما سِواهُم على الرَّجاء ، نحن نرْجو الله ، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء ، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده ؛ ومن بينِهِم سيّدنا عبد الرحمن بن عوفٍ ، وكان مَحْظوظاً في التِّجارة ، وكان يقول : لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً ، والعوام يقولون : يدُهُ خضْراء ، يمْسك التُراب فَيَصيرُ ذهباً ، كَيْفَما تحَرَّك ربِح ، لكنْ مرَّةً سألوه : بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن ؟ قال : والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً ، ولا بِعْتُ دَيْناً ، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة ، بل هي ذُلٌّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ ، هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار ؛ فهُوَ إما في المسْجد ، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله ، وإما أنه في تِجارِتِه ، إما تَنْمِيَةُ التِّجارة ، أو أنه في المسجد يتعلَّمُ من النبي ، أو أنه في الغَزْو يُجاهدُ في سبيل الله .
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا ، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين ، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع ، وهو أنْصاري ، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر ، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته من أراضٍ ومصانع وسيارات ومسْكن بالمالْكي وأمْوالٍ ضَخْمة ، ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس ، هكذا كان الصحابة ، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له : يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ : بارك الله لك في مالك ، ولكن دُلَّني على السوق ، هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة ، لذلك - وقد لا تُصَدِّقون - لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري ! هُم عرضوا ذلك ، وعبَّروا عن أعْلى درجات المُؤاثرة ، إلا أنَّ المُهاجِرين وقفوا بِأَعلى مواقف العِفَّة والتَجَمُّل ، قال له : بارك الله لك في مالك ، دُلَّني على السوق ، فاشْترى بِضاعَةً ورَبِح ، فإذا كان الإنْسان ضَيِّقَ ذات اليد فله طريقان ؛ الطريقُ الأكْمل أنْ تقول : يا رب اُرْزُقْني من فضْلك ، ولا تُحْوِجْني إلى أحدٍ سِواك ، ولا تجْعَلْ حاجتي إلا إليك ، لأنّ الإنسان إذا أعْطى فَعَطاؤُهُ غير عطاء رب العالمين ، قال : اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره ، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ ، هناك مُشْكِلة ؛ وهي أنَّ أُمَّنا عائِشَة تسْمع من النبي عليه الصلاة والسلام - وهو الذي لا ينْطق عن الهَوى - أنّ سيّدنا عبد الرحمن بن عوْف سيَدْخُل الجنَّة حَبْواً ، أيُعقَل أنْ يقول عبد الرحمن مُتَحَدِّيًّا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام : والله لأَدْخُلَنَّها خَببًا ، وفي روايةٍ أخرى : وما عَلَيَّ إنْ تصَدَّقْتُ مئةً في الصباح ، فَيُؤْتيني الله ألْفاً في المَساء ‍، حُلَّتْ هذه المُشْكِلة بِهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلَّم لِسَيِّدنا بن عوف : يا ابن عَوْفِ إنك من الأغْنِياء، وإنَّك سَتَدْخُل الجنَّة حَبْواً ، فأَقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك ؛ أعْطاهُ الحل ؛ إنْ لم تُنْفِق بِسَخاء تدْخُلُها حَبْواً ، فإذا أَقْرَضْتَ الله عز وجل أطْلَقَ الله قَدَمَيْكَ فَدَخَلْتها خَبَباً وجَرْياً ، القَضِيَّة حُلَّت ، إذْ إنَّ الحلَّ معه ، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه ، وما أراد أنْ يجعله يَيْأس ، قال له :" إنك غنِيّ ، والأغْنِياءُ عادَةً تشْغَلُهُم أمْوالهم ، وتَنْمِيَةُ أمْوالهم واسْتِثْمارها ، والمال الوفير يحْتاج إلى وسائل رفاه ، وهذه الوسائل تشْغَلُ صاحبَ المال عن ذِكْر الله ، قال تعالى :

[ العلق : الآية 6-7 ]
فالنبي لم يقصد عبد الرحمن بالذات ؛ إنما قال : إنك غنيّ ، والأغنياءُ عادَةً مشْغولون بأمْوالهم ، فإذا آمنوا واسْتقاموا دَخَلوا الجنَّة حَبْواً ؛ أَقْرِض الله يُطْلق لك قَدَمَيْك ، فهو يعْرف الطريق ، ولما قال : سبعُمئة راحِلَة في سبيل الله ، والله لأدْخُلَنَّها خَبباً ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه ، ويجعل مصيرَه مصيراً محْتوماً ، والقَوْلُ الشهير الذي ورد عن النبي : "خُذْ من الدنيا ما شِئتَ ، وخُذ بِقَدرِها هماً ، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكْفيه أخذ من حَتْفِهِ وهو لا يشْعر .
رَوَوا أنَّ أحد الشيوخ كان له تلاميذ ، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم نِصْفَ لَيْرة لِيَشْتَري بِها حاجَتَين ، وأعْطى تِلميذاً عشر لَيْرات لِتَكون معه ، فالذي أُعْطي المبلغ القليل تألَّم وانْكسر خاطِرُهُ، وشعر أنه ليس من مُسْتوى الثاني ، وأنّ الشَّيْخُ ليس واثِقاً به ، بيْنما أعطى الثاني مبْلغاً كبيراً ، فَشَعَرَ الشيخ أنّ تِلْميذه استولى عليه هذا الشُّعور ، فقال : نحن بِحاجة إلى حمام يا أبنائي ، وبِحَمام السوق يوجد داخِلي وخارجي وأوْسطي ، فأدْخَلَهم إلى الحمام ، وإلى الغُرْفة الساخِنَة ، وبدأ يقول لِصاحب العشر ليرات : حاسِبْني في هذه وهذه ، فاضطرب وارتبك ، أما صاحب المبلغ القليل فكانَ حسابهُ يسيراً ، ربع ليرة بقْدونس ، والربع الآخر كزْبرة ، وانتهى الحساب ، إذاً كلما كان نصيبك قليلاً كلما كان حِسابك يسيراً ، وكلما كثُر المبْلغ صار الحِساب مُعَقَّدًا أكثر فأكثر ؛ هذه قِصَّة رَمْزِيَّة فقط ، المُهِمّ أنّ الإنسان إذا اخْتار اللهُ له الكفاف فقد اختار له اليسير ، أنا أقول لكم : كل إنسان يشكو لي أنّ الأمور كما يقولون : ماشي الحال ! ونحن نشْتَغِل قدْر مصْروفِنا ، كلما سَمِعْتُ إنْساناً يشْكو لي هذه الشَّكْوى ، أقول له : لقد أصابَتْكَ دعْوَةُ رسول الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال :" اللهم من أحَبَّني فاجْعَل رِزْقَهُ كفافاً " ، فأكْمَلُ مُسْتوى هو الكفاف ؛ لا غِنى فيُطْغي ، ولا فقر فلا يُحْتَمَل ، وكاد الفقر أن يكون كُفراً ، والغِنى مُطْغٍ ، والفقر صعْب ؛ بعد ما اغْتَنى ترك الصلاة ، وارتاد دور للملاهي ، وانشغل بالأفلام المُنْحَطَّة ، وترك زوْجَتَهُ ، وأصْبح لدَيْه خليلات ، فإذا كان هذا هو الغِنى فهذا غِنى مُطْغٍ والنبي عليه الصلاة والسلام قال : بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ *
[رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
فهذه هي القاعدة : من شأن الغني أنَّ ماله يشْغله عن ذِكر الله ، والدليل قوله تعالى :

[ المنافقون : الآية 9]
فَمِن شأن الغِنى أنْ يشغل صاحبه عن ذكر الله ، قال له : يا ابن عَوْف ، إنَّك من الأغْنياء وإن لم تُنْفِق هذا المال في سبيل الله فإنَّك سَتَدْخَل الجنَّة حَبْواً ، فأقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك ، وعندئذٍ تدْخُلها خبباً ، وانْتهى الأمر ، سيّدنا ابن عوفٍ منذ أنْ سَمِع هذا النُّصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْرض ربَّهُ قرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ له أضْعافاً كثيرة ؛ باعَ يوْماً أرْضاً بِأرْبعين ألْفَ دينار ، ثمّ فرَّقها جميعاً في أهْله من بني زُهرة ، وعلى أُمَّهات المؤمنين ، إكْراماً لِرَسول الله ، وعلى فقراء المسلمين ، فكانت ثلاثة أثلاث ؛ ثلثٌ على أقْربائه من بني زهرة ؛ وثلث على أُمَّهات المؤمنين ، وثلث على فقراء المُسْلمين .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ تشبه كلٌّ منها في أيامنا سيارة مَرْسيدَس ، أو شاحنة مَرْسيدَس ؛ شيءٌ ثمين ، هناك مَن سَعَّرها خمسة ملايين ، وحتى عشْرة ملايين ، برَّاد مثلاً ثمنُه اثنا عشر ملْيونًا ، ومرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله ، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله ، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار ، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ ، وقال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فإذا دعاك المؤمن ، فوالله طعامه شِفاء ، قال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فالمُلَخَّصُ أنَّهُ كان سيِّدَ ماله ، ولم يكن عَبْداً لِماله ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ - الثياب - إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ *
[رواه البخاري]
من أجل ألاّ تَفْسُد ثيابه الأنيقة يقول لك : لا أصلي في المسجد ، بل أجْمَعُ الصلوات في البيت ! هذا هو عبد الخميصة ، يُؤْثر ثيابه على طاعة ربِّه .
بلغ من سعة عطائه وعَوْنِه أنه كان يُقال : أهل المدينة جميعاً شُرَكاءُ لابن عوفٍ في ماله ، وقد سَمِعْتُ اليوم - صباحاً - قِصَّة عن رجلٍ غَنِيّ ، كانت امْرأة تأتي في الساعة السابعة إلى مَكْتَبِه لِتُنَظِّف ، وهو لا يعْرِفُها في شَكْلِها ، إنما يسْمع عنها ، ويُعْطيها أُجْرتها ، مرَّةً جاء في الساعة السابعة لِأمرٍ اسْتِثْنائي ، فرأى امْرأة مُسِنَّة تشْتغل ، وتَمْسح ، فقال لها : أنت كم تأخُذين ؟ فقالت له : ألْفَيْن وخَمْسُمئة في الشَّهْر ، فقال لها : كم ولدٍ عندك ؟ فقالت : أربعة ، فقال لها : اذْهبي إلى بيْتِكِ ، وارْعَيْ أوْلادك ، وتعَالَي كلَّ شهْرٍ وخُذي خمْسة آلاف ؛ قلْبه رقيق ، وما تحَمَّل ذلك المشْهد ، وهي على كِبَر سِنِّها تشْتغل ، فالغَنيّ أحْياناً يصِلُ إلى الأوْج في إنْفاق ماله ، لأنَّها المِسْكينة وصَلَتْ إلى مرْحلة التقاعُد ، فالدنيا لا تخْلو من أهل الخير .
وقالوا : بلغ من سِعَة عطائِهِ وعَوْنه أنه كان يُقال : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، أحْياناً تجد شَخْصًا يساعد أكثر من أربعمئة عائِلة تعيش من عطائه ، طبْعاً أُسَر أبناؤُهم مُوَظَّفون عنده ، ويتَفَقَّدُهم في الأعْياد ، وأُسَرٌ لها رواتب شَهْريَّة ، ومعونات مَوْسِمِيَّة ؛ آلافٌ مُؤَلَّفة كلُّها في صحيفة فُلان .
قالوا : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم ، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم ، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم ، فَثُلُثٌ يُكْرِمهم إكْراماً بلا مُقابل ، وثُلُثٌ يُدَيِّنُهم ، وثُلُثٌ يوفي عنهم الدَّين ، فأهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟!
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار ، وكان صائِماً ، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ ، وبكى ، لماذا يبْكي ؟ قال : اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر ، وهو خيرٌ مني ، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه ، وإنْ غطَّيتْ رِجْلاه بدا رأسه !! ، واسْتُشْهِدَ حمزة ، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة ، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط ، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا ، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا ، وأنا واللهِ أقول لكم هذا الكلام : إذا كثر رفَهُ المؤمن فهو في خوف مِن سوء المصير ، أما إذا كان بالكفاف فهذه نِعْمة ؛ هذه دار عمل وليس دار بَسْط ولا دار نعيم ؛ هي دار ابْتِلاء وامْتِحان وطاعة ومُجاهدة والْتِزام ، فالمؤمن الصادق إذا شعر أنَّ رفاهته أكثر مما يجب يحُسّ بِضيقٍ ، حاله حال طالب دخل إلى المدْرسة ، له أحْلى طاولة ، وأحْلى كُرْسي ، ومن جِهَة الشَّمس ؛ هذه مدْرسة للعلم وليست للتَّشَمُّس ! دخلْتُ مرةً إلى ثانوِيَّة فَوَجَدْتُ المدير قد دهَّن كل البلور بالدهن الزيْتي من أجل مصلحة الطلاب .
واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده ، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى ، فسألوه : ما يُبْكيك يا أبا محمد ؟! فقال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير ، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا ؛ القُدْوة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، زرْتُ صديقاً يوماً وكان بَيْتُهُ صغيراً ، فقال لي : لا تؤاخِذْنا لصِغر بيتنا ! فقُلْتُ له : والله لو تقرأ عن بيْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق لما استحييتَ ببيتك ، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها ، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه ، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا ، وقال له : اجْلِسْ عليها ، قُلْتُ بل أنت ! فقال: بل أنت ، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض ، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !! ، هذه هي النبُوَّة ، لما دخل سيِّدنا عمر ورآهُ مُضْطجعاً على حصيرٍ وقد أثَّر في خَدِّه الشريف وبكى ، فقيل له : يا عُمَر ما يُبْكيك ؟ فقال : رسول الله ينام على الحصير ، ويُؤَثِّرُ في خَدِّه ! وكِسْرى وقَيْصَر ينامان على الحرير ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عُمَر إنما هي نُبُوَّة وليستْ مُلْكاً ، هل تراني ملِكاً ؟ أنا نبيّ وهذه هي النبوَّة ؛ النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ .
بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وتَسَلُّمَ أبو بكرٍ الخِلافة من بعده وبعد موت سيّدنا الصديق ، وقد أوْصى بالخِلافة لِسَيّدنا عمر ، وبعد سيّدنا عمر اخْتار سِتَّةً من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لِيَخْتار المُسلمون أحدَهم بعد وفاته ، وكان منهم عبد الرحمن بن عوفٍ ، والأصابعُ أشارتْ إليه ، على أنَّهُ أنْسَبُ إنْسانٍ ، فقال : والله لأنْ تؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتوضَعُ في حلْقي ، ثمّ يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر أحبّ إليّ من ذلك ؛ اِعْتذرَ ، وانْسحب ، فلما اعْتذر وانْسحب عَيَّنه الأصحاب الكرام أنْ يخْتار الذي يكون خليفةً بعد سيِّدنا عمر ، فاخْتار سيّدنا عثمان بن عفان ، فهو الذي اخْتار سيِّدنا عثمان لِيَكون خليفةً بعد سيّدنا عمر .
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ثمَّ اسْتدرك وقال : أنا خليفة المسلمين ، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني ، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة ، فإن قبِلتْ فافْعلوا ، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها ، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي ، فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر ، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير ، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار ، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون ، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما مات بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه ، فهذا وعْدٌ ! ، أوَّلاً اسْتَحْيا أن يُدْفن مع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم والصديق وعمر، إضافةً للوَعْد الذي وَعَدَهَ ، وهو على فِراش الموت قال : إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة ، كان يقول : إني أخاف أنْ أُحْبس عن أصْحابي لِكَثْرة ما كان لي من مالٍ ، ولكن عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام : "عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة" ، هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قبل قولَه تعالى :

[ البقرة : الآية 262 ]
حضرْتُ مرَّةً حفل ختام مسابقة القرآن الكريم ، فَتَكَلَّمَ وزير الأوْقاف كلمة تأثَّرْتُ لها ، قال : جزى الله عنا العلماء الذين علَّموا القرآن ، وأشْكر هؤلاء الطلاب الذين تدافعوا إلى حِفْظِه ، ولا أنْسى أصْحاب الأموال الذين تبَرَّعوا بأموالهم تكْريماً لِهَؤلاء الأطفال ، وحينها قال رجل: كلُّ من حَفِظ القرآن فله مني عشْرة آلاف دائِماً ، وسَمِعْنا أنَّ أحداً تبرَّعَ لهم جميعاً بِعُمْرةٍ ، وأخذ على حِسابه سبْعين طالِباً ، فقال الخطيب : المال شقيقُ الروح ، فلَيْسَ الفضل للعالم فقط ، بل وللغنيّ المؤمن ، فهذا بِعِلْمه وهذا بماله ، لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا *
[ رواه البخاري ]
فليستْ العظمة عند الله أنْ تكون داعِيَةً فقط ، أصْحاب الأموال بِإنْفاقهم وسخائِهم وبذْلهم يصِلون إلى مرْتَبَةٍ عالِيَةٍ عند الله عز وجلّ ، فقال : جزى الله من تعلَّم القرآن خيراً ، ومن علَّمه خيراً ، ومن فحص الطلاب خيراً ، ومن بذل ماله إكْراماً لِهؤلاء الحَفَظَة خيراً ، لأنَّ هؤلاء أنفقوا مالهم والمال شقيق الروح .
والحمد لله رب العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 11:36 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com