موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر السيرة النبوية والأسوة المحمدية

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 25-04-2023, 12:39 AM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : سيدنا عمير بن سعد الأنصاري لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.

الدرس 28\50 سيرة الصحابي : سيدنا عمير بن سعد الأنصاري لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة الأكارم :
مع بداية الدرس الثامن والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابيّ اليوم سيدنا عمير بن سعد ، وقصته وقعت يوم كان في السنة العاشرة من عمره ، انظروا إلى عظمة الإسلام ؛ شيخ في الثمانين يجاهد في سبيل الله ليصل إلى القسطنطينية ، ويدفن هناك ، وطفل في العاشرة من عمره ، كأن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم يمثِّلون كل النماذج البشرية ، ويمثِّلون كل الأعمار ، وكل الأحوال ، وكل الأطوار ، وكل البيئات ، وكل المستويات ، وكل القدرات والإمكانات ، والإسلام يجعل من الإنسان بطلاً ولو كان صغيراً ، ويجعل من الشيخ بطلاً ولو كان متقدماً في السن .
الغلام الصغير عمير بن سعد الأنصاري تجرّع كأس اليُتْم والفاقة منذ نعومة أظفاره ، يُتْمٌ مع الفاقة ، فقد مضى أبوه إلى ربه ، ولم يترك له مالاً ولا معيلاً ، لكن أمه ما لبثت أن تزوجت رجلاً ثريًّا من أثرياء الأوس في المدينة يدعى الجلاَّس بن سويد ، فكفل ابنها عميراً ، وضمّه إليه، طفل صغير تجرع كأس اليتم والفاقة ، مضى أبوه دون أن يدع له مالاً يقوم بأوده ، ولا يجد معيناً ينفق عليه ، فتزوجت أمُّه ثريًّا من أثرياء المدينة اسمه الجلاس بن سويد ، ولقي عمير مِن برِّ الجلاس وحسنِ رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم .
أحب عمير الجلاس حبَّ الابن لأبيه كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده ، كأن عمير ابن الجلاس ، وكأن الجلاس والد عمير ، وكان كلما نما عمير وشب يزداد الجلاس له حباً وبه إعجاباً كما كان يرى به أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عمل من أعماله .
يا أيها الإخوة الأكارم :
إذا كان لأحدنا طفل صغير فليتأمّل منه خيرًا إن شاء الله ، فهذا عمير في العاشرة من عمره كان بطلاً ، وسوف ترون من قصته العجب العجاب ، والذي عنده طفل عليه أن يعتني به ، وعليه أن يرعاه ، وأن يعلمه عليه أن يؤدِّبه ، فعليه أن يربِّيَه على قراءة القرآن ، وعليه أن ينشئه على حب النبي العدنان ، عليه أتم الصلاة والسلام .
وكان كلما نما عمير وشبَّ يزداد الجلاس له حباً ، وبه إعجاباً ، كما كان يرى فيه أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عملٍ مِن أعماله ، وشمائل الأمانة والصدق التي تظهر في كل تصرف من تصرفاته ، وأسلم الفتى عمير ، طفل في وهو في العاشرة من عمره ، وبايع النبيَّ عليه الصلاة والسلام وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره ، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكاناً خالياً فتمكن منه .
أيها الإخوة الأكارم ؛ أيها الشباب أيها الصغار : كلما بكّرتم بالإيمان كلما تمكّن الإيمان في قلوبكم ، وكلما كانت نشأتكم منذ البداية على طاعة الله وطاعة رسوله وحب القرآن وحبِّ أهل الإيمان ، كلما نما الإيمان وترعرع حينما تكبرون .
مَن لم تكن له بداية محرقة ، لم تكن له نهاية مشرقة ، ريح الجنة في الشباب ، هذه القصة عجيبة جداً لطفل في العاشرة مِن عمره .
مرة قلت لكم : دخل وفدٌ من الحجازيين على عمر بن عبد العزيز فامتعض الخليفة منهم ، لأن فيهم غلاماً صغيراً ، وكأن هذا الغلام انتقص من قدره ، والأغرب من ذلك أن هذا الغلام وقف ليتكلم فقال له الخليفة عمر : اجلس ، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً ، فقال : أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه ؛ قلبه ولسانه ، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس .
الغلام الثاني دخل على أحد الخلفاء الكبار مِن بني أمية ؛ هشام بن عبد الملك ، فلما رأى طفلاً صغيراً بين الوفد عاتب الحاجب ، وقال : ما شاء أحدٌ أن يدخل عليَّ إلاّ دخل ، حتى الأطفال ، فقال هذا الغلام الصغير : أيها الأمير إنّ دخولي عليك لن ينقص من قدرك ، ولكنه شرَّفني ؛ أصابتنا سَنَة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقَّت العظم ، ومعكم فضولُ مالٍ ، فإن كانت هذه الأموال لكم فتصدقوا بها علينا ، وإن كانت لله فعلام تحبسوها عن عباده ، وإن كانت لنا فأعطونا إياها ؛ مثلما حسبتها احسب ؛ إن كانت لكم تصدقوا بها علينا ؛ إن كانت لنا فأعطونا إياها ؛ وإن كانت لله فأعطوها لعباده ؛ فقال الخليفة : واللهِ ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذرًا.
ومِن البطولات الغلمان ، والشيء بالشيء يُذكر أنّ عبد الله بن الزبير لما مرّ به سيدنا عمر ، وكان مع جمع غفير من غلمان المدينة يلعبون ، وكان عمرُ ذا هيبة عظيمة ، فلما رأوه فرّوا وولّوا هاربين ، إلا عبد الله بن الزبير ؛ فلَفَت نظرَ عمر بن الخطاب وقوفُه وأدبهُ ، فقال : يا غلام لِمّ لمْ تهرب مع من هرب ؛ قال : أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك ، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك ، والطريقُ يسعني ويسعك ، ما هذا الإسلام الرفيع ؟ ما هذا الأدب ؟ وما هذه الفصاحة ؟ بل ما هذه الجرأة ؟
أسلَمَ سيدنا عمير بن سعد في العاشرة ، و تفتح قلبه للإيمان ، وتمكن الإيمان من قلبه ، وألفى الإسلامُ في نفسه الصافية الشفافة تربةً خصبةً فتغلغل فيها ، فإذا نشأ الإنسان في طاعة الله، أو أسْلم على كِبَرٍ فلا بأس ، جزاه الله الخير ، ولكن المتقدِّمة سنُّه لا يعلم كثيراً مِن دينه ، قال لي أحدُهم وهو يُعَبِّر عن تقدمه في السن ، قال لي : أنا الدولاب عندي ماسح ، والعداد قالب ، لا يكاد يعلم ما حوله ، تكلمه عشر ساعات فيبقى محدودا ، ومَنْ شبَّ على شيء شاب عليه ، ومَن شاب على شيء مات عليه ، ومَن مات على شيء حُشِرَ عليه ، ومَن بلغ الأربعين ولم يغلب خيرُه شَرَّه فليتجهز إلى النار ، فأروع ما في الحياة أن ترى شاباً ناشئاً في طاعة الله ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن فيقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
(رواه أحمد)
همّه فهمُ القرآن وحفظه ؛ همه حضور مجالس العلم ؛ همه صلاة الليل ؛ همه فهم العلم ؛ هذا الشاب المؤمن يساوي وزنه ذهباً كما يقولون ، إنه شيء ثمين جداً .
أيها الإخوة الأكارم :
أقول هذا لآباء الشباب المؤمنين : واللهِ أيها الأب لو أنك تملك ملء الأرض ذهباً فإنّ هذا لا يقاس بابنٍ لك نشأ في طاعة الله ، لأن هذا الابن ثروة حقًّا ، وكل ثروتك تتركها في الدنيا ؛ لكن هذا الابن المؤمن ثروة دائمة دنيا وأخرى ؛ هذا الابن المؤمن الذي ينفع الناس مِن بعدك ؛ هذا الابن المؤمن الذي يعلم الناس مِن بعدك ؛ هذا الابن المؤمن الذي يعد استمراراً لك من بعدك ؛ وهو الثروة الكبرى ، لذلك فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ *
(رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد )
هذا عمل مشروعًا تجاريًّا ناجحًا جداً ، جمع مئات الملايين وهذا أنشأ مشروعًا صناعيًّا ، وهذا أقام مشروعًا زراعيًّا وصل لأعلى المراتب ، وهذا ترك ولدًا صالحًا ، فالولد الصالح خيٌر من كل أولئك ، لأنه صدقة جارية ، وينفع الناس من بعدك ، لأنك كل يوم تتلقَّى عطاءً من الله ، من أين هذا ؟ فقيل له : من ابنك الذي ربيته تربية صالحة .
وكان على حداثة سنه لا يتأخر عنْ صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المؤمن بالمسجد كالسمكة بالماء .
وكانت أمُّه كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة ، ويملأ قلبها السرور ، وإذا كنتُ أعجب لشيء لا أعجب أيها الإخوة فإنّي أعجبُ مِن أبٍ ينهى ابنه عن الصلاة في المساجد ، ولا أعجب حائرًا إلاَّ من أبٍ لا يريد ابنه أن يسلك طريق الإيمان ، فيضغط عليه بكل الوسائل ليصرفه عن طريق الحق ، إن أخبره ابنه أنه كان مع رفاق السوء وفي دور الملاهي فلا يتكلم كلمة راشدة ، ولا يعترض ، أمّا إذا بلغ الأب أن الابن كان في مجلس علم أو في مسجد يقيم الدنيا ولا يقعدها ، فما أشقى هذا الأب الذي يمنع ابنه عن سلوك أهل الإيمان .
وكانت أمُّه كما قلت قبل قليل كلما رأت ابنها عمير بن سعد ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة ، ويملأ قلبها السرور ، تارة مع زوجها وتارة وحده ، وسارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو هانئة وادعة ، لا يعكِّر صفوها معكر ، ولا يكدِّر هناءتها مكدِّر حتى شاء الله ، وها نحن الآن دخلنا في العقدة ، أول قسم في فنّ القصة اسمه البداية ، والبداية تنتهي حينما تستقرّ الأحداث ، أما إذا تأزّمت وتداخلتْ ونشأت المشكلة فهذه هي العقدة ، حتى شاء الله أن يُعرِّض الغلام اليافع لتجربة من أشدّ التجارب عنفاً ، وأعظمِها قساوةً ، وأن يمتحنه الله امتحاناً قلّما مرّ بمثله فتىً في سنه ؛ في السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على غزو الروم في تبوك ، وأَمَر المسلمِين بأن يستعدّوا ، ويتجهزوا لذلك ، هذه من أصعب الغزوات لبعد المسافة ، والوقت كان في أشد أشهر الصيف حرارةً ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها ، وأوهم أنه يريد جهةً غير الجهة التي يقصد إليها ، لأن الحرب خدعة، إلا في غزوة تبوك فإنه بيَّنها للناس لِبُعْدِ الشُّقَّة ، وعِظَم المشَقَّة ، وقوة العدو ، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم ، وليأخذوا للأمر أهبتَه ، ويعدّو له عدّته ، وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل ، وأنّ الحرّ قد اشتدّ ، والثمار قد أينعت ، والظلال قد طابت ، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل ؛ على الرغم من كل ذلك فقد لبّى المسلمون دعوةَ النبي عليه الصلاة و السلام ، وأخذوا يتجهزون ، ويستعدَّون ، فالمؤمن الصادق أداؤه للواجبات الدينية ليس على مزاجه ، ولا حسبَ فراغه ، ليس له خِيارٌ ، ويقول : ضاقت نفسُه وضجرتْ إنِ حضرَ الدرسَ .
إنَّ أداء الواجبات الدينية ، وطلب العلم ليس على مزاجه ، بل إنَّ كل حياته مُبَرْمَجةٌ وفق برنامجه الديني ؛ حر شديد ؛ مسافة شاسعة ؛ طابت الثمار وأينعت ؛ مال الإنسانُ للاسترخاء ؛ للراحة ؛ للمكثِ في البيوت الرطبة ؛ وجاء النفير العام إلى تبوك ، وهذا الكلام لا يعرفه إلا من ذهب إلى الحج و العمرة ؛ فلا يعرف ما معنى الحر ؛ حين تبلغ درجة الحرارة ستًّا وخمسين درجة في الظل ؛ كنا نخرج من الغرفة من البيت في مكة الساعة العاشرة ليلاً ، وكأنك داخل إلى تنور .
غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبِّطون العزائم ، ويوهنون الهمم ، ويثيرون الشكوك ؛ لماذا هذه الغزوة الآن ؟ و يغمزون الرسول صلوات الله عليه ، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغاً دائماً ، فالمنافق دائمًا يشكِّك ويقول : أنا لا أقبض فلانًا ، دائماً يطعن ، دائماً يثبِّط العزائم ، دائماً يبثُّ الشكوك ، ويثير الفتنَ ، ويشقُّ الصفوفَ ، ويوهن العزائمَ، هذه مهمة المنافق ، إنه طابور خامس ، يضعف معنويات المؤمنين ، ويضخم مِن قوة أعدائهم ، ويحلُّ بينهم الشقاق بين المؤمنين ، ويضعف عزائمهم ، ويطعن في نواياهم .
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقتْ رحيلَ الجيش عاد الغلامُ عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد ، وقد امتلأت نفسُه بطائفة مشرقة من صور بذل المؤمنين وتضحيتهم ، لقد رآها بعينه ، وسمعها بأذنه ، والصيف حار ، والمسافة طويلة ، والثمار أينعت ، والظلال طابت، والنفس مالت للاسترخاء ، مع كل ذلك رأى هذا الغلام الصغير من صور البطولة عند الصحابة ما تخشع له الأبدان ، رأى نساء المهاجرين والأنصار يُقْبِلن على رسول الله ، ينزعن حليهن ، ويلقينها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام ، ليبيع هذه الحلي ، ويجهِّز بثمنها الجيش الغازي في سبيل الله ، وأبصر الغلامُ عميرُ بعين رأسه عثمانَ بنَ عفان يأتي بجرابٍ فيه ألف دينار ذهباً ، وقَدَّمه للنبي عليه الصلاة والسلام .
مَن الذي قال لك : قوةُ المال أقلُّ من قوة العلم ؟ المال قوةٌ كبيرة في الحياة ، والعلم قوة كبيرة ، وإذا تعاون المال والعلم تحقّق المستحيل ، أُناس آتاهم الله علماً ، وأناسٌ آتاهم الله مالاً ، أناس آتاهم الله وجاهةً وقوةً ، هذه القُوى الثلاث تشكِّل القوة الكبرى في المجتمع ، لذلك فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ *
(رواه مسلم)
لا بد من التفوق ، وإنّ علو الهمة من الإيمان ، فتفوَّقْ بالعلم أو بالمال أو بالسلطان والقوة ، لأنك إذا كنت كذلك كنت عوناً للمسلمين ، وكنت قوةً لمجموع المسلمين .
لقد أتى سيدنا عثمان بجراب فيه ألف دينار ذهباً ، وقدمه للنبي عليه الصلاة والسلام ، ونزَعَ نساءُ المهاجرين والأنصار الحلِيَّ ، وقدمنها للنبي عليه الصلاة والسلام ، وحملَ عبدُ الرحمن بن عوف على عاتقه مائتي أوقية من الذهب ، وألقاها بين يدي النبي الكريم ، هذا ما جاد به هؤلاء الأغنياء ، أمّا الفقراء فصحابي جليل حمل على كتفه فراشه الذي لا يملك غيره ، وَعَرَضَه للبيع، ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله ، فالكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، والغني والفقير، كل هؤلاء الصحابة الكرام بذلوا لهذه المعركة الحاسمة الشاقة والطويلة .
هذا الطفل الصغير عمير بن سعد استعاد هذه الصورة الفذة الرائعة ، لكنه عجب أشَدّ العجب لتباطؤ الجلاس زوج أمه عن الاستعداد للرحيل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعجِب لتأخره عن البذل على الرغم من قدرته ويساره ، وحينما عرض عمير بن سعد على عمه زوج أمه هذه الصور الفذّة ، وهذه البطولات الرائعة ، وهذا البذل السخي ، وهذه التضحية ، أراد أن يستثير حماسة عمّه ، فقصَّ عليه أخبار ما سمع ، وأخبار ما رأى ، وخاصةً خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه في لوعةٍ أن يضمّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله فردَّهم النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما يبلغهم أمنيتَهم في الجهاد .
هذه الصورة لكي تعرفوا الفرق الكبير بين الصحابة وبين مؤمني آخر الزمان يبكون لأنهم لم يُتَحْ لهم الجهاد في سبيل الله مع المجاهدين .
لكن الجلاس زوج أم عمير بن سعد الذي أحبّه حبًّا جمًّا ما كاد يسمع من عمير ما سمع - هنا أعقد ما في القصة - حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن ، ماذا قال الجلاس بعد أن سمع خبر سيدنا عثمان ، وسيدنا عبد الرحمن ، وهذا الفقير الذي باع فراشه ، والنساء اللواتي قدَّمن الحليَّ للنبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال الجلاس : إْن كان محمّدٌ صادقاً فيما يدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير ، ما هذه الكلمة ؟ هذه كلمة الكفر بعينها ، فدهش عمير مما سمع ، ولم يكن يظن أن رجلاً له عقل عمّه وسنّه تندُّ من فمه مثل هذه الكلمة ، التي تُخرِج صاحبَها من الإيمان دفعة واحدة ، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه .
أحيانًا إذا أمسك الرجلُ المصحفَ ، وألقاه باستخفاف ليهينه فقد كفر ، وإذا قال : لماذا الصلاة ، وما فائدتها ؟ فقد كفر ، إذا أنكرت شيئاً عُلِمَ مِن الدِّين بالضرورة ، كأنْ تنكر حقيقة آية كريمة أو حديثًا صحيحًا متواترًا ، وإذا أنكرت فريضةً فهذا هو الكفر بعينه .
قال الجلاس : إن كان محمد صادقاً فيما يَدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير ، وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يلقى إليها من المسائل انطلق عقل الفتى عمير بن سعد يفكّر فيما يجب عليه أن يصنعه ، عمّه زوج أمّه ، وأقرب الناس إليه ، وأحبّهم إليه ينطق بكلمة الكفر ، هنا المشكلة ، غلام في سن العاشرة حُمِّل ما لا يطيق ، فإنْ سكت على عمّه ، وتستر عليه فقد خان الله ورسوله ، لأن النبي يحسبه مؤمناً ، بينما هو منافق وليس مؤمناً ، بل كافرٌ محسوب على النبي ، أنه من أصحابه ، وإنْ أذاع هذا الكلام كان عقوقاً لعمّه ، وهو الذي أنقذه من الفقر واليتم ، وأكرمه ، وأطعمه ، وألبسه ، ورعاه ، وقدّم له كل ما يحتاج ، إنه موقف عسير وخطير وشديد ، وإنه لصراع عنيف ، وكان على الفتى أنْ يختار بين أمرين ، أحلاهما مُرٌّ ؛ إن أبلغ النبي فقد عقَّ عمّه ، وإن سكت عنه فقد خان النبي .
استمعوا أيها الإخوة إلى ما فعله عمير بن سعد ، التفت عمير بن سعد إلى الجلاس ، وقال : واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحبّ إليّ منك ، وقد كنتَ آثرَ الناس عندي ، وأجلَّهم يداً عليّ ، ولقد قلتَ مقالةً إنْ ذكرتُها فضحتْكَ ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي ، وأهلكت نفسي وديني ، وقد عزمتُ على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت ، فكن على بيِّنة من أمرك ، وتصرف الفتى هذا لم يكن من خلف ظهر علمه .
طبعاً العم كبير وثري ، ومن وجهاء المدينة ، والطفل عمره عشر سنوات ، فهل يُعقَل أنْ يقبل التحدِّي ؟ تكلم وانتهى ، وهذا الطفل إنْ سكت خان الله ورسوله ، لعل هذا المنافق يكيد للنبي ما دام لا يصدق برسالته ، وإنْ فضحه كان عقوقاً بولِيِّ نعمته ، فاختار أن يبلّغه ، فهو لن يسكت عن هذا الكلام ، فمضى الفتى عمير بن سعد إلى المسجد ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سمع من عمه الجلاس بن سويد ، فاستبقاه النبي عليه الصلاة والسلام عنده ، وأرسل أحدَ أصحابه ليدعو له الجلاس ، وما هو إلا وقت قليل حتى جاء الجلاس فحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى :

(سورة المجادلة )
وجلس بين يدي النبي ، وقال عليه الصلاة والسلام : يا جلاس ، مقالةٌ سمعها منك عمير بن سعد، وذكر له ما قاله ، فقال : يا رسول الله كذب عليَّ وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك ، فكيف صار وضع هذا الطفل الصغير ؟ شخص وجيه وقوي وغني قال عنه : كذّاب ، كذب عليّ يا رسول الله وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك ، وأخذ الصحابة ينقِّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد ، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتيْ وجوههما ما تكنُّه صدورهما ، وجعلوا يتهامسون ، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض : فتىً عاق ، أبَى إلا أن يسيء لمَن أحسن إليه ، وقال آخرون : بل إنه فتىً نشأ في طاعة الله ، وإن قسمات وجهه لتنطق بالصدق .
والتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير فرأى وجهه محتقنًا بالدم ، والدموع تنحدر من عينيه ، وتتساقط على خديه وصدره ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيانَ ما تكلمتُ فيه .
هذا الطفل الصغير يدعو الله عز وجل أن ينزل وحياً يصدِّق مقالته ، فانبرى الجلاس ، وقال: إنّ ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق ، وإن شئتَ تحالفنا ، نقسم بين يديك ، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئاً مما نقله إليك عمير ، فما إن انتهى من حلفه ، وأخذت عيونُ الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى غشيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السكينةُ ، فعرف أصحابُه أنه الوحي ، نزل الوحي مباشرةً ، فلزموا أماكنهم ، وسكنت جوارحهم ، ولاذوا بالصمت، وتعلقت أبصارهم بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس ، وبدا التلهُّفُ والتشوُّفُ على عمير ، وظل الجميع كذلك حتى سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا قوله جل جلاله :

(سورة التوبة )
فارتعد الجلاس مِن هولِ ما سمع ، وكاد ينعقد لسانه من الجزع ، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : بل أتوب يا رسول الله ، بل أتوب ، صدق عمير يا رسول الله ، وكنت أنا من الكاذبين ، اسأل اللهَ أنْ يقبلَ توبتي ، جعلت فداك يا رسول الله ، وهنا توجّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عمير بن سعد ، فإذا دموعُ الفرح تبلِّل وجهه المشرق بالإيمان ، فمدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام يدَه الشريفة إلى أذنه، وأمسكها برفق ، وقال : وفّتْ أذنُك يا غلام ما سمعت ، وصدَّقك ربك ، وعاد الجلاس على إثر هذه الحادثة إلى حظيرة الإسلام ، وحسُن إسلامُه .
أمّا أروع ما في القصة ، وقد عرف الصحابة صلاحَ حاله ممَّا كان يغدقه على عمير من بر، فعوضاً أنْ يطردَ عميرًا ضاعف له إكرامه ، وأغدق عليه من البر الشيء الكثير ، وكان الجلاس يقول كلما ذكر عميرًا : جزاه الله عني خيراً ، فقد أنقذني من الكفر ، وأعتق رقبتي من النار ، هذه صورة من حياة عمير بن سعد ، وكانت سنه لا تزيد عن عشر سنوات ، فما قولكم أليس الإسلام عظيمًا يصنع الأبطال وهم صغار ؟ ما خانه ، وما أبلغ النبيَّ من وراء ظهره بما فعل عمُّه ، وما سكت عن كلمة الكفر ، ولا خان الله ورسوله ، لقد وقف موقفاً رائعاً ، وكان فيه مخلصاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام أثنى عليه ، وأمسك أذنه برفق ، وقال : وفّت أذنُك يا غلام ما سمعتْ ، وصدّقك ربك ، ونزل الوحي مصداقاً لقول هذا الغلام الصغير
حينما كبر هذا الغلام وصار في سن الرشد أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعيِّن والياً على حمص ، نثر كنانته ، وعجم عيدانها عوداً عوداً ، فلم يجد خيراً من عمير بن سعد ، رأى في هذا الصحابي الجليل أفضل إنسان يتولى أمر حمص ، وصل عمير إلى حمص ، ودعا الناس للصلاة في المسجد ، ولما قُضِيَت الصلاة خطبَ الناسَ ، وحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ((أيها الناس إن الإسلام حصن منيع ، وباب وثيق ، وحصنُ الإسلام العدلُ ، وبابُه الحقُّ ، فإذا دُكَّ الحصنُ ، وحُطِّم البابُ استُبِيحَ حِمَى هذا الدين ، وإنّ الإسلام ما يزال منيعاً ما اشتد السلطانُ ، و ليست شدة السلطان ضرباً بالسوط ، ولا قتلاً بالسيف ، ولكن قضاءً بالعدل ، وأخذاً بالحق)) ، ما هذه الكلمات ؟
قضى عمير بن سعد حولاً كاملاً بحمص ، لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتاباً ، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين من الفيء درهماً و لا ديناراً ؛ فأخذت الشكوك تساورُ عمرَ بن الخطاب ، إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة ، فلا معصوم عنده غير النبي عليه الصلاة والسلام ؛ قال لكاتبه : اكتب إلى عمير بن سعد ، وقل له : إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص ، وأقبل عليه ، واحمل معك ما جَبَيْتَ من فيء المسلمين ؛ تَلَقَّى عميرٌ الكتاب ، فأخذ جراب زاده ، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه ، وأمسك بيده حربته ، وخلّف حمص وإمارتها وراءه ، وانطلق يحثّ الخطى مشياً على قدميه إلى المدينة ، فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه ، وهزل جسمه ، وطال شعره، ظهرت عليه وعثاءُ السفر ، دخل عميرٌ على عمر رضي الله عنه فدهش الفاروق من حالته ، وقال : ما بك يا عمير ؟ قال : ما بي من شيء ، فأنا صحيح معافى بحمد الله ، أحمل معي الدنيا كلها ، وأَجُرُّها من قرنيها ، قال : ما معك من الدنيا ؟ قال : معي جرابي وضعت فيه زادي ، ومعي قصعتي آكل فيها ، وأغسل عليها رأسي وثيابي ، ومعي قربة لوضوئي وشرابي ، ثم إن الدنيا كلها يا أمير المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي ، وفضلة لا حاجة لي ، ولا لأحد غيري بها ، والي حمص كل دنياه على كتفه ، هذه القصعة والإناء والجراب والعصا ؟‍! فقال عمر : وجئت ماشياً ؟! قال : نعم ، قال : أما أُعطِيتَ من الإمارة ولا دابة تركبها ، هم لم يعطوني ، وأنا لم أطلب منهم ، وأين ما أتيت به لبيت المال ؟ قال : لمْ آتِ بشيء ، ولِمَ ؟! قال : لمّا وصلتُ حمص جمعتُ صلحائها ، وولّيتُهم جمعَ فيئهم ، فكانوا كلما جمعوا شيئاً استشرتُهم في أمره ، فوضعته في مواضعه ، وأنفقته على المستحقين منهم، فقال عمر لكاتبه : جدِّد عهداً لعمير على ولاية حمص ، فقال عمير : هيهات فإن ذلك شيء لا أريده ، ولن أعمل لك ، ولا لأحد من بعدك يا أمير المؤمنين ، ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية من ضواحي المدينة يقيم فيها مع أهله ، فَأذِنَ له ، وبقي عمرُ يشكُّ فيه ، فلم يمضِ على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمرُ أن يختبر صاحبه ، وأن يستوثق من أمره ، فقال لأحد ثقاته يُدعى الحارث : انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد ، وانزل به كأنك ضيف ، فإن رأيتَ عليه آثارَ نعمة فَعُدْ كما أتيت ، وإنْ وجدتَ حالاً شديداً فأعطِه هذه الدنانير ، وناوله صُرّة فيها مائة دينار ، فانطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير ، وسأل عنه فَدُلّ عليه ، ولما لقيه قال : السلام عليك ورحمة الله ، قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، مِن أين قدمت ؟ قال : من المدينة ، قال : كيف تركت المسلمين ، قال : بخير ، قال : كيف أمير المؤمنين ، قال : صحيح صالح ، قال : أليس يقيم الحدود ؟ قال : بلى ، قال : اللهم أعِن عمرَ فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك ، أقام الحارث في ضيافة عمير ثلاث ليال ، كان يخرج له كل ليلة بقرص من الشعير يقدمه له ، فلما كان اليوم الثالث قال للحارث رجلٌ من القوم : لقد أجهدتَ عميرًا وأهله ، فليس لهم إلا هذا الرغيف ، وقد أضرّ بهم الجوع والجهد ، فإن رأيتَ أن تتحّول فتحوّلْ إليَّ ، عند ذلك أخرج الحارث الدنانير ، ودفعها إلى عمير ، فقال عمير : ما هذه ؟ قال : دفع بها إليك أمير المؤمنين ، قال : رُدَّها إليه ، واقرأ عليه السلام ، وقل له : لا حاجة لعمير بها ، فصاحت امرأته مثل كل النساء ، وكانت تسمع ما يدور بين زوجها وضيفه : خذها يا عمير ، فإن احتجتَ إليها أنفقتها ، وإلا وضعتها في مواضعها ، فالمحتاجون هنا كثيرون ، فلما سمع الحارث قولها ألقى الدنانير بين يدي عمير وانصرف ، فأخذها عمير، وجعلها في صرر صغيرة ، ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزّعها بين ذوي الحاجات ، وخصّ منهم أبناء الشهداء ، وعاد الحارثُ إلى المدينة، وقال له عمر : ما رأيت يا حارث ؟ قال : حالاً شديدة يا أمير المؤمنين قال : أدفعتَ إليه الدنانير ؟ قال : نعم ، قال : وما صنع بها ؟ قال الحارث : لا أدري ، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهماً واحداً ، فكتب الفاروق إلى عمير يقول له : إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل عليّ ، وتوجَّهَ عمير إلى المدينة ، ودخل على عمر رضي الله عليه ، فرحّب به ، وأدنى مجلسه ، ثم قال له : ما صنعتَ بالدنانير يا عمير ؟ قال : وما عليك منها بعد أن خرجتَ لي عنها؟ قال : عزمتُ عليك أن تخبرني بما صنعت بها ؟ فقال : ادَّخرتها لنفسي لأنتفع بها في يومٍ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم ، ولو كانت بهم خصاصة ، فالآية انطبقت عليه ، ثم أمر له بوسق من طعام وثوبين ، فقال : أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين ، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير ، وإلى أن نأكلهما يكون الله عز وجل قد جاء بالرزق ، وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان ، يعني زوجته ، فقد بلي ثوبها ، وكادت تعرى .
أرأيتم مثَل هذا الزهد ؟! أرأيتم مثل هذه العفة ؟! أرأيتم مثل هذا الورع ؟! هذا عمير بن سعد يوم كان صغيراً ، وهذا عمير بن سعد يوم صار كبيراً ووالياً ، وتعفّف عن كل شيء يناله من هذه الإمارة .
طبعاً جاءته المنية رضي الله عنه وبلغ الفاروقَ نعيُه ، ووشح الحزنُ وجهَه ، واعتصر الأسى فؤاده ، وقال : وددتُ أن لي رجالاً كثيرًا مثل عمير بن سعد ، أستعين بهم في أعمال المسلمين ، هكذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا نمط من أنماط الصحابة ، فكل إنسان عنده طفل صغير ، ولعل هذا الطفل الصغير يكون كهذا الصحابي الجليل ، فاعتنُوا بأولادكم ، علِّموهم ، وأدِّبوهم ، وعلِّموهم القرآن ، وفقِّهوهم ، ودلُّوهم على الله عز وجل ، فلعل الله عز وجل يجعل من أولادكم قرّةَ عين لكم .
والحمد لله رب العالمين
***
القسم : السيرة والشمائل
الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 12:38 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com