النشرة، ويحتمل أن يكون من النشر؛ بمعنى الإخراج فتوافق من رواه بلفظ: (فهلا أخرجته) أي أخرجت ما حواه الجف. ولأن النشر يأتي بمعنى الإخراج، فالأولى أن تحمل الروايات على معنى واحد يعبر عن هذه الألفاظ المتعددة؛ وهو أن سؤالها كان عن إخراج ما احتواه الجف من السحر وإظهاره للناس، فهناك إخراجان أحدهما مثبت والآخر منفي؛ الأول إخراجه من البئر، وهو المثبت؛ ففي الحديث: فأمرَ به النبي صلى الله عليه وسلم فأُخرجَ، والثاني المنفي؛ وهو إخراج ما حواه الجف من السحر وإظهاره للناس، وهو الذي سألت عنه عائشة رضي الله عنها.
وان قيل: إن الحمل على هذا المعنى لا يصح لأن بعض الروايات جاء فيها إشعار باستكشاف ما حواه الجف فوجدوا وترًا فيه عقد وانحلت عند قراءة المعوذتين، فهذه الروايات غير ثابتة، قال الحافظ: [1] "فلو كان ثابتًا لقدح في الجمع المذكور, لكن لا يخلو إسناد كل منهما من ضعف".
ثم إن سؤال عائشة من الصعب أن يحمل على معنى: لو أنك ذهبت للسحرة لفك سحرك؛ إذ كيف تشير عليه عائشة رضي الله عنها بطلب العون من السحرة واللجوء لهم, وهي تدرك قول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ** [البقرة: 102]، وتدرك وتعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها السحر, ولا تجهل الكفر الذي يقوم به الساحر، فهل يعقل أن تشير على رسول هذه الأمة أن يلجأ إلى ساحر وهو الذي ينهى عنه وعن إتيانه؟
فالأولى حمل النشرة التي وردت في حديث سفيان على الإخراج؛ للتوفيق بين الأدلة وهذا ممكن ولله الحمد.
وثانيا: حتى وإن سلمنا أن سؤال عائشة كان عن الذهاب للسحرة, وثبت إقرار النبي للنشرة، فهذا أيضًا لا يرجح الجواز؛ لأن ذلك فيه تعارض بين النصوص مع بعضها، ولا يمكن الجمع والتوفيق بينها؛ وهي حديث عائشة هذا الذي برواية سفيان وحديث جابر الذي رواه أحمد وأبو داود، فعن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن النشرة قال: (هي من عمل الشيطان) وكل منهما دليل خاص.. فعلينا الترجيح بينهما، ومن قواعد الترجيح:
1- أن الفعل لا يقدم على القول؛ ويقول الأصوليون من باب أولى أن لا يقدم الإقرار على القول, فيرجح بهذا حديث جابر لأنه قولي فيقدم بذلك.
2- وأيضًا من قواعد الترجيح أخذ ما كان العمل به أحوط, وما لا يتعارض مع ما شهد به القرآن والسنة والإجماع، والذي لا يتعارض أيضًا مع ما عمل به الخلفاء؛ ففي البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر, فلو كان في إبقائهم مصلحة ترجى أو خير يبتغى لما أمر بقتلهم عمر رضي الله عنه!!! فيرجح بهذا حديث جابر لأنه أحوط وأسلم ولا يخالف النصوص، بل جاء موافقًا للقرآن وسنة النبي وسنة أصحابه الأخيار من بعده.
3- وأيضًا من قواعد الترجيح إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر يقتضي الإباحة قدم التحريم في الأصح, قال الأئمة: وإنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم، وذلك أولى من عكسه. وأورده جماعة حديثًا, وروي موقوفًا على ابن مسعود فيرجح بهذا حديث جابر لأنه نص على النهي.
ففِعله وإقراره صلى الله عليه وسلم إن عارض قوله ظاهرًا, فإما أن يكون ذلك خاصًّا به أو لأسباب وحكمة لا نعلمها بسب القصور في الذهن لدينا. فيبقى حكم النهي كما هو لا يزول لهذه الأسباب التي قررها أهل العلم.
ثالثا: يستدل المجيزون بما رواه البخاري عن قتادة قال: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس إنما يريدون به الإصلاح, فأما ما ينفع فلم ينه عنه.
وهذا من ابن المسيَّب يُحمل على نوع من النشرة لا يُعلم أنه سحر.
لأن سؤال قتادة في النشرة عن المسحور، وكان جواب ابن المسيب لا بأس -أي بالنشر- لأنهم يريدون الإصلاح, فأما ما ينفع فلم ينه عنه. فدل على أنه أراد الرقية الشرعية أو النشرة المباحة الخالية من الشرك؛ لأنها منفعة لا تلحقها مضرة لا دنيوية أو أخروية، والنبي لم يأذن بفك السحر إلا بالرقية الشرعية والأدوية المباحة؛ كما في الحديث: فلعل طبا أصابه، ثم نشره بـ(قل أعوذ برب الناس)، أي رقاه، وطلب من الصحابة الكرام أن يعرضوا رقاهم عليه فقال: اعرضوا علي رقاكم؛ لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا.
وأما حمل كلام ابن المسيب على جواز النشر عن المسحور بالسحر فلا يصح، وإن صح عنه ذلك فإنه لا يؤخذ بقوله؛ لأنه قول مخالف للنصوص العامة والخاصة, والسحر عرف منذ القدم وعرفته العرب، وكان يستخدم على الوجهين: في الشر والضرر, وفي النشر وحل السحر عن المسحور, وبعد الإسلام نزلت آيات السحر في ذمه والنهي عنه, آيات عامة بدون تخصيص, وكذلك أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تأمر باجتنابه وتبين كفر طالِـبِه والخطاب فيها عام، فالنهي يشمل الوجهين.
يقول ابن قدامة في روضة الناظر وجنة المناظر: "إجماع الصحابة رضوان الله عليهم؛ فإنهم من أهل اللغة، بأجمعهم أجروا ألفاظَ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل على تخصيصه دليل، فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم، والإجماع حجة، فالأصل استصحاب عموم الدليل حتى يرد المخصص".
والعموم لا يحمل على غيره إلا بقرينة. ولا توجد قرينة تنقله للخصوص, فأدلة الســــحر القرآنية والحديثية, أدلة تشتمل على ألفاظ وصيغ تعبر عن العموم، وهي معروفة ومدونة في كتب العلم، فإن وردت في النصوص كان دليلا عامًّا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا يؤمن بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
فيه من صيغ العموم "من" للعاقل, و"ما" فيما لا يعقل, أي عموم الإتيان للساحر والاستعانة به وقصد سحره يترتب عليه الكفر, بأي غاية كانت، وتصديقه بأي شيء قاله دون تخصيص أو استثناء, فهذا هو المفهوم الظاهر للحديث، فيبقى المعنى والحكم كما هو لانتفاء الناسخ أو المخصص أو الإجماع على خلاف العموم.
فلم يخصصون الدليل؟
وقال أيضًا صلوات ربي وسلامه عليه: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له)، فيه (من) وهي من ألفاظ العموم؛ ففيه كفر من تطلب عمل السحر، ولا شك أن الشخص المسحور الذي ينشر عنه بالسحر يدخل في هذا العموم, والسحر هنا لفظ عام يشمل الوجهين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله/ والسحر ..... الخ)، والسحر اسم جنس محلى بـ(ال) التعريف فيوجب العموم، أي يشمل سِـحرًا قُــصِد للشـرِِ والأذية أو التفريق أو للنشر عن المسحور لما فيه من الأمور الكفرية، فالأمر عام بالاجتناب، والأصل في الأوامر الحتم, يقول شارح كتاب التوحيد: "قوله: اجتنبوا أي ابعدوا, وهو أبلغ من قوله دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ"، وغيره من الأدلة.
وهكذا الأدلة جميعها، فالناظر إليها يجدها أدلة عامة. فليست هي خاصة لمن قصد السحر لإرادة الإضرار.
والمخصصات هي: النص، والعقل، والحس، والمفهوم، والإقرار، والفعل، والإجماع, ولا أحد يستطيع أن يثبت شيئًا منها.
فالأولى حمل كلام ابن المسيب على نوع من النشرة لا يُعلم أنه سحر.
رابعا: يقولون حملَنا على الإباحة الضرورةُ التي تباح بها المحرمات
استنباطًا من قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ** [الأنعام: 119].
فهذا احتجاج فاسد لا اعتبار له؛ لأن علماء الأصول وضعوا لهذه القاعدة شروطًا تضبطها وتحكمها، فلا بد من تحققها واستيفائها أولا, ومن هذه الشروط -بل هو أولها- أن يتعين المحظور طريقًا لدفع الضرورة, أي انتفاء البديل عدا الأخذ بالمحظور, والمعلوم أن البدائل موجودة وطرق علاج السحر كثيرة، كما تبين سابقًا, فلا يرى إذن ما يسوغ فعل المحظور.
- وفي بيان للجنة الدائمة للبحوثالعلمية والإفتاء عن علاج السحر، جاء فيـه:
(.. ولا يصح القول بجواز حل السحر بسحر مثله بناء على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات؛ لأن من شرط هذه القاعدة أن يكون المحظور أقل من الضرورة، كما قرره علماء الأصول، وحيث إن السحر كفر وشرك، فهو أعظم ضررًا؛ بدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى مالم يكن فيها شرك)، أخرجه مسلم، والسحر يمكن علاجه بالأسباب المشروعة، فلا اضطرار لعلاجه بما هو كفر وشرك..)ا.هـ.
ثم إن التداوي لا يعد ضرورة، ولا تستحل به المحرمات، والدليل على ذلك ما قاله ابن تيمية في الرد على من أباح التداوي بالمحرمات؛ قال: "أما إباحة المحرمات للضرورة فحق؛ وليس التداوي بضرورة لوجوه:
أحدها: أن أكثر المرضى يشفون بلا تداو، ويشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض، وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل، أو دعوة مستجابة، أو رقية نافعة، أو قوة قلب وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة ظاهرة وباطنة, ******ة وجسدية.
وثانيها: أن التداوي غير واجب، ومن نازع فيه خَصَمتْه السنةُ في المرأة السوداء التي خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الصبر على البلاء ودخول الجنة، وبين الدعاء بالعافية، فاختارت البلاء والجنة. ولو كان رفع المرض واجبًا لم يكن للتخير موضع، وخَصَمَه حالُ أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له؛ مثل أيوب عليه السلام وغيره، وكذلك السلف الصالح.
ثالثها: أن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض، إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد.
رابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى، ومحال أن لا يكون له في الحلال شفاء أو دواء، والذي أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرؤوف الرحيم كما جاء في الحديث المروي: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" [2].
ثم قال في موضع آخر -رحمه الله-: (والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال).
خامسا: احتجاجهم بالقاعدة (الأصل في المنافع الإذن, وفي المضار المنع)
فالمجتهد الضال عندما يخالف عموم النصوص الصريحة من غير مسوغ شرعي من أجل مصلحة يتوهمها ليس له عليها من الله برهان فقد وقع في الخطأ العظيم؛ لأنه تحليل للحرام وتحريم للحلال، وذلك دليل على ضحالة علمه وجرأته على دين الله.
فإن هذه القاعدة ليست على الإطلاق، بل قُيدتْ بقيد, يقول الفقهاء: إن الحكم على المضار والمنافع, يكون بأدلة السمع لا بأدلة العقل، خلافًا للمعتزلة [3]؛ لأن المصالح والمنافع نسبية يختلف اعتبارها من مجتهد لآخر، فاحتاجت لشرع من الإله يضبطها.
فالضابط هو قول الشارع، والله عز وجل قال في السحر الذي يزعم المجيزون منفعته ويحتجون لإثبات إذن التداوي به: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ** [البقرة: 102]، يقول أهل العلم: نفى الله أن يكون في السحر منفعة بأي وجه من الوجوه، فإنه ضرر محض خالص لا نفع فيه إطلاقا؛ لأن الفعل المضارع بعد النفي يدل على العموم كما حكاه بعض العلماء، فالمحرمات التي فيها شيء من النفع وفيها ضرر أكبر تحرم للضرر العظيم الذي فيها، فكيف بالذي كله ضرر؟ فإنه يحرم من باب أولى. والخمر والميسر أخبر الله أن فيهما منفعة، فالله لم ينفِ منافعهما مع رجحان إثمهما فلذلك حرما, وحرمت عموم الخبائث وكل نجس، ولكن أجيز التداوي بأبوال الإبل بالنص مع أنها مستقذرة لثبوت المنفعة الراجحة بها.
روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعًا: (إن في أبوال الإبل شفاء لذربة بطونهم) [4].
لكن في السحر الأمر يختلف لنفي الشارع المنفعة مطلقًا؛ لأن الكفر لا توجد فيه منفعة، بل هو مفسدة عظمى للعقائد والنفوس، ولو كان فيه منفعة لنفع السحرة أنفسهم، فهؤلاء يعلمون أن الساحر ما له نصيب في الآخرة، لكنهم يطلبون به الشرف والرئاسة في الدنيا، وطالت الأزمان ولم يحصل لهم ذلك، فما نفعهم السحر كما دلت عليه أحوالهم، ولا ننكر أن الساحر قد يتحصل له بعض أغراضه لكن يعقبه الضرر عليه في الدنيا والآخرة أعظم مما حصل عليه من أغراضه.
وقال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى** [طه: 69].
يقول البعض: إن هذه الآية المقصود بها نفي فلاحهم في الآخرة، وليس المقصود نفي فلاح سحرهم في الدنيا؛ لأنهم قد يفلحون في إيقاع الضرر أو النفع، ويقول المفسرون على هذه الآية: أي لا يظفر الساحر بسحره بـما طلب أين كان [5]، والمفلح: هو الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب، فالساحر لا يحصل له ذلك [6].
فالفعل في سياق النفي يدل على العموم؛ قال تعالى: (لا يفلح) أي يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر، والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب؛ قال تعالى: (حيث أتى) تأكيدًا للعموم، أي حيث توجه وسلك، وهذا أسلوب عربي معروف، يقصد به التعميم كقولهم: فلان متصف بكذا أينما كان [7]، وإن قولهم بأن السحرة يفلحون في إيقاع الضرر والنفع فإنه مصادمة مع كتاب الله؛ لأن الأصل هو إثبات ما أثبته الله في كتابه ونفي ما نفاه. والله أثبت لهم إيقاع الضرر بعد مشيئته سبحانه فقال: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ** [البقرة: 102]، لكن النفع نفاه الله عز وجل فقال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ** [البقرة: 102]، وحقيقة النفع: لذة لا يعقبها عقاب ولا يلحقها ندامة، ونفي فلاحهم بعملهم مقيد يخرج عنه ما أثبته لهم من التفريق والأذية.
فبطل احتجاجهم بالقاعدة؛ لأنها قاعدة مقيدة وليست على الإطلاق، فتبين زيف ادعائهم؛ لأن النصوص الإلهية تنفي النفع عن السحر، بل على العكس ثبت مضرته وفساده على العقائد والنفوس، فمن ادعى أن في السحر مصلحة فإنها مصلحة متوهمة، وهي مصلحة ملغاة؛ لتعارضها مع عموم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن الله تعالى خلق الداء والدواء، فتتداووا ولا تتداووا بحرام) [السلسلة الصحيحة], فعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة كما قرر ذلك علماء الأمة.
سادسا: يحتجون بالقاعـدة الفقهية (الأمور بمقاصدها)
وذكر ابن حجر مثل هذا، والقاعدة استنباط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..)، يقول أهل العلم: إن الشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها, ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه. وهذا الكلام صحيح، لكن في هذه المسألة لا يستدل به؛ لأنه إلباس للحق بالباطل, لأن القاعدة هي:
1- قاعدة فقهية موضوعها أفعال المكلفين، وهي ليست ضابطًا لاستنباط الحكم من النصوص الواردة في المسألة
2- وأيضًا لا يقتصر عليها بذاتها في إصدار الأحكام دون أن يعضدها نص يعزز الحكم.
3- وأهل العلم يستدلون بهذه القاعدة في العبادات المحضة، وفي المباحات والتروك الموجبة للمثوبة, لأن النية عبادة بحد ذاتها, وفي المعاملات والعقود بين الأفراد بشتى أنواعها, وفي الأيمان. لكن الاستدلال بها لتسويغ المحرمات والكبائر ما سبق أحد من أهل الحق لهذا
4- يقول المحققون: إن قواعد الفقه قواعد أغلبية مبنية على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد, تخالف أحكامها حكم القاعدة, بسب نص أو إجماع أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثرة, لذلك سمى العلماء قواعد الفقه قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة, وسموا قواعد الأصول قواعد مطردة؛ لأنه لا يستثنى منها شيء.
وورد في كتب القواعد الفقهية مسائل مستثناة على قاعدة الأمور بمقاصدها, من هذه الاستثناءات التي وردت على القاعدة: التوسل بالوسائل المحرمة للحصول على أمر مباح شرعًا؛ إما استعجالا أو تحايلا، وعُبر عن هذا الناقض في منظومةٍ لأصُولِِ الفقهِ يقولُ نَاظِمُها:
وَكُـلُّ مَـنْ تَعَجَّـلَ الشَّيءَ على = وجْـهٍ مُحَـرَّمٍ فَمَنْعُــهُ جَلاََ
فالتوسل بالسحر المحرم المشتمل على أقوال أو أفعال أو اعتقادات كفرية, والتداوي به، والعدول عن الوسائل المباحة استعجالا للشفاء...هو أمر لا يستدل عليه بهذه القاعدة؛ لأنه مستثنى من القاعدة, ولا سبيل لهم للاحتجاج بها على ذلك؛ لأن السحر وسيلة في ذاتها محرمة بل كفر في أصلها.
5- قال ابن حجر: إن قصد بها خيرًا كان خيرًا، وإلا فهو شر.
أي بحسب النية؛ لكن أهل العلم قرروا أن هناك أفعالا لا تتبدل أحكامها باختلاف القصد أو النية، ولا شك أن الكفر هو في مقدمة الأشياء التي لا يتبدل حكمها، وإن قيل: النطق بالكفر يجوز كما في حال الفرار به من القتل فكذلك السحر؟ نقول: يختلف هذا؛ لأن الفرار به من القتل متيقن ومباح بالنص، لكن الاستشفاء بالسحر متوهم وغير متيقن وحرم بالنص، فاختلفا في الحكم، ثم إن النطق بكلمة الكفر لا يتعدى اللسان والقلب مطمئن بالإيمان, أما الاستعانة بالساحر فإن القلب عند ذلك يدخل عليه شيء قل أو كثر من التوكل عليهم واعتقاد مقدرتهم الخاصة فلذلك افترقا.
6- وفي مبحث شروط صحة وسلامة النية يقول الفقهاء: لا بد أن لا يتنافى المنوي مع الشرع، أي عدم التوصل للمنوي -الذي هو رفع الضرر بالسحر- بسبب منع منه الشرع، والشارع قد نفى مطلقًا المنفعة من السحر بوجه من الوجوه، فكيف ينوى بالسحر النفع ورفع الضرر؟ وان كان هناك نفع فهو وقتي زائل وتعقبه ندامة وحسرة وعقاب، فكان من المُفترض أن لا تترك النصوص الظاهرة الجلية وتستبعد الأدلة الشاملة للفرع والضابطة لحكمه، ويحتج بقاعدة فقهية يظهر بالبرهان أنها وُضِعتْ في غير محلها، وأنها لا ترجح ما اختاروه إطلاقًا.
سابعا: قالوا: إن مسألة فك السحر بالسحر قد تعرض لها علماء أجلاء من السلف وقالوا بجوازها؛ كالإمام أحمد، وابن الجوزي، والإمام البخاري، وابن حجر، والطبري، وابن بطال، والشعبي، وبعض علماء الحنابلة؛ رحمهم الله تعالى جميعًا.
وهذا مرود عليه؛ لأن الأصل أن لا يقدم قول أحد البشر على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء, أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟)
قال الإمام مالك: "ما منا إلا رادّ ومردود عيه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم"، وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير. وما زال العلماء يجتهدون في الوقائع؛ فمن أصاب فله أجران, ومن أخطأ فله أجر كما في الحديث, لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم، وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد العلماء كائنًا من كان، قال أبو حنيفة رحمه الله: "إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين, وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين, وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال"، فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، وفهم معنى ذلك أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه؛ كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ** [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ** [العنكبوت: 51]، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء، ونظر فيها، وعرف أقوالهم، أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة. والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في هذا البيان, بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة؛ لعلمهم أن من العلم شيئًا لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم, قال أبو حنيفة: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، وقال الربيع: سمعت الشافعي -رحمه الله- يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت. [8]
وأما قولهم: إن الإمام أحمد يجيزه فهذا خطأ؛ لأنه لما سئل عن الرجل يحل السحر قال: قد رخص فيه بعض الناس، قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء، ويغيب فيه، فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا، قيل له: أترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: لا أدري ما هذا. وهذا دليل على أنه لا يجيزه.
ومما يمكن أن يُستدل به على عدم جواز فـك السحر بالسحر أمور:
أ- المجيزون اجتهدوا فرأوا أن في النشرة السحرية علة التداوي فأباحوها لهذه العلة, والمانعون يرون أن فيها علة الأقوال والأفعال والاعتقادات الكفرية، فالذي دعاهم إلى المنع هذه العلة, ويقول الشيرازي في التبصرة: [9] "إذا كانت إحدى العلتين تقتضي الحظر والأخرى تقتضي الإباحة، فالتي تقتضي الحظر أولى، ولأن الحظر أحوط؛ لأن في الإقدام على المحظور إثمًا، وليس في ترك المباح إثم"، فهذا هو الفيصل في أمور الاجتهاد، والحق الذي لا بد أن يتأمله المجتهد ولا يغفل عنه؛ لأنه موقع عن الله جلا جلاله.
ب- أن القاعدة التي تحكم المتناولات كافة, كالأدوية والأطعمة والأشربة والزينة والألبسة, تقول: "ما أبيح لصفته حرم لسببه". [10]
فالأدوية الأصل فيها الإباحة لاشتمالها على مصلحة التعالج والشفاء, وتحرم لأسباب؛ كأن يكون الدواء مغصوبًا، أو أن يكون مسروقًا، أو أن يكون الدواء خبيثًا أو محرمًا، كما نصت أحاديث الرسول على ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث. رواه الترمذي [صحيح الجامع], والنشرة هذه لاشتمالها على السحر والكفر تكون من أخبث الخبائث التي يزينها الشيطان ويدعو لها، فالتداوي بها يحرم أيضًا لهذا السبب الذي أثبته النص.
[1]فتح الباري, كتاب الطب, باب هل يستخرج السحر (ص246)
[2]فتاوى ابن تيمية, (م/21ص563)
[3]الدكتور محمد صدقي البورنو, الوجيز في إيضاح فواعد الفقه الكلية ص43
[4]ابن حجر, فتح الباري، ك الوضوء، باب أبوال الإبل, (ص/404)
[5] تفسير الطبري, سورة طه, (ص/112 ,م/16)
[6] مجموع الفتاوى ابن تيمية, (م/35, ص/171)
[7] محمد الأمين الشنقيطي, أضواء البيان, (م/4, ص/441,442.443.444) بتصرف
[8]عبد الرحمن آل الشيخ, فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. (ص340/373)
[9]التبصرة في أصول الفقه, لإبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي, ص484.
[10]كتاب أنوار البروق في أنواع الفروق, لشهاب الدين القرافي