قال تعالى :
** فلذلك فادْعُ واسْتَقِمْ كما أُمِرْتَ ولَا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ وقُلْ آمَنتُ بما أَنزَلَ الله مِن كِتابٍ وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا ورَبُّكُمْ
لنا أعْمالُنا ولكم أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإليه المَصِيرُ **
سورة الشّورى 15
قال العلّامة السّعدي رحمه الله في تفسيره :
** فَلِذَلِكَ فَادْعُ ** ؛
أي : فللدين القويم والصراط المستقيم، الذي أنزل الله به كُتُبه وأرسل رُسُله ؛
فادع إليه أمَّتك ،
وحضَّهم عليه، وجاهد عليه مَن لم يقبَلْه .
** واسْتَقِمْ ** بنفسك ** كما أُمِرْتَ **
أي : استقامةً موافقةً لأمر الله،
لا تفريط ولا إفراط،
بل امتثالا لأوامر الله ،
واجتناباً لنواهيه،
على وجه الاستمرار على ذلك ؛
فأمَرَه بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيرِه بالدّعوة إلى ذلك .
ومن المعلوم أنّ أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم أمرٌ لأمَّته إذا لم يَرِدْ
تخصيصٌ له .
** ولَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ **
أي : أهواء المنحرفين عن الدّين مِن الكفرة والمنافقين ،
إمّا باتِّباعهم على بعض دينهم،
أو بترك الدّعوة إلى الله،
أو بترك الاستقامة ؛
فإنّك إن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين،
ولم يقل : ولا تتّبع دينَهم ؛
لأنّ حقيقة دينهم الذي شَرعَه الله لهم
هو دين الرسل كلِّهم،
ولكنَّهم لم يتَّبِعوه، بل اتبعوا أهواءهم واتّخذوا دينهم لهوا ولعبا .
** وقُلْ ** : لهم عند جدالهم ومناظرتهم : ** آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ **
أي : لتكن مناظرتُك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم،
الدالِّ على شرف الإسلام وجلالته وهيمنتِه على سائر الأديان،
وأنّ الدين الذي يزعُم أهل الكتاب أنّهم عليه جزءٌ من الإسلام،
وفي هذا إرشادٌ إلى أن أهل الكتاب
إن ناظروا مناظرة مَبنيَّةً على الإيمان ببعض الكتب أو ببعض الرسل دون غيرِه، فلا يسلمُ لهم ذلك ؛
لأنّ الكتاب الذي يدعون إليه
والرسول الذي ينتسبون إليه مِن شرطهِ
أن يكون مصدِّقاً بهذا القرآن
وبمن جاء به،
فكتابنا ورسولُنا لم يأمرنا إلاّ بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل
التي أخبر بها وصدَّق بها وأخبر أنّها مُصدقة له ومقرَّة بصحته ،
وأما مجرَّدُ التوراة والإنجيل وموسى وعيسى الذين لم يوصفوا لنا ولم يوافِقوا لكتابِنا ؛ فلم يأمرنا بالإيمان بهم .
وقوله : ** وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ **
أي : في الحكم فيما اختلفتم فيه ؛
فلا تَمنَعُني عداوتكم وبغضكم
يا أهل الكتاب من العدل بينكم،
ومن العدل في الحكم بين أهل الأقوال المختلفة من أهل الكتاب وغيرهم أن يُقبلَ
ما معهم من الحَقِّ ويُردَّ ما معهم من الباطل .
** الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ **
أي : هو ربُّ الجميع،
لستم بأحق به منا ،
** لَنَا أَعْمَالُنَا ولَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ** :
من خيرٍ وشرٍّ ،
** لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ **
أي : بعد ما تبيّنت الحقائق واتّضح
الحقُّ من الباطل والهدى من الضلال ؛
لم يبق للجدال والمنازعة محلٌّ ؛
لأنّ المقصود من الجدال إنّما هو بيان الحَقِّ من الباطل ؛
ليهتدي الراشدُ ،
ولتقومَ الحجةُ على الغاوي .
وليس المراد بهذا أنّ أهل الكتاب
لا يُجادَلون ،
كيف والله يقول : ** وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ** ؟!
وإنّما المراد ما ذكرنا .
** الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإِلَيْهِ المَصِيرُ ** :
يوم القيامة،
فيجزي كلاًّ بعملِه،
ويتبيّن حينئذ الصادق من الكاذب . اهـ