عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 04-06-2009, 08:12 AM   #5
معلومات العضو
عطر
إشراقة إدارة متجددة
 
الصورة الرمزية عطر
 

 

افتراضي

فصل‏:‏ في أسمائه صلى الله عليه وسلم

وكلها نعوت ليست أعلاماً محضة لمجرد التعريف، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به تُوجِبُ له المدحَ والكمال‏.‏

فمنها محمد، وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب ‏(‏جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام‏)‏ وهو كتاب فرد في معناه لم يُسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينَّا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه، وصحيحها من حسنها، ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها، ثم الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيَّف، وَمَخبَرُ الكِتابِ فَوْقَ وصفه‏.‏

والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كلُّ عالم من مؤمني أهل الكتاب‏.‏

ومنها أحمد، وهو الاسم الذي سماه به المسيح، لسرٍّ ذكرناه في ذلك ا لكِتابِ‏.‏

ومنها المتوكِّل، ومنها الماحي، والحاشر، والعاقب، والمُقَفِّى، ونبي التوبة، ونبيُّ الرحمة، ونبيُّ الملحمة، والفاتحُ، والأمينُ‏.‏

ويلحق بهذه الأسماء‏:‏ الشاهد، والمبشِّر، والبشير، والنذير، والقاسِم، والضَّحوك، والقتَّال، وعبد اللّه، والسراج المنير، وسيد ولد آدم، وصاحبُ لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وغير ذلك من الأسماء، لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح، فله من كل وصف اسم، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه، ويشتق له منه اسم، وبين الوصف المشترَك، فلا يكون له منه اسم يخصه‏.‏

وقال جبير بن مُطْعِم‏:‏ سمَّى لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، فقال‏:‏ ‏(‏أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفرَ، وأنا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، والعَاقِب الَّذِي لَيسَ بَعْدَهُ نَبيٌّ ‏)‏‏.‏

وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ خاص لا يُشارِكُه فيه غيره من الرسل كمحمد، و أحمد، والعاقب، والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة‏.‏

والثاني‏:‏ ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله، كرسول اللّه، ونبيه، وعبده، والشَّاهدِ، والمبشِّرِ، والنذيرِ، ونبيِّ الرحمة، ونبيّ التوبة‏.‏

وأما إن جعل له مِن كل وصف من أوصافه اسم، تجاوزت أسماؤه المائتين، كالصادق، والمصدوق، والرؤوف الرَّحيم، إلى أمثال ذلك‏.‏ وفي هذا قال من قال من الناس‏:‏ إن لله ألفَ اسمٍ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألفَ اسم، قاله أبو الخطاب بنُ دِحيةَ ومقصوده الأوصاف‏.‏

فصل‏:‏ في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم

أمّا مُحَمَّد، فهو اسم مفعول، من حَمِدَ، فهو محمد، إذا كان كثيرَ الخصال التي يُحمد عليها، لذلك كان أبلغَ من محمود، فإن ‏(‏محموداً‏)‏ من الثلاثي المجرد، ومحمد من المضاعف للمبالغة، فهو الذي يحمد أكثر ممّا يحمد غيره من البشر، ولهذا - واللّه أعلم - سمِي به في التوراة، لكثرة الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها هو ودينه وأمته في التوراة، حتى تَمَنَى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم، وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك، وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس، وأن اسمه في التوراة أحمد‏.‏

وأما أحمد، فهو اسم على زِنة أفعل التفضيل، مشتق أيضاً من الحمد‏.‏ وقد اختلف الناس فيه‏:‏ هل هو بمعنى فاعل أو مفعول‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ هو بمعنى الفاعل، أي‏:‏ حَمْدُه للّه أكثرُ من حمد غيره له، فمعناه‏:‏ أحمد الحامدين لربه، ورجحوا هذا القول بأن قياس أفعل التفضيل، أن يُصاغ من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول، قالوا‏:‏ ولهذا لا يقال‏:‏ ما أضربَ زيداً، ولا زيد أضرب من عمرو باعتبار الضرب الواقع عليه، ولا‏:‏ ما أشرَبَه للماء، وآكله للخبز، ونحوه، قالوا‏:‏ لأن أفعل التفضيل، وفعل التعجب، إنما يُصاغان من الفعل اللازم، ولهذا يقدر نقله من ‏(‏فَعَلَ‏)‏ و ‏(‏فَعِلَ‏)‏ المفتوح العين ومكسورها، إلى ‏(‏فَعُلَ‏)‏ المضموم العين، قالُوا‏:‏ ولهذا يعدَّى بالهمزة إلى المفعول، فهمزته للتعدية، كقولك‏:‏ ما أظرفَ زيداً، وأكرمَ عمراً، وأصلهما‏:‏ من ظَرُف، وَكَرُمَ‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المتعجَّب منه فاعل في الأصل، فوجب أن يكون فعله غيرَ متعد، قالوا‏:‏ وأما نحو‏:‏ ما أضرب زيداً لعمرو، فهو منقول من ‏(‏فَعَلَ‏)‏ المفتوح العين إلى ‏(‏فَعُلَ‏)‏ المضموم العين، ثم عُدي والحالة هذه بالهمزة قالوا‏:‏ والدليل على ذلك مجيئهم باللام، فيقولون‏:‏ ما أضرب زيداً لعمرو، ولو كان باقياً على تعديه، لقيل‏:‏ مَا أضربَ زيداً عمراً، لأنه متعد إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بهمزة التعدية، فلما أن عدَّوه إلى المفعول بهمزة التعدية، عدَّوه إلى الآخر باللام، فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا‏:‏ إنهما لا يُصاغان إلا من فعل الفاعل، لا من الفعل الواقع على المفعول‏.‏

ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ يجوز صوغُهما من فعل الفاعل، ومن الواقع على المفعول، وكثرة السماع به من أبين الأدلة على جوازه، تقول العرب‏:‏ ما أشغَلَه بالشيء، وهو من شُغِلَ، فهو مشغول وكذلك يقولون‏:‏ ما أولَعه بكذا، وهو من أُولعَ بالشيء، فهو مُولَع به، مجني للمفعول ليس إلا، وكذلك قولهم‏:‏ ما أعجبه بكذا، فهو من أُعجِبَ به، ويقولون‏:‏ ما أحبه إلي، فهو تعجب من فعل المفعول، وكونه محبوباً لك، وكذا‏:‏ ما أبغضه إليَّ، وأمقته إليَّ‏.‏

وهاهنا مسألة مشهورة ذكرها سيبويه، وهي أنك تقول‏:‏ ما أبغضني له، وما أحبني له، وما أمقتني له‏:‏ إذا كنتَ أنتَ المبغِضَ الكارِه، والمحِب الماقِت، فتكون متعجباً من فعل الفاعل، وتقول‏:‏ ما أبغضني إليه، وما أمقتني إليه، وما أحبني إليه‏:‏ إذا كنت أنت البغيض الممقوت، أو المحبوب، فتكون متعجباً من الفعل الواقع على المفعول، فما كان باللام فهو للفاعل، وما كان بـ ‏(‏إلى‏)‏ فهو للمفعول‏.‏ وأكثر النحاة لا يعللون بهذا‏.‏ والذي يقال في علته واللّه أعلم‏:‏ إن اللام تكون للفاعل في المعنى، نحو قولك‏:‏ لمن هذا‏؟‏ فيقال‏:‏ لزيد، فيؤتى باللام‏.‏ وأما ‏(‏إلى‏)‏ فتكون للمفعول في، المعنى، فتقول‏:‏ إلى من يصل هذا الكتاب‏؟‏ فتقول‏:‏ إلى عبد اللّه، وسر ذلك أن اللام في الأصل للملك والاختصاص، والاستحقاق إنما يكون للفاعل الذي يملك ويستحق، و ‏(‏إلى‏)‏ لانتهاء الغاية، والغاية منتهى ما يقتضيه الفعلُ، فهي بالمفعول أليق، لأنها تمام مقتضى الفعل، ومِن التعجب من فعل المفعول قولُ كعب بن زهير في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

فَلَهْوَ أَخــْوَفُ عِنْدِي إِذ أُكَلِّمُهُ ** وَقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسّ وَمَقْتُولُ

مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ** بِبَطْنِ عَثّـَرَ غِيْلٌ دُونَهُ غِيْلُ

فأخوف هاهنا، من خيف، فهو مَخُوفُ، لا من خاف، وكذلك قولهم‏:‏ ما أجَنَّ زيداً، من جُنَّ فهو مجنون، هذا مذهب الكوفيين ومن وافقهم‏.‏

قال البصريون‏:‏ كل هذا شاذ لا يُعوَّل عليه، فلا نُشوش به القواعد، ويجب الاقتصارُ منه على المسموع، قال الكوفيون‏:‏ كثرة هذا في كلامهم نثراً ونظماً يمنع حمله على الشذوذ، لأن الشاذ ما خالف استعمالهم ومطَّرِدَ كلامهم، وهذا غير مخالف لذلك، قالوا‏:‏ وأما تقديركم لزوم الفعل ونقله إلى فَعُلَ، فتحكم لا دليل عليه، وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة إلى آخره، فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه، والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية، وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط، كألف ‏(‏فاعل‏)‏، وميم ‏(‏مفعول‏)‏ وواوه، وتاء الافتعال، والمطاوعة، ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده، فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة، لا تعدية الفعل‏.‏

قالوا‏:‏ والذي يدل على هذا أن الفعل الذي يُعدَّى بالهمزة يجوز أن يُعدَّى بحرف الجرّ وبالتضعيف، نحو‏:‏ جلست به، وأجلسته، وقمت به، وأقمته، ونظائره، وهنا لا يقوم مقامَ الهمزة غيرها، فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضاً، فإنها تجامع باء التعدية، نحو‏:‏ أكْرِمْ بِهِ، وأَحسِنْ بِهِ، ولا يجمع على الفعل بين تعديتين‏.‏

وأيضاً فإنهم يقولون‏:‏ ما أعطاه للدراهم، وأكساه للثياب، وهذا مِن أعطى وكسا المتعدي، ولا يصح تقديرُ نقله إلى ‏(‏عطو‏)‏‏:‏ إذا تناول، ثم أدخلت عليه همزة التعدية، لفساد المعنى، فإن التعجب إنما وقع من إعطائه، لا من عطوه، وهو تناوله، والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل، وحذفت همزته التي في فعله، فلا يصح أن يقال‏:‏ هي للتعدية‏.‏

قالوا‏:‏ وأما قولكم‏:‏ إنه عُدِّي باللام في نحو‏:‏ ما أضربه لزيد‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره، فالإِتيان باللام هاهنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل، وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرُّفِ، وأُلزِمَ طريقة واحدة خرج بها عن سَنن الأفعال، فضعف عن اقتضائه وعمله، فقوي باللام كما يقوى بها عند تقدم معموله عليه، وعند فرعيته، وهذا المذهب هو الراجح كما تراه‏.‏

فلنرجع إلى المقصود فنقول‏:‏ تقديرُ أحمد على قول الأولين‏:‏ أحمد الناس لربه، وعلى قول هؤلاء‏:‏ أحق الناس وأولاهم بأن يُحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن ‏(‏محمداً‏)‏ هو كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يُحمد أفضل ممّا يُحْمَدُ غيره، فمحمد في الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر ممّا يستحق غيره، وأفضلُ ممّا يستحِق غيره، فيُحمَدُ أكثرَ حمد، وأفضلَ حمد حَمِدَه البشر‏.‏ فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا أبلغ في مدحه، وأكمل معنى‏.‏ ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد، أي‏:‏ كثير الحمد، فإنه بها،كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه، لكان الأولى به الحمَّاد، كما سميت بذلك أمَتُه‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإن هذين الاسمين، إنما اشتقا من أخلاقه، وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً‏؟‏ صلى الله عليه وسلم، وأحمد وهو الذي يحمدُه أهل السماء وأهلُ الأرض وأهلُ الدنيا وأهلُ الآخرة، لكثرة خصائصه المحمودة التي تفوق عَدَّ العادِّين وإحصاء المحصين، وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب ‏(‏الصلاة والسلام‏)‏ عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حالُ المسافر، وتشتتُ قلبه وتفرق همته، وباللّه المستعان وعليه التكلان‏.‏

وأما اسمه المتوكل، ففي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مُحَمَّد رسولُ اللّه، عبدي وَرَسُولي، سمَّيتُه المُتَوَكِّل، ليس بِفَظٍّ، ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئةِ السَّيئة، بل يعفو ويصفح، ولن أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقيمَ بِهِ المِلَّة الْعَوْجَاءَ، بأن يقولوا‏:‏ لا إله إلا اللّه‏)‏ وهو صلى الله عليه وسلم أحقّ الناس بهذا الاسم، لأنه توكَّل على الله في إقامة الدين توكلاً لم يَشْركْه فيه غيره‏.‏

وأما الماحي، والحاشر، والمقفِّي، والعاقب، فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم، فالماحي‏:‏ هو الذي محا اللّه به الكفر، ولم يُمحَ الكفر بأحد من الخلق ما مُحي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بُعِثَ وأهل الأرض كلهم كفار، إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عُبَّاد أوثان، ويهود مغضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصابئة دَهرية، لا يعرفون رباً ولا معاداً، وبين عُبَّاد الكواكب، وعُبّاد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يُقرون بها، فمحا اللّه سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دينُ اللّه على كل دين، وبلغ دينُه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسيرَ الشمس في الأقطار‏.‏

وأما الحاشر، فالحشر هو الضم والجمع، فهو الذي يُحشر الناسُ على قدمه، فكأنه بعث لحشر الناس‏.‏

والعاقب‏:‏ الذي جاء عَقِبَ الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإِطلاق، أي‏:‏ عقب الأنبياء جاء بعقبهم‏.‏

وأما المقفِّي، فكذلك، وهو الذي قفَّى على آثار من تقدمه، فقفى اللَّهُ به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال‏:‏ قفاه يقفوه‏:‏ إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفِّي‏:‏ الذي قفى من قبله من الرسل، فكان خاتمهم وآخرهم‏.‏

وأما نبي التوبة، فهو الذي فتح اللّه به بابَ التوبة على أهل الأرض، فتاب اللّه عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفاراً وتوبة، حتى كانوا يَعُدُّون لَهُ في المَجْلِس الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ‏:‏ ‏(‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُور‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَبَكُم، فَإِني أَتُوبُ إِلى اللَّهِ في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ‏)‏ وكذلك توبةُ أمته أكملُ مِن توبة سائر الأمم، وأسرع قبولاً، وأسهل تناولاً، وكانت توبة من قبلهم مِن أصعب الأشياء، حتى كان من توبة بني إسرائيلَ مِن عبادة العجل قتلُ أنفسهم، وأمّا هذه الأمّة، فلكرامتها على اللّه تعالى جعل توبتها الندمَ والإِقلاع‏.‏

وأمّا نبي الملحمة، فهو الذي بعث بجهاد أعداء اللّه، فلم يجاهد نبي وأمته قطُّ ما جاهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأمّته، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلُها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار،وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمّة سواهم‏.‏

وأما نبيُّ الرحمة، فهو الذي أرسله اللّه رحمة للعالمين، فرحم به أهلَ الأرض كلَّهم مؤمنَهم وكافرَهم،أمّا المؤمنون، فنالوا النصيبَ الأوفر مِن الرحمة، وأمّا الكفار، فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله، وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمتُه، فإنهم عجلوا به إلى النَّار، وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدَّةَ العذاب في الآخرة‏.‏

وأما الفاتح، فهو الذي فتح اللّه به باب الهدى بعد أن كان مُرْتَجاً، وفتح به الأعين العمي، والآذان الصُّم، والقلوب الغُلف،وفتح اللّه به أمصار الكفار، وفتح به أبوابَ الجنَّة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار‏.‏

وأمّا الأمين، فهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين اللّه على وحيه ودينه، وهو أمينُ مَنْ في السماء، وأمينُ مَنْ في الأرض، ولهذا كانوا يُسمونه قبل النبوة‏:‏ الأمين‏.‏

وأمّا الضحوك القتَّال، فاسمان مزدوجان، لا يُفرد أحدهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين، غيرُ عابس، ولا مقطِّب، ولا غضوب، ولا فظّ، قتَال لأعداء اللّه، لا تأخذه فيهم لومة لائم‏.‏

وأمّا البشير، فهو المبشَر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد سماه اللّه عبدَه في مواضع من كتابه، منها قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ‏**‏ ‏[‏الجن‏:‏19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ‏**‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىَ‏**‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا‏**‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ وثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏ وسمّاه اللّه سِراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً‏.‏

والمنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، فإن فيه نوعَ إحراق وَتَوَهُج‏.‏

فصل‏:‏ في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية

لما كثر المسلمون، وخاف منهم الكفارُ، اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم، وفتنتهم إياهم، فأَذِن لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة وقال‏:‏ ‏(‏إن بها مَلكاً لا يُظلَمُ النَّاسُ عنده‏)‏، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج، ومعه زوجته رُقَيَّةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أنَّ قريشاً أسلمتْ، وكان هذا الخبرُ كذباً، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشدُّ ممّا كان، رجع منهم مَنْ رجع، ودخل جماعة، فَلَقُوا مِنْ قُريش أذى شديداً، وكان ممن دخل عبدُ اللّه بنُ مسعود‏.‏ ثم أذن لهم في الهجرة ثانياً إلى الحبشة، فهاجر مِن الرجال ثلاثةٌ وثمانون رجلاً، إن كان فيهم عمار، فإنه يُشك فيه، ومن النساء ثمان عشرة امرأة، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً، فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد اللّه بن أبي ربيعة في جماعة، ليكيدوهم عند النجاشي، فرد اللّه كيدهم في نحورهم‏.‏

فاشتد أذاهم لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فحصروه وأهل بيته في الشِّعب شِعَبِ أبي طالب ثلاث سنين، وقيل‏:‏ سنتين، وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة، وقيل‏:‏ ثمان وأربعون سنة، وبعد ذلك بأَشهر مات عمُّه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة، وفي الشِّعب وُلد عبدُ اللّه بن عباس، فنال الكفارُ منه أذى شديداً، ثم ماتت خديجةُ بعد ذلك بيسير، فاشتدَّ أذى الكفار له، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى اللّه تعالى، وأقام به أياماً فلم يجيبوه، وآذَوه، وأخرجوه، وقاموا له سِماطين، فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، فانصرف عنهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى مكّة، وفي طريقه لقي عَدَّاساً النصرانيَّ، فآمن به وصدَّقه‏.‏

وفي طريقه أيضاً بنخلة صُرف إليه نفر من الجن سبعةٌ مِنْ أهل نَصِيبين، فاستمعوا القرآن وأسلموا، وفي طريقه تلك أرسل اللَّه إليه مَلَكَ الجبال يأمره بِطاعته، وأن يُطبق على قومه أخشبي مكّة، وهما جبلاها إن أراد، فقال‏:‏ ‏(‏لاَ بَلْ أَسْتأنِي بِهِم، لَعَلَّ اللَّهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُه لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً‏)‏‏.‏ وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور‏:‏ ‏(‏اللهم إليك أشكو ضعف قُوَّتي، وقلة حيلتي‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث، ثم دخل مكّة في جوار المطعم بن عدي‏.‏

ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِجَ به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى اللّه عزَّ وجل، فخاطبه، وفرض عليه الصلوات، وكان ذلك مرة واحدة، هذا أصح الأقوال‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك مناماً، وقيل‏:‏ بل يقال‏:‏ أسري به، ولا يقال‏:‏ يقظة ولا مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ كان الإِسراء إلى بيت المقدس يقظة، وإلى السماء مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ كان الإِسراء مرتين‏:‏ مرة يقظة، ومرة مناماً‏.‏ وقيل‏:‏ بل أسري به ثلاثَ مرات، وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق‏.‏

وأمّا ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يُوحى إليه، فهذا ممّا عُدَّ من أغلاط شريك الثمانية، وسوء حفظه، لحديث الإِسراء وقيل‏:‏ إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي‏.‏ وأمّا إسراء اليقظة، فبعد النبوة، وقيل‏:‏ بل الوحي هاهنا مقيد، وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة، والمراد‏:‏ قبل أن يوحى إليه في شأن الإِسرار، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام، واللّه أعلم‏.‏

فأقام صلى الله عليه وسلم بمكّة ما أقام، يدعو القبائل إلى اللّه تعالى، وَيَعْرِضُ نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه، حتى يبلِّغَ رسالة ربه ولهم الجنَّة، فلم تَسْتَجِيبْ له قبيلة، وادَّخر الله ذلك كرامة للأنصار، فلما أراد اللّه تعالى إظهار دينه، وإنجاز وعده، ونصر نبيه، وإعلاء كلمته، والانتقام من أعدائه، ساقه إلى الأنصار، لما أراد بهم من الكرامة، فانتهى إلى نفر منهم ستة، وقيل‏:‏ ثمانية، وهم يحلِقُون رؤوسهم عند عقبةِ مِنى في الموسم، فجلس إليهم، ودعاهم إلى اللّه، وقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا للّه ورسوله، ورجعوا إلى المدينة، فَدَعَوْا قومهم إلى الإِسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ مِنْ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأولُ مسجد قُرئ فيه القرآنُ بالمدينة مسجد بني زُريق،ثم قدِم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة الأولين، فبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء عند العقبة، ثم انصرفوا إلى المدينة، فقَدِم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهم أهلُ العقبة الأخيرة، فبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه ممّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، فترحل هو وأصحابُه إليهم، واختار رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيباً، وأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرْسالاً متسللين، أولهم فيما قيل‏:‏ أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل‏:‏ مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم، فآوَوهم، ونصروهم، وفشا الإِسلامُ بالمدينة، ثم أَذِنَ اللّه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأوّل وقيل‏:‏ في صفر، وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة، ومعه أبو بكر الصديق، وعَامرُ بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر، ودليلهم عبد اللّه بن الأُرَيْقِط الليثي، فدخل غَار ثَور هو وأبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً، ثم أخذا على طريق الساحل، فلما انتهَوْا إلى المدينة، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ مِن شهر ربيع الأوّل، وقيل غير ذلك، نزل بقُبَاء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف‏.‏ وقيل‏:‏ نزل على كلثوم بن الهِدْم‏.‏ وقيل‏:‏ على سعدِ بن خيثمة، والأول أشهر، فأقام عندهم أربعة عشر يوماً، وأسس مسجد قُباء، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم، فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، ثم ركب ناقته وسار، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم، ويأخذون بخطام الناقة، فيقول‏:‏ ‏(‏خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإنّهَا مَأْمُورَةٌ‏)‏ فبركت عند مسجده اليوم، وكان مِربدا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار، فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري، ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللَّبِنِ، ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه، وأقربُها إليه مسكن عائشة، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها، وبلغ أصحابَه بالحبشة هجرَتُه إلى المدينة، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، فَحُبِسَ منهم بمكة سبْعَةٌ، وانتهى بقيتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة
سبع.


التعديل الأخير تم بواسطة عطر ; 04-06-2009 الساعة 08:21 AM.
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة