عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 08:51 PM   #4
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الثاني : اليقين المنافي للشك
الحمد لله الذي يجيب الداعين ويعطي الطالبين ويرضي الراغبين ويرشد السالكين رحيم بالمؤمنين رحمان بالعالمين ، أحمده سبحانه وتعالي وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نبلغ بها أحسن المآب وأعظم الثواب ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لتشريع الملة وتوجيه الخطاب ، وإيضاح الأحكام من واجب واستحباب ، وحرام ومكروه ومتروك لذوي الألباب ، صلي الله عليه وعلى آله وصحبة صلاة وسلاما دائمين إلي يوم الحساب .
أتيتك راجيا يا ذا الجلال ففرج ما تري من سوء حالي - عصيتك سيدي ويلي بجهلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلي من يشتكي المملوك إلا إلي مولاه يا مولي الموالي - لعمري ليت أمي لم تلدني ولم أغضبك في ظلم الليالي
فها أنا عبدك العاصي فقير إلي رحماك فاقبل لي سؤالي
أما بعد ..
فأعظم نعمة يعطاها العبد ، اليقين المنافي للشك ، ومحاضرة اليوم تدور بإذن الله حول الشرط الثاني من شروط ل إله إلا الله وهو اليقين المنافي للشك ، فإن اليقين هو رأس مال الدين ، وأساس العقيدة عند المؤمنين ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( اليقين الإيمان كله ) .
كيف يكون اليقين هو الإيمان ؟ ذلك لأن الإيمان له ركنان يتعلقان بلغة القرآن ، فلغة القرآن ضربان من الكلام أو نوعان ، أخبار وأوامر ، الخبر ما يحتمل الصدق أو الكذب والأخبار تتطلب التصديق ، والأمر مالا يحتمل الصدق أو الكذب ، الأوامر تتطلب التنفيذ ، والإيمان يتعلق بالأخبار والأوامر ، فالإيمان في باب الأخبار له ستة أركان ، وردت في حديث جبريل عليه الصلاة السلام ، عندما أتي النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ في صورة أعرابي ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَي عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِن الصحابة أَحَدٌ حتى جَلسَ إِلي النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلي رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ وَقَال : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ ؟
فَأخبره عن أركان الإسلام المعروفة ، ثم قال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمان ؟ قَال : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَال جبريل : صَدَقْتَ ، فهذه ستة أركان للإيمان ، تتعلق بتصديق الأخبار وما جاء عن عالم الغيب في القرآن ، فالله أخبرنا في كثير من الآيات عن الأسماء والصفات التي عرفنا فيها بنفسه وأبان لنا عن وصفه ، وكل ذلك من الغيبيات التي تتطلب التصديق الذي يبلغ حد اليقين ، وأخبرنا عن ملائكته وخلقتهم ووصفهم وفعلهم ودورهم الذي يتعلق بالإنسان ، ويتطلب منا الإيمان ، وكذلك أخبرنا عن كتبه ورسله ما عمنا منهم وما لم نعلم ، وليس لنا فيهم إلا الإيمان والتصديق ، وأخبرنا عن اليوم الأخر وما فيه من أحوال وأهوال ، وهذه الأخبار تطلب أيضا التصديق ، وأخبرنا عن القدر خيره وشره وحلوه ومره ، وأنه فعل الله للابتلاء وترتيب الجزاء ، وهذه أخبار تتطلب التصديق وعلم اليقين .
ومن العجيب أن الترتيب النبوي المذكور في الحديث لهذه الأركان اشتمل على السر في حياة الإنسان ، وأصحاب البصيرة يرون هذا السر في ترتيب الأركان مشهودا وبين الكلمات موجودا ، وترتيب الرسول لها كان ترتيبا مقصودا ، فالمعني الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته ، أنزلهم بماذا ؟ أنزلهم بكتبه على من ؟ على رسله ، أنزل ملائكته بكتبه على رسله لماذا ؟ ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، من تقرير المصير وعواقب التدبير ، فإذا انتهي الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم المصير مطابقا للتقدير الذي دون في أم الكتاب ، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
فأركان الإيمان في باب الأخبار أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه ، ولا يكون الإيمان بهذه الأركان إلا باليقين الذي لا شك فيه ، وهو التصديق الجازم الذي لا تكذيب فيه .
وكما أن الإيمان له في باب الأخبار ستة أركان ، كذلك له في باب الأوامر عدة أركان ، تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان ، وهي تتعلق بتفيذ الأمر وتحقيق المطلوب والسعي في رضا المحبوب ، فإذا تم هذا الإيمان بنوعيه ، ظهر كمال الدين وصدق واليقين كما قال عبد الله بن مسعود اليقين الإيمان كله .
ومن أجل ذلك أيضا كلف الله الإنسان بالتصديق الجازم لأركان الإيمان ، وكل خبر ورد ذكره في القرآن ، فقال تعالى في توضيح هذه المعان : ( الم ، ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًي للمُتَّقِينَ ، الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُوْلئِكَ على هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ ) .
والسؤال الذي يتردد على الأذهان ويطرح نفسه الآن ، كيف يكون اليقين المنافي للشك شرطا من شروط لا إله إلا الله ؟ اعلم عبد الله أن اليقين المنافي للشك يكون شرطا من شروط لا إله إلا الله ، بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلولها يقينا جازما ، ينفي الوهم والشك والظن ، قال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ لمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ أُوْلئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ) ، فاشترط القرآن في صدق إيمانهم بربهم ونبيهم ألا يرتابوا أي لا يشكوا ، فالمرتابون هم المنافقون ، الذين قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) .
وعند البخاري من حديث أَسْمَاءَ بنت أبي بكر ، أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : َأُوحِيَ إِليَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْل فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّال ، يُقَالُ للميت مَا عِلمُكَ بِهَذَا الرَّجُل فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَالهُدَي فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا فَيُقَالُ نَمْ صَالحًا قَدْ عَلمْنَا إِنْ كُنْتَ لمُوقِنًا بِهِ وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلتُهُ .
روي الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هُرَيْرَةَ قَال : كُنَّا قُعُودًا حَوْل رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ من الصحابة ، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَأَبْطَأَ عَليْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا ، فَكُنْتُ أَوَّل مَنْ فَزِعَ ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، حتى أَتَيْتُ حَائِطًا للأَنْصَارِ لبَنِي النَّجَّارِ – والحائط هو السور المقام حول المزرعة – يقول أبو هريرة : فَدُرْتُ بِهِ هَل أَجِدُ لهُ بَابًا فَلمْ أَجِدْ ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ الحَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ ، وَالرَّبِيعُ الجَدْوَلُ قناة الماء الصغيرة ، يقول أبو هريرة : فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلبُ ، فَدَخَلتُ على رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال : أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلتُ نَعَمْ يَا رَسُول الله قَال مَا شَأْنُكَ قُلتُ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَليْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّل مِنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلبُ وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي فَقَال :يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَعْطَانِي نَعْليْهِ ، قَال : اذْهَبْ بِنَعلى هَاتَيْنِ فَمَنْ لقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ .
فَكَانَ أَوَّل مَنْ لقِيتُ عُمَر بن الخطاب ، فَقَال مَا هَاتَانِ النَّعْلانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلتُ هَاتَانِ نَعْلا رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالجَنَّةِ ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لإسْتِي – يعني وقع على مقعدته - فَقَال ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَرَجَعْتُ إِلي رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً - وَرَكِبَنِي عُمَرُ - وتبعني عمر - فَإِذَا هُوَ على أَثَرِي فَقَال لي رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَا لكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلتُ لقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالذِي بَعَثْتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لإسْتِي قَال ارْجِعْ فَقَال لهُ رَسُولُ الله يَا عُمَرُ مَا حَمَلكَ على مَا فَعَلتَ قَال يَا رَسُول الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْليْكَ – كل من لقيه - مَنْ لقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ بَشَّرَهُ بِالجَنَّةِ قَال نَعَمْ قَال فَلا تَفْعَل فَإِنِّي أَخْشَي أَنْ يَتَّكِل النَّاسُ عَليْهَا فَخَلهِمْ يَعْمَلُونَ قَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَخَلهِمْ .
فالحديث بين في أن اليقين من شروط لا إله إلا الله ، ولمزيد البيان عن اليقين ، كيف يكون شرطا من شروط لا إله إلا الله ؟ نضرب لذلك مثلا ، إذا أخبرك أحد لأول مرة أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم ، فإما أن تصدقه وإما أن تكذبه ، فإن كان تكذيب القلب لهذا الخبر أكبر من التصديق سمي ذلك عند العلماء وهما ، كالذي يقول كيف أن الأرض تدور وليس هذا بمأثور ولا مذكور ، ونحن في أماكننا لا نقع أنا أستبعد هذا الخبر ، فالوهم أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب أرجح من ثباته وهو يشبه النسيان إلي حد كبير ، ولذلك سميت سجدة السهو بسجدة الوهم ، فعن عبد الله بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، صَلي بِهِمُ الظَّهْرَ ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليَيْنِ ولمْ يَجْلسْ ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حتى إِذَا قَضَي الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْليمَهُ ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالسٌ فَسَجَدَ سجدتي الوهم قَبْل أَنْ يُسَلمَ ثُمَّ سَلمَ ، والمقصود هنا سجدتا السهو عند انعدام اليقين ، فالوهم أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب أكبر من ثباته ، واليقين ينفي الوهم .
أما لو استوت نسبة التكذيب في القلب مع نسبة التصديق ، واعتدل الترجيح بينهما في ثبوت الخبر ، سمي ذلك شكا ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: ( مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَرُسُلهِ ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلا لمْ تُصَدِّقُوهُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لمْ تُكَذِّبُوه ) .
وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : ( إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَليُلغِ الشَّكَّ وَليَبْنِ على اليَقِينِ فَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِالتَّمَامِ فَليَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَإِنْ كَانَ صَلي خَمْسًا شَفَعَتَا لهُ صَلاتَهُ وَإِنْ صَلي أَرْبَعًا كَانَتَا تَرْغِيمًا للشَّيْطَانِ .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي المَسْجِدِ فَوَجَدَ رِيحًا بَيْنَ أَليَتَيْهِ فَلا يَخْرُجْ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ في معني الحديث إِذَا شَكَّ فِي الحَدَثِ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ عَليْهِ الوُضُوءُ حتى يَسْتَيْقِنَ اسْتِيقَانًا يَقْدِرُ أَنْ يَحْلفَ عَليْهِ ، والشك يحدث الريبة في القلب كما قال تعالى :
( وَلقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلكَ قُلتُمْ لنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) غافر ، وقوم صالح ( قَالُوا يَا صَالحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْل هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِليْهِ مُرِيبٍ) هود ، وقال تعالى ( وَقَوْلهِمْ إِنَّا قَتَلنَا المَسِيحَ عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ رَسُول اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لهُمْ وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلفُوا فِيهِ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ) ، فالآية دلت على أن اليقين ينفي الشك والظن ، فالشك أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب مستويا مع ثباته .
أما الظن فهو زيادة التصديق على التكذيب في القلب ، حتى لو امتلأ القلب بالتصديق لكن بقي من التكذيب شيء يسير ، فإنه يسمي ظنا ولا يبلغ حد اليقين ، كما في موقف المشركين والكافرين من يوم القيامة ، فإن تصديقهم به في قرارة أنفسهم أرجح عندهم من التكذيب ، كما قال الله تعالى : ( وَإِذَا قِيل إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) (الجاثية/32) ، فلما انتقلوا إلي ربهم ورأوا العذاب بأبصارهم ، اعترفوا بذنبهم ، وندموا على ظنهم ، وتمنوا العودة إلي الدنيا ليبلغوا علم اليقين ، فقال تعالى في شأنهم : ( وَلوْ تَرَي إِذْ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَل صَالحًا إِنَّا مُوقِنُون ) .
ومن حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه ، أنه سأل عائشة رضي الله عنها ، عن قول الله تعالى : ( حتى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (يوسف/110) ، قُلتُ : يأم المؤمنين أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا ؟ قَالتْ : عَائِشَةُ رضي الله عنها كُذِّبُوا ، قُلتُ : فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ ، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ ، قَالتْ : أَجَل لعَمْرِي لقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلكَ ، فَقُلتُ لهَا : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ؟ - يعني هل ظنوا أن الله خذلهم ولم ينصرهم على أعدائهم - قَالتْ : مَعَاذَ الله ، لمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلكَ بِرَبِّهَا ، قُلتُ : فَمَا هَذِهِ الآيَةُ ؟ ، قَالتْ : هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُل الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ ، فَطَال عَليْهِمُ البَلاءُ ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ ، حتى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ الله عِنْدَ ذَلكَ .
فاليقين ينفي الوهم والشك والظن ، فإذا صدقت بقلبك تصديقا جازما كاملا لا مجال للتكذيب فيه ، فإن ذلك يسمي يقينا ، وهو المسمي علم اليقين في قول الله تعالى : ( كَلا لوْ تَعْلمُونَ عِلمَ اليَقِينِ لتَرَوْنَ الجَحِيمَ ) التكاثر ، وهو شرط لا إله إلا الله ، فإذا أخبرك الله عن شيء فلن تدخل في الإسلام إلا بهذا اليقين ، أن يصدق المسلم تصديقا كاملا ، يمحو التكذيب من القلب محوا شاملا .
وكما قال عَبْد الله بْنَ رَوَاحَةَ :
وَفِينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابَهُ : إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الهُدَي بَعْدَ العَمَي فَقُلُوبُنَا : بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَال وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ : إِذَا اسْتَثْقَلتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
وقد يطلق اليقين على الظن في بعض المواطن من القرآن ، على اعتبار أن التصديق والتثبت يزداد شيئا فشيئا ، ويقل التكذيب أيضا شيئا فشيئا حتى يصل التثبت إلي منتهاه ، فيمتلأ القلب تصديقا فيكون يقينا ، كما في قول الله تعالى : ( كَلا إِذَا بَلغَتْ التَّرَاقِي وَقِيل مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ ) (القيامة/28:26) .
ولذلك فإن اليقين يرد بمعني الموت على اعتبار أن التثبت منه كائن في جميع القلوب وإن تغافل الناس عنه ، كقوله تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (الحجر/99) ، فاليقين هنا هو الموت ، وعن أم العلاء رضي الله عنها وهي امرأة من الأنصار أنها قالت في عثمان بن مظعون رضي الله عنه حين موته : ( رَحْمَةُ اللهِ عَليْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَليْكَ ، لقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ، فَقُلتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُ ؟ فَقَال : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو لهُ الخَيْرَ ، وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالتْ : فَوَاللهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا .
فالمسلم لا يكون مسلما إلا باليقين ولا يخرج عن اليقين ولا ينزل إلي درجة الظن أو الشك أو الوهم ، لأنه إن اتصف بشيء مما ينافي اليقين ، انتفي شرط من شروط لا إله إلا الله ، ولكن ربما يضعف نور اليقين في قلب المسلم ، فيكون اليقين ضعيف الإضاءة لديه ، ولذلك كان خوف النبي صلي الله عليه وسلم عليه فقال : ( ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين ) ، فاليقين نور في القلب إذا سكن وتمكن أبصر المسلم حقائق الأمور بذلك النور .
ومن هنا كان تصنيف اليقين في القلب على ثلاث درجات متتالية ، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، فالأولي كعلمك بوجود العسل وعين اليقين كرؤيتك له ، وحق اليقين كشربك منه :
أولها : فعلم اليقين : وقد ورد في قوله تعالى : ( أَلهَاكُمْ التَّكَاثُر – والتكاثر هو جمع متاع الدنيا - حتى زُرْتُمْ المَقَابِر - تنبيها على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره فهو تنبيه على الموت والبعث - كَلا سَوْفَ تَعْلمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلمُونَ كَلا لوْ تَعْلمُونَ عِلمَ اليَقِينِ لتَرَوْنَ الجَحِيمَ ) (التكاثر/ 6:5) فعلم اليقين هو العلم الذي يصل به صاحبه إلي حقائق الأمور بنفي الوهم والشك والظن ، فلا يماري في صحتها ولا يرتاب في ثبوتها ، كعلم اليقين بالجنة والنار ، وتيقنه أن الجنة دار المتقين ومقر المؤمنين ، وأن النار دار الكافرين ومقر المشركين وأن الرسل أخبروا بها عن ربهم ، وأنهم بينوا للناس أمرهم ، فهذه الدرجة تسمي علم اليقين .
إما الدرجة الثانية لليقين : فهي عين اليقين ، وهي درجة الرؤية والمشاهدة كما قال تعالى : ( ثُمَّ لتَرَوْنَهَا عَيْنَ اليَقِينِ ) ، وبين هذه الدرجة والتي قبلها فرق ما بين العلم والمشاهدة ، فاليقين للسمع وعين اليقين للبصر ، فليْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل أَخْبَرَ مُوسَي بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي العِجْل فَلمْ يُلقِ الأَلوَاحَ ، فَلمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلقَي الأَلوَاحَ فَانْكَسَرَتْ ، وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتي ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين ، فكان سؤاله زيادة لنفسه وطمأنينة لقلبه ، فيسكن القلب عند المعاينة ويطمئن برؤية الحقيقية .
وفي حديث حارثة بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمنا حقا قال انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلي عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلي أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلي أهل النار يتضاغون فيها فقال يا حارثة عرفت فالزم ثلاثا ، ومن وصل الي هذا استلان ما يستوعره المترفون وأنس مما يشتوحش منه الجاهلون ، ومن لم يثبت قدم يقينه على هذه الدرجة فهو ضعيف اليقين ، وعلامة اليقين انشراح الصدر بذكر الله ، وطمأنينة القلب لأمر الله ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت وظلمة القبور ، وهذه هي الحالة التي كانت تحدث للصحابة الأخيار إذا ذكرهم النبي صلي الله عليه وسلم بالجنة أو النار ، فقد روي الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلةَ الأُسَيِّدِيِّ قَال :
لقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ الصديق فَقَال : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلةُ ؟ قُلتُ : نَافَقَ حَنْظَلةُ ، قَال سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ ؟ قُلتُ نَافَقَ حَنْظَلةُ يا أبا بكر ، نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ ، حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَال أَبُو بَكْرٍ : فَوَالله إِنَّا لنَلقَي مِثْل هَذَا ، يقول حنظلة ، فَانْطَلقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتى دَخَلنَا على رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، قُلتُ : نَافَقَ حَنْظَلةُ يَا رَسُول الله فَقَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلتُ : يَا رَسُول الله نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لوْ تَدُومُونَ على مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لصَافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ على فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً .
ومعني ساعة وساعة ، أي يتقلب في الأوقات بين منازل اليقين ، فتارة في علم اليقين ليتابع حياته في البيع والشراء والسراء والضراء ، وتارة في عين اليقين ينظر إلي ملكوت السماوات ، ويعتبر بما فيها من حكم وآيات ، وليس كما يفسرها الجاهلون فيقولون ساعة لقلبك وساعة لربك ، ويقصدون ساعة للعصيان وساعة للطاعة والإيمان ، وهذا باطل ، لأن اليقين يرفع مقام المؤمنين ، فمن ثمرات اليقين أن القلب إذا استيقن ما أخبر الله به من كرامة لأوليائه ومهانة لأعدائه ، بحيث كأنه ينظر إلي ذلك من وراء حجاب ، ويعلم أنه إذا زال هذا الحجاب ، رأي ذلك يقينا عيانا ، عند ذلك زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون ، ولان له ما استوعره المترفون .
وأما الدرجة الثالثة لليقين : فهي حق اليقين وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الإدراك التام ، فعلم اليقين كعلمك بوجود العسل ، وعين اليقين رؤيتك له بالبصر ، فتحملق فيه العينان ، وحق اليقين إحساسك بمذاقه على اللسان ، وقد قال النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لوْ تَعْلمُونَ مَا أَعْلمُ ، لضَحِكْتُمْ قَليلا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وفي رواية ، وَمَا تَلذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ على الفُرُشَاتِ ، وَلخَرَجْتُمْ إِلي الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلي اللهِ ) .
وقد ذكر الله حق اليقين في القرآن ، في سورتين من أسماء القيامة الواقعة والحاقة ، فقال في الواقعة : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ ) قسم عظيم يعلم قدره المتخصصون في النجوم ، فإنهم يقولون إن ما نراه في السماء من نجوم ، هي في حقيقتها مواقع للنجوم ، أما النجوم فقد ذهبت في مساراتها وتحركت في مداراتها ، فنظرا لعظم المسافات بيننا وبين هذه المخلوقات ، فإننا لا نري النجوم أبدا ، ولكننا نري مواقع مرت بها فحينما ينبثق الضوء بسرعته من النجم إلي أن يصل إلينا ، يكون النجم قد تحرك من موقعه وذهب عن موضعه ، ليس هذا وفقط ، بل إن الضوء كما قال العلماء ، ينحني في صفحة السماء ، فحينما يصل إلينا منحنيا ، يراه البصر موقعا وهميا ، غير الموقع الحقيقي للنجم ، ولذلك أقسم الله بالنجوم ليبين عجزنا عند علمنا ، ويثبت صدق القرآن لنا فقال :
( إِنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ ) قال قتادة : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، أما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس ، ( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ - وليس هو كما يقولون إنه سحر مبين أو شعر متين أو كهانة تنزلت بها الشياطين ، بل هو الحق الذي نزل من رب العالمين ، ثم قال : ( أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلوْلا إِذَا بَلغَتْ الحُلقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُون فَلوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِين فَسَلامٌ لكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ المُكَذِّبِينَ الضَّالينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْليَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ حَقُّ اليَقِينِ ) وليس بعد حق اليقين إلا أن نسبح الله تسبيح الموقنين فقال : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيم ) الواقعة .
وعلى نفس المنهج في آيات الواقعة جاءت آيات سورة الحاقة ، فقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْل شَاعِرٍ قَليلا مَا تُؤْمِنُون وَلا بِقَوْل كَاهِنٍ قَليلا مَا تَذَكَّرُون تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ وَلوْ تَقَوَّل عَليْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لتَذْكِرَةٌ للمُتَّقِينَ وَإِنَّا لنَعْلمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لحَسْرَةٌ على الكَافِرِين وَإِنَّهُ لحَقُّ اليَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) الحاقة .
ولنتحدث الآن عن مدارك اليقين : ما هي الوسائل التي يدرك بها اليقين ، كيف يتأكد اللإنسان أنه على يقين من أمره ؟ هناك عدة أشياء يدرك بها اليقين :
أولها البديهيات أو الأوليات : وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، إن من أكبر المحرمات جريمة الزني ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبني على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها : ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّي يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع – ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحي إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلي الغلام وتقول : ( إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ على يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلكَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُون ) .
ومن الأمور التي يدرك بها اليقين : المحسوسات ، وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات ، في الحكم على المومسات فقال : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ – جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال : كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال : لوْ أَنَّ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غَيْظٍ ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أتي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ ، فَقَال يا رسول الله : لوْ أَنَّ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ على غَيْظٍ ، فنزل قول الله تعالى : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .
ومن مدارك اليقين أيضا الاعترافات ، فالإنسان أدري بنفسه وأعلم بوصفه ، فإن ثبت عند القاضي اعترافه على نفسه حكم باليقين على زناه كما ثبت عن رسول الله أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَته وَهِيَ حُبْلي مِنَ الزِّنَي فَقَالتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ على ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَليَّهَا فَقَال أَحْسِنْ إِليْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا فَفَعَل ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَشُدَّتْ عَليْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلي عَليْهَا فَقَال لهُ عُمَرُ تُصَلي عَليْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَال لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل المَدِينَةِ لوَسِعَتْهُمْ وَهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَل مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تعالى .
وكذلك جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالكٍ إِلي النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ قَال فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ قَال فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِثْل ذَلكَ حتى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَال لهُ رَسُولُ اللهِ فِيمَ أُطَهِّرُكَ فَقَال مِنَ الزِّنَي فَسَأَل رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَبِهِ جُنُونٌ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ ليْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَال أَشَرِبَ خَمْرًا فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَال فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَزَنَيْتَ فَقَال نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
ومن وسائل إدراك اليقين المتواترات : كعلمنا بوجود مكة والمدينة ، فإن العلم بوجودهما علم يقيني ، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقيني ، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار ، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهي التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلي نهاية الإسناد إلي رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ .
ومن وسائل إدراك اليقين أيضا التجريبيات ، وقد يعبر عنها باطراد العادات ، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة ، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها ، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات ، ولذلك حذرنا الله من العصيان ، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان ، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى : ( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) وقال : ( قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ ) ( فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا ) ، وفي الحديث ( لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ) وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلي الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتحرىالصِّدْقَ حتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلي النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتحرىالكَذِبَ حتى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) .
فهذه مدارك اليقين ، جعلها الله علامات تدل عليه وترشد إليه ، فأين اليقين بالله يا عباد الله ، ذم مولانا الدنيا فمدحناها ، وأبغضها فأحببناها ، وزهدنا فيها فآثرناها ، وعدنا خرابها فحصناها ، ونهانا عن طلبها فطلبنها ، وأنذرنا كنزها فكنزناها ، دعتنا هذه الدنيا الغرورة فأجبناها ، تمرغنا في زهوتها وتمتعنا بلذتها وتنعمنا بشهوتها ، نبشنا بمخالب الحرص عن خزائنها وحفرنا بمعاول الطمع في معادنها ، بنينا بالغفلة في أماكنها ، وتحصنا بالجهل في مساكنها ، وعصينا الله في شريعته ، فهل بعد ذلك يقوي أحد على طلب ولايته أو الطمع في جنته ، أيها المتقون جنة الله يدخلها المؤمنون بطاعته ، وولاية الله لا تدرك إلا بمحبته ، ولن نصل إلي مرضاته إلا بتوحيده وعبوديته يا ربي لا قوة لنا فننتصر ولا براءة من ذنوبنا فنعتذر ، فإن تعاقب فأهل للعقاب وإن تغفر فعفوك مأمول ومنتظر ، إن العظيم إذا لم يعف مقتدرا عن العباد فمن يعفو ويقتدر .
علامات اليقين يا عبد الله أن تعظم الحق في عينيك ، وأن يصغر ما دونه عندك ، وأن يثبت الخوف والرجاء في قلبك ، وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه شيع جنازة فلما وضعت في لحدها ، عج أهلها بالبكاء ، فقال رضي الله عنه : ما تبكون ، أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم ، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ، ووقت لكم الآجال ، وجعل لكم أسماعا تعي معناها ، وأبصارا تجلوا عن غشاها ، وأفئدة تفهم ما دهاها ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يضرب عنكم الذكر صفحا ، بل أكرمكم بالنعمة السابغة ، والحجة البالغة ، وأحاط بكم الاحصاء ، وأرصد لكم الجزاء في السراء والضراء ، فاتقوا الله عباد الله وجدوا في الطلب ، وإياكم ومقطع النهمات ، وهادم اللذات ، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل وشبح زائل ، وسند مائل ، اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالآيات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ، أتتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم فظائع الأمور ، بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر وموقف الحساب ، بإحاطة قدرة الجبار ، كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بمخبرها ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ، هذا يوم التلاق يوم يكشف عن ساق ، كسفت الشمس وحشرت الوحوش ، وبدت الأسرار ، وهلكت الأشرار ، وارتجت الأفئدة فنزلت بأهل النار ، تأجج جحيمها ، وغلا حميمها ، معهم ملائكة يبشرونهم بنزل من حميم وتصلية جحيم ، عن الله محجوبون ، ولأوليائه مفارقون ، وإلي النار منطلقون ، عباد الله اتقوا الله تقية من قنع فخنع ، ووجل فرحل ، وحذر فابصر فازدجر ، فاحتث طلبا ، ونجا هربا ، وقدم للمعاد ، واستظهر بالزاد ، وكفي بالله منتقما وبصيرا ، وكفي بالكتاب خصما وحجيجا وكفي بالجنة ثوابا ، وكفي بالنار وبالا وعقابا ، وأستغفر الله لي ولكم فهذا شأن اليقين ورأس مال الدين وبعض علامات الموقنين ، وهذا هو الشرط الثاني من شروط لا إله إلا الله ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أن أستغفرك وأتوب إليك

نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة