ما أكثر ما يتلطف بي القدر ، فتنهمر علي شلالات نور خاطف بين الحين والحين .. فإذا بي أجد نفسي محلقاً فوق الربى والحقول ، بل فوق الدنيا ، أنظر إليها من علٍ عالٍ … !! وحين أكون في لحظة التحليق تلك ….. يهولني أن أرى النور مشرقاً يتلألأ في كل زاوية من هنا ومن هاهنا … حتى إني لأعجب كيف لم أكن أرى كل هذا الإشراق لأكتب عنه شعراً ، أو أعبر عنه نثرا..؟ …… بل يخيّل إليّ ساعتها… أنني لو رأيت ما رأيت وأنا حيث كنت في موضعي من الأرض ... لغدوت شاعرا فحلا لا يُجارى ، ولا يُبارى …..! أخلف الشعراء ورائي ، يجمعون ما يتساقط من زوّادتي ، وأنا أمضي في حالة انبهار بهذا النور الذي يتلألأ في كل مكان ، والقوافي تتصارع على بوابة فمي أيها يخرج قبل أختها …….! في لحظة التحليق تلك … وأنا أرى ما أرى مما يهز الفؤاد طربا ، أتذكر على الفور قول القائل : كن جميلا ترى الوجود جميلا …….! وعلى قدر ما يفرحني هذا القول ، يحزنني بشدة … حيث أقول لنفسي : وهل معنى ذلك أنني لم أكن جميلا من داخلي ، ومن ثم لم أكن أرى كل هذا البهاء والإشراق في هذا الكون الجميل ……؟!- عدت قبل ليالٍ إلى شيخي منكسر النفس ، خائر الهمة … وكعادتي ما إن جلست إليه ... حتى شعرت أنه قد هطلت على قلبي أمطار العافية … كل هذا قبل أن يقول شيئا ، وما أن أدخل في دائرة مغناطيسيته ... حتى يجذبني بقوى عجيبة إلى حيث يكون متساميا في مراقٍ عالية …. وشكوت إليه ما أجد ، وما أشعر به مما جال في خلدي من ذلك القول ، أو تلك الخواطر … فجاء حديث الشيخ قبسا من نور النور ، وعطراً تنتشي له العطور … فكان مما قال _ وما أعجب ما قال _ لكن يؤسفني أنني سأنقل حروف وكلمات الشيخ ... أما روحه التي كانت تتحدث ، ويترجم حديثها هذا اللسان ، فذلك ما أعجز عنه ، ومن ثم فهذا ترجمة لما قال ، وليست حقيقة ما قال … وأين الترجمة من الأصل …….؟ قال : إن كان القائل يرى الوجود جميلاً لأنه جميل من داخله .. فهو إنما يرى انعكاس جمال قلبه فيما تقع عليه عيناه ... فتهب على روحه نسائم السحر الحلال ، فكأنه يرى ما لا حقيقة له … غير أن الأمر بالعكس من ذلك .. … فهو في لحظة الصفاء تلك ... انجلت أغشية عن روعة الجمال التي يتغشى بها الكون ... فاصبح يرى ، ما لا يراه الآخرون … وقد يعجبون منه ، حين يحاول أن يعبر لهم عما يراه ، ويسمعه ، ويشمه ..!! وما أكثر ما تقصر العبارة هنا ….! وقال شيخي : وسنسلم جدلا له بما قال … غير أنا نقول واثقين مما نقول : أنه قَصُرَ به الأمر .. وكان النبع قريبا منه سيتفجر في روعة ، لو أنه خطا بنا خطوة إلى الأمام ، ولم يقف بنا حيث وقف …. يا بني … قد يرى القلب في حالة صفاء ، ولحظات شفافية ، أن انعكاسات ما تراه عيناه تشع إبداعا وبهاء وروعة .. لكن الخطوة التالية و الأرقى والأهم … أن الكون يغدو أحسن منظرا .. وأبهى جمالاً …. وأروع إبداعا … وأحلى زينة … حين تشع في أغوار القلب إشعاعات إيمانية قوية ، تصله مباشرة بالسماء ، وتشده بقوة إلى ربه سبحانه .. فكأنما هو ينظر من كوة في السماء إلى الأرض وزخرفها وتعاجيب أهلها….! يا بني … إن الفرق ما بين النظرتين عظيم وكبير وخطير … وبالمثال يتضح المقال : …أرأيت إلى إنسان يحدق ملياً وبقوة ليرى في جهد بعينيه الكليلتين ، ذرة من قطعة ألماس نادرة … وشخص آخر يتناولها ليضعها تحت مجهر كبير ، فيراها مكبرة آلاف المرات ……..! أي النظرتين هي الأوضح والأعجب والأمتع ..! هذا مجرد تقريب لتعرف فرق ما بين النظرتين … وإلا فالأمر أبعد من هذا وأعجب .. ! ولا أخالك إلا تسألني الآن : ولكن هذا نادر وقليل … ومنزلة تتكسر دونها الرقاب ، ولا تبلغها الخيل المضمرة . فاعلم يا بني فتح الله على قلبك …. أن هاهنا أمور عليك أن تجعلها منك على بال … لو كان الأمر كما تتوهم ، لما طالبنا الله به ، ولا كلفنا بمحاولة الوصول إليه ، لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ومن ثم فإن الأمر ميسور ، ما دام التكليف مقدورا عليه … تبقى همة الإنسان ، وجهده ، وجهاده ، وعزيمته … والناس هاهنا تتفاوت … هذه واحدة ... والثانية : ألا يكفي أن تبقى مشدود القلب إلى تلك الذرا ، حولها تدندن ، وإليها تشتاق ، ونحوها تصبو ، وحولها تطوف ..؟ فإن مت وأنت تحاول جاهدا الوصول إليها ، فقد وقع أجرك على الله ، وسيرفعك الله إلى مقام أهلها في جناته ، حيث لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر … وأما الثالثة : فقد قال علماؤنا : ليس بالضرورة أن يبقى الإنسان في هذه الحال أبدا ، على مر أنفاس حياته . فمن الناس من تهب عليه مثل هذه النفحات بين الوقت والوقت ، فذلك خير عظيم ، وفضل كبير ، وعلى هذا أن يواصل الطريق ليبقى مستمرا ، فتدوم له هذه النفحات وتطول …. أما من دامت له لأطول فترة ممكنة ، فهذا عظيم في السماء ، عظيم في الأرض …….!! والرابعة يا بني : تذكر أن اللؤلؤ نادر وقليل ، ولكن قيمته هي الأعلى والأرقى ، وعليه يتنافس المتنافسون .. أما الفحم فهو كثير مكدس ، على قفا من يشيل _ كما يقال _..!ّ! فكن لؤلؤة نادرة ، واربأ بنفسك أن تكون فحمة من الفحم ……!! وفي كل الأحوال حين تسير في هذا الطريق ، فإنك أنت الرابح بكل حال ، سواء وصلت أو لم تصل … ولا تزال تتلألأ على طول الطريق لأنك في معية خاصة مع الله جل جلاله .. فاطلب الكمال ، ودع الدون للدون ... منقول لتكون لؤلؤة ... لا فحمة ... وجزى الله الكاتب خير الجزاء.