الخصلة الرابعة :
أن يكون من كل واحد منهما ميل إلى صاحبه ، ورغبة في مؤاخاته . فإن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة ، إذ ليس كل مطلوب إليه طالبا ولا كل مرغوب إليه راغبا .
ومن طلب مودة ممتنع عليه ، ورغب إلى زاهد فيه ، كان معنى خائبا ، كما قال البحتري :
وطلبت منك مودة لم أعطها **** إن المعنى طالب لا يظفر
وقال العباس بن الأحنف : فإن كان لا يدنيك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون بشافع وأقسم ما تركي عتابك عن قلى ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا فلا بد منه مكرها غير طائع فإذا استكملت هذه الخصال في إنسان وجب إخاؤه ، وتعين اصطفاؤه . وبحسب وفورها فيه يجب أن يكون الميل إليه والثقة به . وبحسب ما يرى من غلبة إحداها عليه يجعل مستعملا في الخلق الغالب عليه . فإن الإخوان على طبقات مختلفة وأنحاء متشعبة ، ولكل واحد منهم حال يختص بها في المشاركة ، وثلمة يسدها في المؤازرة والمظافرة ، وليس تتفق أحوال جميعهم على حد واحد ؛ لأن التباين في الناس غالب ، واختلافهم في الشيم ظاهر .
وقال بعض الحكماء : الرجال كالشجر شرابه واحد وثمره مختلف . فأخذ هذا المعنى منصور بن إسماعيل فقال :
بنو آدم كالنبت **** ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصندل**** والكافور والبان
ومنهم شجر أفضل **** ما يحمل قطران
ومن رام إخوانا تتفق أحوال جميعهم رام متعذرا ، بل لو اتفقوا لكان ربما وقع به خلل في نظامه ، إذ ليس الواحد من الإخوان يمكن الاستعانة به في كل حال ، ولا المجبولون على الخلق الواحد يمكن أن يتصرفوا في جميع الأعمال وإنما بالاختلاف يكون الائتلاف .
وقد قال بعض الحكماء : ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا .
وقال المأمون : الإخوان ثلاث طبقات :
طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه ، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا ، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا .
ولعمري إن الناس على ما وصفهم ، لا الإخوان منهم . وليس من كان منهم كالداء ، من الإخوان المعدودين ، بل هم من الأعداء المحذورين . وإنما يداجون المودة استكفافا لشرهم ، وتحرزا من مكاشفتهم ، فدخلوا في عداد الإخوان بالمظاهرة والمساترة ، وفي الأعداء عند المكاشفة والمجاهرة .
قال بعض الحكماء : مثل العدو الضاحك إليك كالحنظلة الخضراء أوراقها ، القاتل مذاقها .
وقد قيل في منثور الحكم : لا تغترن بمقاربة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها .
وقال يزيد بن الحكم الثقفي :
تكاشرني ضحكا كأنك ناصح وعينك تبدي أن صدرك لي دوي لسانك معسول ونفسك علقم وشرك مبسوط وخيرك ملتوي فليت كفافا كان خيرك كله وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي فإذا خرج من كان كالداء من عداد الإخوان ، فالإخوان هم الصنفان الآخران اللذان من كان منهم كالغذاء وكالدواء ؛ لأن الغذاء أقوم للنفس وحياتها ، والدواء علاجها وصلاحها . وأفضلهما من كان كالغذاء ؛ لأن الحاجة إليه أعم . وإذا تميز الإخوان وجب أن ينزل كل منهم حيث نزلت به أحواله إليه واستقرت خصاله وخلاله عليه . فمن قويت أسبابه قويت الثقة به ، وبحسب الثقة به يكون الركون إليه ، والتعويل عليه .
وقال الشاعر :
ما أنت بالسبب الضعيف **** وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليـــك **** وإنما يدعى الطبيب لشدة الأوصاب 0
تم بحمد الله
أخوكم