بارك الله فيكم أخي الحبيب ( مالك ) ، ولي وقفات مع بعض ما تفضلتم به من اطروحات حول الموضوع برمته :
أما قولكم يا رعاكم الله : ( دخول الجن للجسد : الجن لا يدخل أجساد الانس الا بعد تشكلهم فى أشكال معينة )
قلت وبالله التوفيق : هناك بعض المسائل من الأولى للمعالج والمريض عدم اقحام النفس فيها لأنها مسائل غيبية لا تقدم ولا تؤخر في العلاج والاستشفاء ، الثابت في الكتاب والسنة وعند أثبات علماء أهل السنة والجماعة حصول هذا الأمر ، أما الكيفية فلا يعلمها إلا الله ، ومن هنا أنقل لكم أخي الحبيب ( مالك ) مسألة مشابهة حول كيفية حصول العين وما ذكرته تحت عنوان :
( كيفية الاصابة بداء العين أو الحسد )
حقيقة الأمر فإن تأثير وكيفية الإصابة بالعين أو الحسد أمر يتعلق بالنواحي الغيبية ، والحديث في ذلك لا بد أن يستند إلى النصوص النقلية الصريحة من الكتاب أو السنة ، والمُلاحِظ والباحث يرى أن النصوص النقلية الصريحة في الكتاب والسنة لم تبين كيفية الإصابة بالعين أو الحسد ، إنما النصوص تكلمت بشكل واضح عن الآثار المترتبة عن الإصابة بالعين والحسد ، وبعض أهل العلم ممن تحدث في ذلك كان بناء على اجتهاد خاص بخصوص هذا الموضوع 0
ومن هنا كان الأولى أن نقف دون الحديث في كيفية الإصابة بذاتها ، لأن الأصل عند الحديث في مسائل الغيب الاعتماد على النصوص النقلية الصريحة وهذا هو الأولى والاتقى والأسلم 0
يقول ابن منظور في تعريف العين : ( العين أن تصيب الإنسان بعين 0 وعان الرجل بعينه عينا 0 فهو عائن والمصاب معين على النقص ومعيون على التمام ، أصابه بالعين ) ( لسان العرب – 13 / 301 ) 0
قال الحافظ بن حجر في الفتح : ( إن طبائع الناس تختلف ، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون ، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال : إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني 0
ويقرب من ذلك المرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد ، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد ، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها ، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد ، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب 0 قال المازري : زعم بعض الطبائعيين : أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية بالمعين فيهلك أو يفسد ، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي ، وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر ) ( فتح الباري – 10 / 200 ) 0
وأفضل من تحدث عن تلك الحقيقة فضيلة الشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله – حيث يقول : ( إن الإجابة عن كيفية إصابة العين والكشف عن حقيقة ذلك فعلا ومسببا ليس بالعمل الميسور ، ولم يزل ذلك خفيا حتى اليوم 00 وهذا من الناحية المنهجية ، متعذر أو ممتنع ، لأنه تأثير غير محسوس ، وغير المحسوس لا يمكن إدراكه بالحس ، وإنما الحس يدرك آثاره ، ويحكم بوجوده أو عدمه ، أما كنه عمله وتفاعلاته ، فلا 00 مثله كالروح في الجسم ، وتيار الكهرباء ، وتلك الأشعات الحديثة ، تردك آثارها ويتصور وجودها من تلك الآثار 00 وقديما قالوا : كتأثير المغناطيس في جلب الحديد ، أما ما هو المغناطيس فليس معلوما بماهيته 00 ومن هذا الباب تأثير عين العائن فيمن أصابه بعينه 00 ومع ذلك فقد اجتهد العلماء رحمهم الله تعالى في العصور المتقدمة في الكشف عن حقيقته ، ونقل عنهم – رحمهم الله ما قالوه ، وهو ما بين موجز ومطول ، مع اختلاف وجهات النظر ، شأنهم في ذلك شأنهم في المسائل الاجتهادية ، ولا سيما الخفي منها عن الحسي ) ( العين والرقية والإستشفاء من القرآن والسنة – ص 24 ) 0
ومن هنا يُرى التوقف في هذه المسألة دون إعطاء تأويلات لا تعتمد على النصوص النقلية ، حيث أن المسألة برمتها تتعلق بالجانب الغيبي ، والله تعالى أعلم 0
أما قولكم - يا رعاكم الله - : ( ولا يستطيع الجني دخول البدن الا بواسطة السحر )
قلت وبالله التوفيق : وهذا الكلاك مجانب للصواب ، والدليل هو الآتي :
1)- عن عطاء بن رباح قال : قال لي ابن عباس - رضي الله عنه – : ( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي ، قال : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ؟ فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف ، فدعا لها ) ( متفق عليه ) 0
وهذه المرأة اسمها أم زفر كما روى ذلك البخاري في صحيحه عن عطاء ، والظاهر أن الصرع الذي كان بهذه المرأة كان من الجن 0
قال الحافظ بن حجر في الفتح : ( وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت : إني أخاف الخبيث أن يجردني ، - والخبيث هو الشيطان - فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها 000 ثم قال : وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط انتهى ) ( فتح الباري – 10 / 115 ) 0
قلت : اختلف أهل العلم في بيان صرع الصحابية الجليلة ( أم زفر ) - رضي الله عنها - هل هو عضوي أم شيطاني ، والذي يترجح لدي في هذه المسألة بأن الصرع الذي كانت تعاني منه هذه الصحابية هو النوع الثاني ، أي الصرع الشيطاني بدليل نص الحديث الثاني الذي أوردته في سياق أدلة إثبات صرع الجن للإنس ، وأعتقد أنه طريق آخر لحديث ( أم زفر ) الأول ، حيث ورد في الحديث ما نصه : " أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها طيف " وقد ورد في المعاجم بأن الطيف هو المس من الشيطان ، وكذلك ما نص عليه الحافظ بن حجر - رحمه الله - في تعقيبه على حديث ( أم زفر ) بقوله : " وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط " والله تعالى أعلم 0
2)- عن عثمان بن العاص - رضي الله عنه - قال : ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي 0 فلما رأيت ذلك ، رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ابن أبي العاص ؟ ) قلت : نعم ! يا رسول الله ! قال : ( ما جاء بك ؟ ) قلت : يا رسول الله ! عرض لي شيء في صلواتي ، حتى ما أدري ما أصلي 0 قال : ( ذاك الشيطان 0 ادنه ) فدنوت منه 0 فجلست على صدور قدمي0 قال ، فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي، وقال : ( أخرج عدو الله ! ) ففعل ذلك ثلاث مرات 0 ثم قال : ( الحق بعملك ) ( أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب الطب ( 46 ) – برقم ( 3548 ) ، وقال الألباني حديث صحيح ، أنظر صحيح ابن ماجة 2858 – وصححه البصيري في " مصباح الزجاجة " – 4 / 36 – السنن ) 0
وتلك نماذج لتعرض صحابة أجلاء لهذا الداء ولم يكن السبب مطلقاً السحر ، وقد نقول بأن كثير من حالات الاقتران هي بسبب السحر أما التعميم فلا 0
أما قولكم - يا رعاكم الله - : ( وبحسب علمي الشحصي أن الجني فى الجسد مثل قطعة الثلج كلما أكثر الراقي من التلاوات القرانية )
قلت وبالله التوفيق : هذا اعتقادنا جميعاً أخي الحبيب ولا بد أن نملك هذا البقين وأن القرآن والسنة هما العلاج لكافة الأمراض الروحية ، ولو ملكما مثل هذا اليقين بكل مقوماته لقلت فترة العلاج حتماً ، ولكننا قوم نستعجل الأمور ، فبارك الله فيكم على هذا التشبيه البليع 0
أما قولكم - يا رعاكم الله - : ( فاغلب وبحسب علمي مارأيته ممن يدعي الاستعانة لا يملك الا بضع فسقة من الجن بل ومن عوامهم ومتطفلين على علوم الغير فيوحون لمن صدقهم من الانس أن هذا السحر يبطل فى يوم كذا وكذا بشرط أستخدام هذا العلاج وهم فى حقيقة الامر لم يُجبرو الجني فى الجسد على الخروج بل أتفقوا معه أو يطلبون منه عدم أظهار نفسه فترة من الزمن حتى يتمكن المستعين بهم أخذ النصيب الاوفر من أموال الناس ومن تم وبحسب تفكيرهم لايهمهم المريض فى أي واد هلك ومن هنا كان الخطر فى الاستعانة بالجن )
قلت وبالله التوفيق : لقد أشبعت المسألة بحثاً وتفصيلاً في منتدانا الغالي ، وأرجو من الأخ الحبيب ( مالك ) مراجعة الروابط التالية للاستفادة والمتابعة :
( && الاستعانة بالجن والشياطين بين المشروعية والمنع && )
( && القول المبين واليقين للشيخ ابن عثيمين في الاستعانة بالجن && )
( && القول الواضح المبين لـ ( أبي همام ) و ( أبي البراء ) في الاستعانة بالجن && )
ووالله أخي الحبيب إن اتباع منهج الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة يكفينا المؤونة ويقينا شر التخبط والضياع ، ولو أفتى بذلك فلان أو فلان فسواد الأمة الأعظم مع القول بحرمة الاستعانة سداً للذرائع المفضية للكفر والشرك والبدعة المحرمة 0
زادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية :
أخوكم المحب / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني 0