المطلب الثاني: أخطاء العلاج
إذا ما فرغ الطبيب من تشخيص المرض كمرحلة أولى يقوم بوصف الدواء، ويحدد الطريقة الملائمة للعلاج، ولا يلتزم في ذلك بتحقيق نتيجة معينة مثل شفاء المريض وزوال المرض، ولكن يقع عليه التزام بذل العناية الواجبة في اختيار الدواء المناسب ابتغاء تحسين حالة المريض.
والأصل أن يترك للطبيب حرية التصرف وفق مهارته وتجاربه، فيختار العلاج والطريقة المناسبة، شريطة أن يكون كل ذلك مبنياً على أسس علمية معترفاً بها، وعليه فهو غير ملزم باتباع آراء الغالبية من الأطباء، ولا يسأل عن الطريقة التي يعالج بها مريضه، مادام أنه قدر أنها أكثر ملاءمة لحالة المريض.
ويجب على الطبيب وصف العلاج دون أن يعرض المريض لخطر لا تدعو إليه حالته، ولا يتناسب مع الفائدة التي قد تترتب عليه. وفي هذا المقام عليه أن يوازن بين مخاطر المرض ومخاطر العلاج، فإذا كان من شأن المرض عدم تهديد سلامة المريض، فلا يجوز تعريضه لعلاج من شأنه إيذاؤه. وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض الفرنسية بمسؤولية جراح عن قتل غير عمدي بسبب إهماله وعدم احتياطه، وذلك لمباشرته دون ضرورة لفحص بالمنظار لجوف المريضة، وهذا الفحص لم يكن مناسباً لحالتها، وتمّ دون استنفاد وسائل الكشف الأخرى.
وإذا راعى الطبيب في إعطاء العلاج أو في إجراء العملية أصول وقواعد مهنة الطب، فإنه لا يسأل عن الآلام التي يمكن أن تترتب على ذلك، وكذلك المضاعفات التي يمكن أن تنجم عن المرض. ومقابل ذلك يسأل الطبيب عن خطئه في العلاج إذا تجسد هذا الخطأ في إهمال أو جهل بالقواعد الأولية في علم الطب، من ذلك على سبيل المثال إعطاء العلاج بجرعة أقل أو أكبر، أو بإعطائه على مدد متقاربة، خلافاً لما تقضي به القواعد الطبية عادة. وذلك كله لأن الطبيب يقع عليه الالتزام بمراعاة الحيطة في وصف العلاج، وضبط الجرع التي تتناسب مع حالة المريض وبنيته، وسنه ودرجة احتماله للمواد التي يحتويها الدواء. وفي هذا الخصوص يجب على الطبيب أن ينبه المريض إلى المخاطر التي يمكن أن تترتب على العلاج المزمع اتباعه، وعليه بعد ذلك أن يراقب بعناية تأثيره على جسد المريض خلال فترة تعاطيه.
وعليه فإن الطبيب إذا أعطى المريض دواء من الأدوية المعروفة بسميتها، وكان المريض يعاني من حساسية لهذا الدواء، تسنى للطبيب معرفتها، فترتب على ذلك حدوث تسمم للمريض، فإنه يسأل جنائياً عن ذلك لأنه كان بإمكانه وصف دواء آخر يجنب المريض هذا الضرر الناجم عن هذه الحساسية، أو يخفف من أثرها، ولكنه لم يفعل.
ويسأل الطبيب أيضاً إذا أخطأ في اختيار العلاج المناسب، ومن ذلك ما قضت به المحكمة الاتحادية العليا بإدانة طبيب استشاري وكذلك الطبيبات المناوبات في قسم الولادة، بسبب الخطأ في إعطاء العلاج المناسب، حيث تم اتباع العلاج الضوئي لمرض الصفراء ذي التركيز المرتفع والذي ثبت وجوده لدى أحد الأطفال “.... ومن الثابت علمياً أن العلاج الضوئي يجرى فقط في الدرجات البسيطة من الاصفرار خلال اليومين أو الثلاثة الأولى فقط، أما النسب المرتفعة من الصفراء والتي تستمر بعد الثلاثة أيام الأولى، فلا يجرى فيها العلاج الضوئي، بل على العكس من ذلك فقد يضر أكثر من الصفراء، والعلاج الوحيد هو تغيير الدم....”.
كما قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيبين، بسبب إصرارهما على أن يتم التوليد طبيعياً، على الرغم من فشل محاولتهما إخراج الوليد بجهاز الشفط، وملاحظتهما لوجود مشاكل في دقات القلب لديه.
ويجب على الطبيب وبصفة خاصة الجراح اتخاذ الاحتياطات اللازمة التي تسبق التدخل الجراحي فعدم إجراء الفحص اللازم، أو مراقبة المريض في الفترة التي تسبق العملية الجراحية، يشكل خطأ يستوجب مسؤولية الطبيب الجنائية. وفي هذا قضت محكمة النقض الفرنسية في حكم حديث لها بإدانة طبيب بجريمة القتل الخطأ، بسبب عدم قيامه بفحص اكلينيكي شامل للمريضة، وهذا الإهمال أعاق تشخيص المرض بدقة، وأخّر التدخل الجراحي، مما نجم عنه وفاة المجني عليها.
ويعد عدم إرسال الطبيب المريض إلى المستشفى لتلقي العلاج المناسب خطأ طبياً يتصل بالعلاج، وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيب بالقتل غير العمدي لطفل يبلغ من العمر أربعة عشر شهراً، توفي جرّاء متاعب في الجهاز الهضمي، فرغم إطلاع الطبيب على سجل المريض الطبي ومعرفته بالعملية الجراحية التي أجريت له، واستمرار القيء لديه، إلا أنه لم يرسله إلى المستشفى للاستفادة من العلاج الملائم.
المطلب الثالث: أخطاء التخدير
لقد أعان التخدير على منع الشعور بالألم عند الكشف على الأجزاء المؤلمة من الجسم، وعلى تسهيل إجراء العمليات التي تحتاج سكوناً تاماً من المريض، وعلى التوليد دون ألم. وإذا كان من الممكن أن تترتب عليه بعض الأضرار أحياناً، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشاره في جميع فروع الطب.
وتتعدد أنواع التخدير، فهناك التخدير الموضعي، الذي يتم بحقن الموضع الذي يستعمل محلاً للجراحات البسيطة جداً، وعمليات العين. وهذا النوع من التخدير يمكن أن يقوم به الجراح نفسه دون الاستعانة بأخصائي في التخدير.
وهناك التخدير النخاعي، ومن الممكن أن يقوم به أي أخصائي في الجراحة دون وجود طبيب تخدير إذا كان يحسنه، ولما كان ينجم عن ذلك تشتت فكر الجراح بين متابعة حالة المريض والعملية فإن الجراحين يفضلون قيام أحد أخصائي التخدير به.
وأخيراً هناك التخدير الوريدي والتخدير الاستنشاقي، ووجود طبيب للتخدير أثناءهما أمر لازم لا مناص منه.
ويتعين على الجراح أو أخصائي التخدير فحص المريض قبل التخدير لمعرفة حالة قلبه، ومدى احتماله للمخدر، مع التأكد من خلو معدته من الطعام، واتخاذ ما يلزم من احتياطات يقتضيها الفن الطبي. ثم يقوم بتخديره بالكيفية التي يراها مناسبة، ويتولى بعد ذلك مراقبة حالة المريض أثناء العملية لتفادي كل ما يمكن أن يحدث من أثر في قلبه وتنفسه. وبعد انتهاء العملية عليه أن يراقب المريض حتى يفيق بصورة كاملة.
ويجب على طبيب التخدير عند استخدام المخدر مراعاة الدقة اللازمة، ولا يسأل إلا إذا أهمل بأن قام بإجراء خطير لا تقتضيه الضرورة وترتبت عليه الوفاة، ذلك أن القواعد العامة المقررة في التخدير وسائر وسائل العلاج تقتضي ألا يعرض الطبيب المريض لخطر لا يتناسب مع درجة الإصابة التي يشكو منها.
ويجب على طبيب التخدير أن يبذل الدرجة المقبولة من العناية والمهارة وفق مستوى خبرته، غير أن ذلك لا يعني أن يضمن عدم وفاة المريض تحت التخدير.
ولمساءلة طبيب التخدير استناداً إلى إهمال صدر منه، فإنه يجب على جهة الاتهام إثبات أن الضرر الذي لحق بالمريض نجم عن فعل طبيب التخدير، وقد يكون ذلك أمراً صعباً في حالة وفاة المريض، ذلك أنه إذا تبين من عملية التشريح خلو الجثة من أي أمر غير طبيعي، فذلك لا يعد دليلاً على أن الوفاة حصلت بسبب التخدير. وعليه فإن تحديد مسؤولية طبيب التخدير عن وفاة مريض أثناء أو بعد عملية جراحية، أمر تكتنفه مشقة وصعوبة، ولعل ما يخفف من ذلك توافر الأمانة في تدوين تقرير سير الأحداث والمسارعة إلى تشريح جثة المريض المتوفى، وفي هذا يقول أحد الأطباء المخصصين أنه لم يتسن له التحقق من السبب الحقيقي لوفاة مريض تم تخديره وتوفي أثناء أو بعد التخدير خلال الأربعين سنة الماضية.
ومن القضايا التي نظرها القضاء الفرنسي في هذا الخصوص، إدانته لطبيب تخدير لم يلاحظ نقص التنفس عند المريضة، فأعطاها مادة مخدرة لا تتناسب مع حالتها المرضية، فضلاً على ذلك غاب عن غرفة العمليات فترة من الوقت، دون أن يعهد بمراقبة التخدير لشخص مؤهل.
المطلب الرابع: أخطاء الجراحة
إن الجراحة مهنة طبية جليلة قدمت للإنسانية الكثير، وهي تتطلب من ممارسيها العناية والمهارة الكبيرتين أكثر مما تتطلبه العلاجات الطبية الأخرى.
ولا يحق للطبيب الجراح إجراء العملية الجراحية إلا بعد أن يقوم بفحص المريض بدقة، وعناية، والتأكد من أن حالة المريض لا تنذر بنتائج أخطر، فإذا كانت الجراحة خطيرة ودقيقة، يجب أن تكون لازمة لإنقاذ حياة المريض. وعليه فإن الطبيب يسأل عن أي ضرر يمكن أن يترتب على أي إهمال يتعلق بالفحص السابق على العملية الجراحية.
ويلتزم الجراح باستشارة الطبيب المعالج حتى يسترشد برأيه في مدى تحمل المريض للعملية الجراحية وبصفة خاصة إذا كانت تتسم بخطورة مؤكدة. ولما كان الطبيب الجراح مستقلاً في مزاولة مهنته، فإن مسؤوليته عن الأضرار التي قد تترتب على العملية الجراحية لا تنتفي بكون الطبيب المعالج هو الذي أشار إليه بإجراء الجراحة، لأنه ملزم بفحص المريض ودراسة حالته للتأكد من ضرورة العمل الجراحي، وما قد ينجم عنه من آثار.
ويجب على الطبيب قبل البدء في مباشرة العمل الجراحي الحصول على رضاء المريض، بعد إعلامه بحالته، وطبيعة العلاج الذي تتطلبه، وتفاصيل العملية الجراحية ومضاعفاتها المحتملة. فإذا تم إجراء الجراحة دون الحصول على هذا الرضاء يسأل الطبيب الجراح على ذلك حيث تنتفي الإباحة عن فعله. ويجوز إجراء العملية الجراحية دون رضاء المريض عند الضرورة كالحالات المستعجلة التي تقتضي إنقاذ حياة المريض، الذي لا تسمح حالته بالتعبير عن رضائه، ولا يوجد من يمثله قانوناً ويمكنه إصدار هذا الرضاء، وعلى الطبيب الجراح في هذه الحالة إطلاع المريض على حالته بعد إفاقته، والتدخل الجراحي الذي تم على جسده، وما ترتب عليه من أثر.
ولا يجوز للجراح الامتناع عن إجراء عملية جراحية للمريض بسبب خطورتها مادامت حالته تقتضيها، غير أنه لا يسأل عن رفضه إجراء جراحة معينة إذا كانت نتائجها محل شك عنده.
ولا يسأل الجراح عن طريقة إجراء العملية مادام قد تقيد بالأصول والقواعد العلمية المقررة، ولم يصدر منه أي خطأ، وذلك أيّا كانت نتيجة العملية. وفي مقابل ذلك يسأل الجراح عن الأضرار الناجمة عن العملية الجراحية إذا تجاهل أصول الفن الطبي، من ذلك إهماله في تنظيف الجرح، أو تركه بقايا من الشاش، أو مقص أو غطاء في جوف المريض وترتب على ذلك إصابة المريض بتسمم انتهى به إلى الوفاة.
وفي هذا الشأن قضت المحكمة الاتحادية العليا بتأييد الحكم المطعون فيه الذي أدان طبيباً جراحاً عن جريمة التسبب خطأ في المساس بسلامة جسم المريض على أساس تلوث الجرح بفعل الطبيب، حيث تعامل مع الجرح بكثرة فتحه دون أن يكون ذلك في غرفة معقمة.
وأما فيما يتعلق بترك الجراح بعض الأشياء في جوف المريض، فإن الفقيه الفرنسيMichel Véron يرى بأن القضايا المتعلقة بهذا الموضوع تثير مسألتين مهمتين هما:
أولا - تحديد الجاني المسؤول:
إذا كان اكتشاف شيء في جوف المريض قد سبقه خضوع المريض ليس لعملية واحدة وإنما لعدد من العمليات الجراحية. فهنا يدق على القاضي تحديد المسؤول عن ترك هذا الشيء في بطن المريض، ويساعده في ذلك إسناده هذا الأمر للخبرة الطبية.
ثانياً - إن تحديد الوقت الذي يبدأ منه احتساب مدة تقادم الجريمة يثير مشكلة إذا كان اكتشاف الشيء الذي تم تركه في بطن المريض قد تم بعد مرور عدد من السنوات على إجراء العملية الجراحية، خاصة وأن جريمتي القتل والمساس بسلامة الجسم الخطأ كلاهما جنحة في التشريع الإماراتي المادتان (342) و (343) عقوبات اتحادي، والجنحة تسقط بالتقادم بمرور مدة قصيرة هي ثلاث سنوات من تاريخ ارتكاب الجريمة ( المادة 20/2) قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي.
ولعل ما يحلّ هذه الإشكالية أن احتساب مدة تقادم الجريمة في هذه الحالة يبدأ من التاريخ الذي تكتمل فيه أركان الجريمة وبصفة خاصة تحقق النتيجة الإجرامية أي الضرر وإمكان ملاحظته وذلك مرتبط دون شك باكتشاف الشيء الذي تم نسيانه في جوف المريض.
ويسأل الطبيب جنائياً عن الأخطاء التي يرتكبها بخصوص مراقبة المريض بعد إتمام العملية الجراحية، ذلك أن مراقبة الطبيب المريض ينبغي أن تمتد حتى إفاقة هذه الأخير تماماً من التخدير. وفي هذا فقد أدانت محكمة النقض الفرنسية أحد الجراحين بجريمة المساس بسلامة الجسم الغير العمدي، حيث سمح بوضع زجاجة ماء حار في سرير المريض بعد إجراء العملية الجراحية له، وقبل تمام إفاقته مما سبب له حروقاً في بعض أجزاء جسده. وفي هذا الحكم أوردت محكمة النقض الفرنسية: “أن مراقبة الجراح للمريض تستمر بعد العملية، وأنه إذا جرت العادة على أن يعهد الأطباء إلى الممرضات متابعة العلاج التالي للعملية، إنما يفعلون ذلك متحملين مسؤولية ما ينجم عن ذلك من مخاطر...”.
وأخيراً يسأل الطبيب جنائياً إذا سمح للمريض بالخروج من المستشفى، وكانت حالته تقتضي بقاءه فيها، إلا إذا أصر المريض على الخروج على مسؤوليته الخاصة بعد أن يكون الطبيب قد نبهه إلى آثار هذا المسلك الصحية، عندئذ لا مجال لمساءلة الطبيب.
منقول للأهمية ...