عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 12-09-2006, 11:45 PM   #1
معلومات العضو
أزف الرحيل
إشراقة إدارة متجددة

Thumbs up ( && بيان بالأدلة الشرعية الفرق بين الرقية الشرعية والرقية التجارية && ) !!!

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ..


أما بعد :
فإنَّ مِمَّا أُهْمِلَ نقدُه والنظرُ فيه في وقتنا أخذ الْجُعْل على الرقية الشرعيـة لاَسِيَّما وأنه ظهر وكَـثُر حتى صار حرفةً لِكسب المال بغير حقّ ، كما أنَّ احتراف ذلك هوّن شأن العُصَاة وبغضهم مما لا قوام للدين إلا به ؛ فالراقي يرقي مَن هبَّ ودَبَّ لأنَّ مدارَ القضية على التكسُّب ، وإنَّ ذلك وإنِ اتُّخِذَ عادةً إلاَّ أنَّ الشَّرْعَ حاكم على عوائد الناس وجميع أمورهم .
ونَظراً لأَنَّ موضوعَ التكسُّب بالرقية الشرعية والتلاعب بها قد كثر في زماننا بصورة لَم يحصل لها مثيلٌ مِن قَبْل فقد جاء هذا الكتاب بحمد الله تعالى موضِّحاً خطورة ذلك ومُبيِّناً مظاهرَه وأسبابه وما يتعلق به من مواضيع ، وكاشفاً ما يدور حوله من شُبهات .
ولأَنَّ التكسُّب بالرُّقى ونحوها تكسُّب بذكر الله الذي هو القرآن وغيره فقد كان من المناسب بيان وجوب تعظيم واحترام ذكر الله تعالى وبيان بعض أسباب ومظاهِر الاستهانة به في زماننا مِمَّا كثر بصورة مخيفة لَمْ يحصل مثلها ولا مايُشابهها من قَبل ، وهذا هو موضوع القسم الثاني من الكتاب ؛ واللَّهَ نسأل أن ينفع به المسلمين ، وأن يجعله حُجَّةً لنا لا علينا يوم الدين ؛ والحمد لله ربِّ العالمين .




بيان بالأدلة الشرعية الفرق بين الرقية الشرعية والرقية التجارية:





◙ أحاديث ( اللديغ ) .. والجعالة على شرط الشفاء .
◙ الْمُحترفـون ! .
◙ القرآن والدين ليس حرفة للتكَسُّب ، وأخذ الأجرة على الرقية يورث تمني
مرض المسلمين .
◙ الخلوة بالنساء دون مَحْرَم .
◙ رُقية مَن ظاهره الفجور مِن علامات تلاعب الرقاة ( التجاريين ) بالدِّين .
◙ مِن علاماتِ الرُّقاةِ ( التجاريين ) عدم أمرِ المريضِ بالمعروفِ ونهيهِ عنِ المنكر .
◙ مَوَانع تأثيـر الرقى والأذكار .
◙ إقراراتٌ من كلام ( الجن ) و ( الشياطين ) تبين بعض العقوبات المعجلة على
الذنوب والمعاصي .
◙ مَقمَعَة الشيطان ! .
◙ كَلامٌ غير حضاري ! .
◙ الصَّرْع الأصغر والأكبر ! .
◙ رُقاة مِمَّن هَبَّ ودَبّ ! .
◙ قـُوُت الشيطان في القلب .
◙ حَلُّ السِّحْر بِسِحْرٍ مِثْلِهِ .



بسم الله الرحمن الرحيم

إِحْـذَرْ رُقـاةَ زَمَانِـنَـا إنْ يَطْـلُـبُـوا لَيْسَتْ تَـحِـلُّ لَهُـمْ وَأنْتَ تَظُـنُّـهَـا لاَ تُخْـدَعَـنَّ فَإِنَّـهُـمْ لَيْسُـوا عَـلَـى كَلاَّ وَلاَ الصَّحْـبِ الكِـرَامِ جَمِيـعِـهِـمْ مَـا قَـارِيءٌ جَـعَـلَ القِـرَاءَةَ حِـرْفَـةً لاَ يَسْتَحِـقُّ عَـلَـى القِرَاءَةِ دِرْهَـمـاً مَا هَؤُلاَءِ سِوَى التِّجَارَةِ يَمَّـمُـوا وَبِنَفْخَةٍ كَسَـبُوا الدَّرَاهِمَ دُونَمَا والدِّينُ لَيْسَ بِحِرْفَةٍ وَصِنَاعَـةٍ أَوْرَاقُهُمْ كَتَبُوا بِهَا وَتَعَلَّقَتْ وَتَـرَاهُمُـو فِي نَـفْـثِـهِـمْ وَهَدِيرِهِـمْ وَعيُونُـهُـمْ نَحْـوَ الْجُيُـوبِ تَوَجَّـهَـتْ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمُو : « إلَهِي أَنْزِلَنْ فَيَزِيدَ مَالِـي إذْ سَـعَـيْـتُ بِجَـمْـعِـهِ مَـا حُـجَّـةٌ لِرُقَـاتِـنَـا إنْ جُـوُدِلُـوا مَـا فِـي ( اللَّدِيـغِ ) لَهُمْ دَلِيـلٌ ، إِنَّمَا البَـعْـضُ مُـغْـتَـرٌّ وَذَا تَـنْـبِـيهُـنَـا ظَنَّ الْحَدِيثَ مُسَوِّغـاً أَفْـعَالَـهُ كَلاَّ فَلَيْسَ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ أُنْظُـرْ كِـتَـاباً فِي ( الرُّقَـى ) تَـفْصِيلُـهُ وَالبَـعْضُ يَـرْقِـي كُلَّ مَـن يَـبْـذُل لَـهُ وَالْبَعْـضُ يَـخْـلُـو بِالنِّـسَـاءِ ، وَثَالِثٌ يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ( مُحَمَّدٍ ) . مِنْـكَ الدَّرَاهِـمَ حِـيـلَـةُ الْمُحْـتَـالِ حَـقـًّا لَهُـمْ فَـتَـجُـودُ بِالأمْـوَالِ هَـدْيِ الرَّسُـولِ بِـفَـاسِـدِ الأَحْـوَالِ حَـاشَـاهُـمُـو مِـنْ سَـيِّءِ الأَعْمَـالِ إلاَّ لِـيَرْبَـحَ وَهْوَ كَالْبَـطَّـالِ وَأَرَاكَ تُـعْطِيـهِ بِلاَ إِقْلاَلِ بِوَسِيـلَــةٍ كَوَسَـائِـلِ الأنـْذَالِ تَعَبٍ وَغَرُّوا سَائِرَ الْجُهَّالِ حَـتَّـى يُبَاع كَسَائِـرِ الأشْغَـالِ هِمَمُ الرُّقَاةِ بِصَـفْـقَـةِ الأَمْوَالِ يَـتَـرَّقَّـبُـونَ زِيَادَةً لِـنَـوَالِ يَجْـبُـونَ بِالـنَّـفَـثَـاتِ أَلْـفَ رِيَـالِ مَرَضـاً يَـعُـمُّ لَيَكْـثُـرُوا نُـزَّالِي بِوَسِيلَـةٍ هَانَـتْ عَـلَى أَمْـثَـالِـي » إلاَّ ( اللَّدِيـغُ ) وَخَـيْـبَــةُ الآمَــالِ هُوَ ضِدُّهُـمْ فِي سَائِرِ الأحْوَالِ لِيَتُوبَ عَمَّا سَاءَ مِنْ أَعْمَالِ وَأَحَقُّ أَجْرٍ رُقْيَةٌ بِالْمَالِ وَالظَّنُّ لَيْسَ مُسَوِّغَ الإِضْلاَلِ يَكْفِيكَ لَسْتَ بِحَاجَةٍ لِسُؤَالِ (1) لَوْ كَانَ شِرِّيـراً مِنَ الأنْذَالِ شَيطَـانُ خَـلْـوَتِـهِـمْ وَلَـيْسَ يُبَالِـي مـَادَامَ أَيّـَامٌ وَدَامَ لَـيَـالِـي . ....................................... المؤلـِّف ،،


أحاديـث اللديـغ .. والْـجَـعَـالـة عـلـى شَـرْط الـشـفـاء
إنَّ أعظمَ ما يحتج به مَن جعل ذلك له صنعةً ومَجْلبـةَ مـالٍ لا تَعَب فيه ولا نَصَبَ حديث قصـة " اللديـغ " الذي رُقي بسورة الفاتحـة فشُفـي ، ففي « الصحيحين » عن أبي سعيد الخدري  أن رهطاً من أصحاب رسول الله  انطلقوا في سفْرَةٍ سافروها حتى نزلوا بحيٍّ من أحياء العرب فاستضافوهم ، فأبَوْا أن يضيِّفوهم ، فلَدُغ سيِّد ذلك الحيِّ ، فسعَوْا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : " لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيء " .
فأتوْهم فقالوا : " يا أيها الرهـط .. إنَّ سَيِّدنا لُدِغ فسعَيْنا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فهل عند أحد منكم شيء ؟! " .
فقال بعضهم : ( نعم ، واللهِ إني لَرَاقٍ ، ولكن واللهِ لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً ) ، فصالحوهم على قطيعٍ من الغَنَم ، فانطلق فَجَعَل يتفل ويقرأ :  الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  حتى لكأنما نَشِطَ من عِقَال ، فانطلق يمشي ما به قَلَبَة (1) ، قال : فأوْفوْهُم جُعلَهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله





 فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا ، فَقَدِموا على رسـولِ الله  فذكروا لـه ، فقال : ( وما يُدريك أنها رُقيـة ! ، أصَبتم ، اقسموا ، واضربوا لي معكم بسَهم ) (1) .
وأخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نفراً من أصحاب النبي  مرُّوا بماءٍ فيهم لديغ أو سَلِيم ، فعرَض لهم رجلٌ من أهل المـاء ، فقال : " هل فيكم من راقٍ ، إن في الماء رجلاً لديغـاً أو سليماً ؟! " ، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ ، فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابـه ، فكرهوا ذلك وقالوا : ( أخَـذْتَ على كتابِ اللهِ أجراً ! ) ، حتى قَدِموا " المدينـة " فقالوا : ( يا رسول الله .. أخَذَ على كتاب الله أجراً ! ) ، فقال رسول الله  : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) (2) .
وبعض الناس يفهم أن أخذ الأجر أو الْجُعل على إطلاقه ، وهذا خطأ ظاهـر ، قال شيخ الإسلام ابن تيميـة ~ لَمَّا ذَكَر قولـه  : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) ؛ قال : ( وكان الْجُعْل على عافيةِ مريض القوم لا على التلاوة ) انتهى (3) ، وقـال - أيضاً - : ( فإن الْجُعل كان على الشفاء لا على القراءة ) انتهى (4) ، يعني أن الْجُعْل - وهو الأجرة - إنما هو على شرط

الْمُـحتـرفـون !
أمَّا ما يفعله المحترفون لهذا الأمر في وقتنا فهو خلاف ما تقدَّم بيانه ، فهم يأخذون الأجر على التلاوة ، سواء كان ذلك بمباشرة النَّفْثِ على المريض أو النفث في أدوية يُغالون في ثَمَنِها لأجل نفْثهم وقراءتهم فيها ، فيكون ما زاد على ثمنها الأصلي من أجل ذلك ! ، وقد يكتبون الرُّقَى في قراطيس يبيعونها على المريض بأثمانٍ باهظة ! ؛ وهذا كله وما شابهه لا تدل عليه قصة الحديثين حيث إنَّ الْجُعل يُدفع للراقي بعـد شفـاءِ المريض ، وهذا ظاهر هذه الأحاديث حيث جَرَت الرقية على مقتضى المشارطة على الشفاء ، فأين هذا من فعل هؤلاء الذين يأخذون المال دون شرط الشفاء ؟! ، ولو كانت ريالاً أو ريالين - مثلاً - لَهَانَ الْخَطْب ولكنها أموال باهظة يأخذونها بالباطل ! ؛ وسيأتِي - إن شاء الله تعالَى - بيان أنه لا يُشترط ثَمَن ولا على شرط الشفاء إلاَّ في مثل هذه الحالـة الاستثنائية ، ولذلك لا يُعهد عن الصحابـة  ولا العلماء بعدهم أخذ الأجرة على الرقية بهذه الكيفية التي يفعلها أهل الوقت .
وقد بلغني أن بعضهم يأخـذ ( خمسمائـة ) ريالٍ مقابل ورقة يكتبهـا لا تساوي رُبعَ ريال ! ، وبعضهم يصفّ أوانِي الْمَاء ، ثم ينفخ عليها نفْخةً ، ثم يبيعها بأغلى من ثمنها وكأنه عيسى - عليه السلام - الذي يُبرئ الأكْمَهَ


والأبرصَ - بإذن الله - ! .
وبعضهم قد جعَل لِمَحَلِّه بوَّاباً أجنبياً يأخذ ممن يريد الدخول على هذا الراقي خمسة ريالات ( رَسْم الدخول ! ) ، وهذا ليس أجرة الرقية ، فتلك شيء آخر ! .
وبعضهم يَنفُث في ماء مخلوط بزعفران ، ثم يأتي برزمة أوراق فَـيُدْخِل عُوداً في الزعفران ، فيخط في كل ورقة خطوطاً ليس فيها حرفاً واحداً ويضع الورقة في الظرف ويبيعها وتباع لـه ! ، بل وبعضهم يأتي بورقة طويلة بطول القامة ، ثُم يكتب فيها بعض الآيات ويسميها " البـَدن " ، ثم يجعل قيمتها ثمانمائة وخمسين ريالاً ! ؛ وهذا كله من أكل أموال الناس بالباطل تحيّـلاً بالدِّين بلا شرط على الشفـاء مُسَبَّق - كما في الحديثين المتقدِّمَين - ؛ فتأمَّل ! .


الـقـرآن والـدِّيـن لـيـس حـرفـة للتـكَـسُّـب
وأخـذ الأجـرة عـلى الـرقـيـة يـورث تـمـنـِّي مـرض المـسـلـمـيـن




وليعلم كل مَن جعل القرآن الكريم وعِلم الدِّين حِرْفَـةً له ومصدرَ رِزقٍ أنه مُخَالف لسلف هذه الأمة المقتدى بهم ، لأن قدوتهم في ذلك الأنبيـاء والمرسليـن - عليهم الصلاة والسلام - الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يسألون الناس أجراً على تبليغ دين ربهـم ، ونُصْرَتِه ، ونفعهمُ الناسَ في ذلك ؛ حيث قال - سبحانه وبحمده - على لسان رسوله الكريم ( نـوح ) - عليه السـلام - :  وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ  (1) ، وقال - سبحانـه - على لسان ( هود ) - عليه السلام - :  يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْـراً إِنْ أَجْـرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُـونَ  (2) ، وقال على لسان ( صالح ) - عليه السلام - :  وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ  (3) ، وكذلك قـال على لسان ( لـوط ) (4) و ( شعيب ) (5) - عليهما السلام - ؛


وهكذا جميع رُسُل اللهِ تعالى - عليهم الصلاة والسلام - ، فهم لا يسألون الناس جُعـلاً ولا أجـراً على دعوتهم ونفعهم وإنقاذهم من النـار - بإذن الله - ، بل لا يرجون الثواب والأجر إلا من اللهِ أكرم الأكرمين - سبحانه وبحمده - .
وتأمل ما فعَلَه العبد الصالح ( حَبيب النجار ) حينما جاء من أقصى بلده يشتد في السعي نحو قومه يدعوهم إلى اتباع مَن لا يسألهم جُعلاً ولا أجراً - وهم رُسُل الله - حيث قال الله - تبارك وتعالى - عنه :  وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۞ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ  (1) .
وقال ابن كثير ~ على قول الله تعالى :  أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ  (2) ، قال : ( قال « الْحَسَن » " أجراً " ، وقـال « قتادة » " جُعْلاً " ،  فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ  أي أنت لا تسألهم أُجرةً ولا جُعْلاً ولا شيئـاً على دعوتك إياهم إلى الهـدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه كما قال :  قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ  (3) ، وقال :  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ  (4) ) انتهى (5) ؛ فهذه هي حال الأنبياء والمرسلين في خدمتهم الدِّين ودعوتهم إليه حيث لايبتغون على ذلك الأجرَ إلاَّ من الله - تعالى - ، لكن انظر اليوم إلى الدِّين وقد اتُّخِذ حِرفةً وتجارة في كل المجالات ، حيث أصبح طَلَب العلم والإمامة والأذان والرقيـة وغير ذلك من أكبر ما يتنافس فيه المتنافسون اليوم لطلب الدنيا والحصول على المال ! .
وقد جاء في الحديث الصحيح الوعيد الشديد فيمن طَلَب العلمَ للدنيا بأنه لَم يَجِد ريحَ الجنةِ يوم القيامة فضلاً عن أن يدخلها ! ، فَعَن « أبي هريرة »  أنَّ رسول الله  قـال : ( مَن تعلَّم عِلْماً مِمَّـا يُبتَغَى به وَجهُ اللهِ - عزَّ وَجَلَّ - لاَ يَتعلمه إلاَّ ليصِيبَ به عَرَضاً من الدنيا لَمْ يجد عُرْفَ الجنةِ يوم القيامة - يعني ريحها - ) (1) .
وكذلك الأذان حيث جاء النهيُ عن اتخـاذ مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً ، فعَن « عثمان بن أبي العاص »  قال : قلت : " يا رسول الله .. علِّمني القرآنَ واجعلني إمامَ قومي " ؛ قال : فقال  : ( أنتَ إمامهم واقتدِ بأضعفهم ، واتَّخِذ مُؤَذِّناً لاَ يأخُذ على أذانه أجراً ) (2) .
وفي رواية أخرى عن « عثمان بن أبي العاص » أنه قال : ( إنَّ آخر ما عَهِد إلينا رسول الله  أنْ أتَّخِذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجْراً ) (1) .
فإذا كان هذا في الأذان فما بالك بالإمامة حيث هي أولى بالتحذير من أن يُتخذ عليها أجراً ! .
وقد قال أمير المؤمنين في الحديث « سفيان الثوري » (2) لرجل ضَرِير كان يجالسه فإذا كان شهر رمضان يخرج إلى " السَّواد " فيصلي بالناس ، فَـيُكْسَى ويُعْطَى ، فقال سُفيان : ( إذا كان يوم القيامة أُثِيبَ أهلُ القرآنِ مِن قراءتهم ، ويُقال لِمِثْل هذا : " قد تعجَّلت ثوابك في الدنيا " ) ، فقال : يا أبا عبد الله .. تقول لي هذا وأنا جليسك ؟! ، فقال « سفيان » : ( أخاف أن يقال لي يوم القيامة كان هذا جليسك أفَلاَ نَصَحتَه ؟! ) انتهى (3) .
إنَّ الفاسق وحتى الكافر إذا رأى مَن يتديَّن وقد اتخذ الدِّينَ بضاعةً وتجارةً
وحِرْفةً - كما هو حاصل اليوم في كل المجالات ؛ لكن الكلام هنا على التكسب بالرقى- فإنه يظن أنَّ هؤلاء يمثلون حقيقة الدين ، وأن السلف على هذه السيرة ؛ فقد يزهد فيه أو يقتدي بهؤلاء فيسلك طريقَ كَسْبِ الدنيا بالدين بلا عناءٍ كَمَا قال أبو سفيان « صالح بن مهران » ~ : ( وضَعوا مفاتيحَ الدنيا على الدنيا فلم تنفتح ، فوضعوا عليها مفاتيح الآخرة فانفتَحَت ! ) (1) .
وقد سُئل « عبدُ الله بن المبارك » عن سَفَلة الناس ؟! ، فقال : ( الذي يأكل بدِينِه ! ) (2) .
وقال « سفيان الثوري » ~ : ( إنَّ أقبحَ الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة ) انتهى (3) .
ولا شك أنه من الإساءة للدِّين وتشويه حُسْنِهِ وجَمَالِهِ أنْ يكون وسيلةً للتعـيُّش والكسُّب ، وإنما منَّ الله على عبادِهِ بإنزال هذا القرآن والحكمة غذاءً للقلوب ونعيماً للأرواح وليسعد المهتدي بذلك في الدنيا بالحياة الطبية ، قال تعالى :  فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  (4) ، وفي الآخرة رضوان الله والنعيم المقيم .
ومع هذا فأخْذ الأجرة على الرقية بشرط الشفاء يعني أن لا يأخذ شيئاً إلاَّ إذا شُفِيَ المريض أو المصروع ، ولا يكون ذلك حِرفةً وتكسُّباً - كما يُفعل في وقتنا - ، ولا بهذا التخليط والتلاعب الحاصل في كل بلد ، فهذا أهون .
فمثلاً لو أُعطي شيئاً بعد الشفاء بلا استشْراف نَفْس ولَم يكن قد اتخذ ذلك حرفةً ومصدرَ رِزقٍ فهذا شيءٌ آخر ، لكن الذي كَـثُر في وقتنا في كلّ بَلَدٍ مِمَّن هَبَّ ودَبَّ ليس كذلك ، فهذا التفصيل يزيل الإشكال .
ولَمَّا صارَت الرقية في زماننا حِرفةَ تكسُّبٍ كثُر الرقاة ممن لا ينتقدون أنفسهم وأنهم ليسوا بأهلٍ لذلك ، ولَم يكن يرقي في الماضي إلاَّ مَن هم أهل لذلك من أهل الدِّين والصَّلاح .
وهناك مَن يرقي ولا يأخذ على الرقية أجراً ولكنه لا يفرِّق فَرْقاً دينياً بين الْمُطِيع لله والعاصي ، فيسأل اللـهَ الشفاءَ للكلِّ ! ، مع أنَّ هذا يستعمل صحة بدنه بطاعة ربه ، والأخر يستعمل ذلك بطاعة الشيطان ؛ فهذه إعانة للعاصي على معصيته وإن لَم يشعر الراقي ، فأين المعاداة في الله ؟! .
وهذا التكسُّب والتحيُّل لَم يكن معروفاً إلاَّ في وقتنا هذا لَمَّا صار الدِّين حِرفةً في الصلاة والأذان والتعليم ، وغير ذلك ! .
مسألة مهمة حول أحاديث اللديغ ، وأخذ الأجرة على تغسيل الموتى :
ومعلومٌ أن المريضَ أو مَن يقوم عليه يتشبث بأيِّ شيء يظن فيه شفاءه فيبذل ما يُطلب منه ولو كان فقيراً ، وهذا هو الحاصل ، وقد نُزِعَت - والعياذ بالله - الرحمةُ والشفقةُ من قلوب بعضهم على المسلمين حتى إنه يتمنى أن تكثر الأمراض فيهم ليزداد ربحه ويفرح بكثرة الزبائن ! ، فتبين بما تقدم أنه على تقدير أخذ مقابل للرقية فيكون هذا عن مشارطة مُسَبَّقة على الشفاء ، فالأحاديث التي يحتجون بها حجة عليهم ، وقد تقدم ذكرها في أول الكتـاب ، وهي أحاديث « اللَّدِيغ » ، وإنما جعل الله ذلك للصحابة سبباً لأخذ حقهم من القِرَى الذي منعه هؤلاء اللئام ، فالأصل عدم أخذ أجرة على الرقية حتى مع حصول الشفاء - بإذن الله - ، لأن ذلك قُربة لله ، وهو من حق المسلم على أخيه المسلم ، فهو من أعمال البِرِّ كتغسيل الميت - مَثَـلاً - .
قال أبو طالب : سألتُ أبا عبد الله « يعني الإمام أحمد بن حنبل » عن الرجل يغسِّل الميت بِكِراء ؟! - أي بأُجْرَة - ، فقال : ( بِكراءٍ !! ) ، واستعظم ذلك ، قلتُ : يقول : " أنا فقير " ؛ فقال : ( هذا كَسْب سُوء ! ) ؛ قال ابن تيميه - معلقاً على ذلك - : ( وَوَجْه هذا أنَّ تغسيل الموتى من أعمال البِرِّ ، والتكسُّب بذلك يُورِث تَمَنِّي موت المسلمين ! ، فيشبه الاحتكار ) انتهى (1) .
فأخْذُ الأجرة على الرقية بشرط الشفاء هو من هذا الباب ، لأن التكسُّب بذلك يُورث تَمَنيِّ مرض المسلمين وصرْعِهم ، بل الرقية أعظم لأنها أخذ ثمن على القرآن والذكر ، وقد ورد النهي عن ذلك عموماً - كما تقدَّم ذِكرُ الأدلةِ في ذلك - ، وقد قال « مُطرف بن عبد الله » ~ : ( إنَّ أقبحَ ما طُلبت به الدنيا عمل الآخرة ) انتهى (2) .
وإذا كان أخذ الأجرِ على شَرْط الشفاء هكذا ، فكيف بما يُفعل اليوم من التكسُّب والمتاجرة دون شرط الشفاء ! .
أما الصحابة  فحاشاهم من مثل هذه الأفعال ولا بشرط الشفاء فضلاً عن مثل ما يُفعل في زماننا .
أمَّا قصة الرقية بالفاتحة على « اللديغ » فهي موضَّحة في الحديث حيث قال أحد الصحابة لَمَّا طلبوا منهم الرقية ، قال : ( نَعَم واللهِ إنِّي لأَرْقِي ، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا بِرَاقٍ حتى تجعلوا لنا جُعْلاً ) ، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم (1) .
فقوله : ( ولكن استضفناكم فلم تضيفونا ) يُبين عِلَّةَ أخْذِ الْجُعل ، ومعناه أنكم لِئام ولكن الله سَـيُخرج حقنا منكم بتسليط العقرب على سيدكم ؛ وقد ذكر ابن القيم ~ أنهم غير مسلمين ، أو أهلُ بُخلٍ ولُؤم (2) .
ففي القصة عِلَّة وسَبب أخْذِ الأجرة ؛ وفيها بيانُ شرط الشفاء حيث قال : ( فانطلق يمشي وما به قلَبَة ) ، قال : ( فأوْفَوْهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه ) ؛ وفيها - أيضاً - أنه من الْمُتقرِّر عند الصحابة  أنـه لا تؤخذ أجرة على الرقية ، لذلك عَلَّلوُا أخذَ الأجرة بأنهم لَم يُضيفوهم .
يوضِّح ذلك - أيضاً - ما جاء في « الصحيحين » من حديث « عقبة بن عامر »  قال : قلتُ للنبي  : إنك تبعثنا فننْزِل بقومٍ فلا يُقْرُوننا - أيْ يُضيِّفوننا - ، فما ترى ؟! ؛ فقال لنا رسول الله  : ( إنْ نزلتم بقومٍ فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف فاقْبَلوا ، فإن لَم يفعلوا فَخُذوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم ) (1) ؛ وقد أخرجه « أبو داود » (2) وقال : ( وهذه حُجة للرجُل يأخذ الشيءَ إذا كان له حَقاً ) انتهى ؛ فكل ما ورد في حديث الرقية الذي يحتج به أكَلَةُ أموالِ الناسِ بالباطل حجة عليهم .
فكيف يَحتجّ أهلُ الوقتِ على ما هو حجة عليهم ؟! ، ولذلك فلا يُعهد عن الصحابة  أخْذ الأجرة على الرقية ولا بشرط الشفاء غير هذه الحالة الاستثنائية ؛ فتأمَّل .
ولهذا فلم يكن أخذ الأجرة على الرقية حِرْفَـةً لهم ولا للتابعين ولا لِمَن يُعتدّ بهم من الأئمة والعلماء بعدهم ، وإنما المعروف عنهم أنهم يَرْقون مَن طلب منهم ذلك من إخوانهم الصالحين دون ثَمَن ، لأنَّ النبي  يقول في شأن الرقية : ( مَنِ استطاعَ منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) حيث أخرج مسلمٌ (3) وغيره (4) عن « جابر بن عبد الله »  قال : كان لي خال يرقى من العقرب ، فنهى رسول الله  عن الرُّقى ، قال : فأتاه ، فقال : يا رسول الله .. إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب ، فقال  : ( مَنِ استطاع منكم أنْ ينفعَ أخاه فليفعل ) .
وحيث إنه قد تبين أن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من الأئمة والعلماء لَم يكونوا يأخذون أجرةً على دينهم ونفعهم الناس اقتداءً منهم بأنبياء الله تعالى ورُسُله - عليهم الصلاة والسلام - ، فكذلك يجب على الرُّقاة المعالجين بكتاب الله - تعالى - وغيرهم أن لا يتاجروا بدِينه - سبحانه - ويشتروا به ثمناً قليلاً كما يفعله كثير منهم اليوم بالرقية على مَن هبَّ ودبَّ وأخْذ الأجرة على ذلك .
زيـادة توضيح وبيـان لِما تقـدم ذِكره من قول النبي  : ( إنَّ أحـقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) :
لقد قال النبي  ذلك حينما أخبره أولئك الصحابة  بِمَا جرى مِن مُشَارَطَتِهم للقوم على شِفاء سيِّدِهم ، وليس هذا مُطْلقاً ، بل هو بيانٌ لِهذا الحاصل بخصوصه .
ويوضِّح ذلك توقُّفُهم عن قسمة الْجُعْل وارتيابهم مِمَّا حصَل حيث قالوا لصاحبهم : ( أخَذْتَ على كتابِ الله أجْـراً ! ) ؛ فالْمُتقرِّر عندهم  أنه لا يُؤْخَذ على كتاب الله أجراً ، وإنما أخبرهم النبي  أنَّ ذلك حَلاَلٌ لهم بهذه المشارطة وحصول الشفاء ، وقد حصَل .
فهي إذاً مسألة عينية خاصَّة ، وإلا فلو كان ذلك عامًّا لفعَلَه الصحابة والسلف بل ولتنافسوا عليه لأنَّ صورةَ كلامِهِ  لو كانَ عامًّا مُطْلقاً لكان معناه الإغراء والمدح لأخْذِ الأجرة على كتاب الله تعالى ؛ ولو أخَذْنا بفهم البعض للحديث بأنه عامٌّ مُطلَق لأصبح كتاب الله - عزَّ وَجَلَّ- بضاعةً وحِرفةً للتكسُّب - والعياذ بالله - ، وهذا خِلاف ما أُنزل من أجله وهو أن يهتدي به الناس إلى الله تعالى والـدَّار الآخرة لأنه شِفـاء للقلوب بالقصد الأول ، وشفاءٌ - أيضاً - للأبدان بغير أجْرة ولا أثمان .
وقد تقدم بيان ذلك .
كَمَا تقدم قول النبي  لـ « عثمان بن أبي العاص »  : ( واتَّخِذ مؤذناً لاَ يأخذ على أذانه أجراً ) ، فإذا كانَ هذا في الأذان - وهو أقلُّ شأناً من القرآن - فما بَالُكَ بِشَنَاعة الْمُتَاجَرة بالقرآن وأخْذِ الأُجْرة عليه ؟! .
وإذا كان « الفُضَيل بن عِياض » ~ لَمَّا رأى من بعض التابعين كثرةَ تلاوة القرآن قال : ( إنَّما نزَل القرآن لِـيُعمل به فاتَّخذتم تلاوته عَمَلاً ) فقيل له : كيف العمل بـه ؟! ؛ فقال : ( لِيحلُّوا حلالَه ، ويُحرِّموا حرامه ، ويأتمروا بأوامره ، وينتهوا عن نواهيـه ، ويقفوا عند عجائبه ) انتهى (1) ، فهو ~ خاف انصراف الهِمَم إلى كثرة التلاوة مع التهاون بالعمـل ، فكيف إذاً لو رأى المحترفين بالقرآن في وقتِنا المتاجرين به ؟! .
ومُلخَّص المسألة أنَّ مَن جعَل قول النبي  : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) عامًّا مُطْلَقـاً فإنه مُخَالِف لِمُراد الله من إنزال القرآن ، ومُحتـال بالدِّين على الدنيـا ، وصارف مرادَ رسول الله  لِهَواهُ ومُـراده - والعياذ بالله - .

الـخـلـوة بالـنـسـاء دون مَـحْـرَم

وبعضُ هـؤلاءِ الرُّقـاة يَخلو بالمـرأة دُونَ مَحْـرَمٍ ، فهؤلاء يزيدون العِلّـَة ! .
ولقد أصبحنا نسمع عن بعضهم شيئاً مُخيفاً ، حيث ذُكِر لنا عن بعضهم بأنه يتلمَّس أثداء المرأة وحتى فرْجها بدعوى رقية الألَم وملاحقة الجانِّ ! ، بل إنَّ بعضَ النساء تتحدَّث بأن ذلك جرى معها وتشكو منه ؛ وهذا واللهِ مُنكَرٌ فظيع ، ومَن يفعله فلا شك في خُبثه وسوء طويته .
وقد جاء في « الصحيحين » عن « عبد الله بن عباس »  أنه سمع النبِيَّ  يخطب .. يقول : ( لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ إلاَّ ومعها ذو مَحْرم ، ولاَ تسافر المرأة إلاَّ مَع ذي مَحْـرَم ) ، فقام رجلٌ فقال : يا رسول الله .. إنَّ امرأتي خَرجَت حاجَّة ، وأني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال  : ( انطَلِق فَحُجَّ مع امرأتك ) (1) .
وفي « الصحيحين » - أيضاً - عن « عقبة بن عامر »  أنَّ رسول الله  قال : ( إياكُمْ والدخول على النسـاء ) ، فقال رجل من الأنصـار : يا رسول الله ، أفَرَأيت الحمو ؟! ) ، فقال النبي  : ( الحمو : الموت ! ) (1) ؛ قال « النـَّووي » : ( [ الحمُو ] قريب الزوْج كأخِيه وابنِ أخيهِ وابنِ عَمِّهِ ) انتهى (2) .
وذكَر ~ في معنى ذلك بـ ( أنَّ الخوفَ منه أكثر من غيـره ، والشرّ يُتوقع منه ، والفتنة أكثر ، لتمكُّنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن يُنكر عليه بخلاف الأجنبِى ) انتهى (3) .
وكذلك الأمر بالنسبة للراقي فإنَّ الخوفَ منه أكثر من غيره ، والشرّ يُتوقع منه ، والفتنة أكثر ، لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن يُنكَر عليه لأنه محل ثقة الناس كونه متديِّناً يرقي بكتاب الله - تعالى - .
وعلى ذلك فليحذر الراقي من الخلوة بالمرأة الأجنبية ، ولتحذر المرأة من ذلك ، وليحذر أهلها من أن يتركوها من غير مَحْرم عند الرجل الأجنبي مهما بلغ دِينه فإنَّ الشيطان  يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ  (4) ، ولا شيء عنده أفضل مِن أنْ يَخلو الرجلُ بامرأة من غير ذي محرم ، وقد جاء في الحديث الصحيح عن « عُمر بن الخطاب »  أنَّ رسول الله  قال : ( ولاَ يَخْلُوَنَّ أحدكم بامرأةٍ فإنَّ الشيطان ثالثهما ، ألاَ ومَن كانَ منكم تسوءُه سيئته أو تسرُّه حسنته فهو مؤمن ) (1) .
وقال « محمد بن يحي الكمال » : قلتُ لأبي عبد الله (2) : أرى الرجـلَ السُّوءِ مع المـرأة ؟! ، فقال : ( صِحْ بـه ! ) (3) .
وقد مَنَع أميرُ المؤمنين « عمر بن الخطاب »  النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق (4) .
وقال الإمام ابن القيم ~ : ( ولاَ رَيب أنَّ تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كلِّ بلية وشرّ ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة .
واختلاطُ الرجالِ بالنساءِ سببٌ لكثرة الفواحش والزنا ، وهو من أسباب الموت العامِّ والطَّوَاعيـن الْمُتصلة ، ولَمَّا اختلط البغايـا بعسكر « موسى » وفشَت فيهم الفاحشة أرسلَ الله عليهم الطاعون ، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً ، - والقصة مشهورة في كتُب التفاسير (1) - .
فمِن أعظمِ أسبابِ الموت العـام كثرة الزِّنـا بسبب تمكين النسـاء من اختلاطهنَّ بالرجـال والمشي بينهم متبرجـاتٍ متجملاَّتٍ ، ولو علم أوليـاء الأمـر ما في ذلك من فساد الدنيـا والرعيـة قبل الدِّين لكانوا أشـدّ شيء مَنْعـاً لذلك ) (2) .

رُقـيـة مَـن ظـاهـره الـفـجـور
مِـن عـلامـاتِ تـلاعـبِ الـرقـاةِ التجـاريـيـن بـالـدِّيـن


وكثيِرٌ من أولئك الذين يرقون الناس في زماننا يسألون الله الشفاء لِمَن يأتي عندهم من مرضى الأبدان ممن ظاهره المعاصي ، ولَم يكن السلف يفعلون ذلك لأنهم يحبون في الله ويبغضون فيه ، وقد قال « يوسف بن أسباط » ~ : ( مَن دَعَا لظالِمٍ بطول البقاء فقد أحَبَّ أن يُعصى الله ! ) انتهى (1) ، وقاله - أيضاً - « سفيان الثوري » ~ (2) ، والسلف - رحمهم الله ورضي عنهم - إذ لَم يفعلوا ذلك لعلمهم بأن المعاداة تنفرط بالدعاء للفجرة بشفاء أبدانهم التي يعصون الله بها .
ولو كان أولئك الرُّقاة أهلَ نُصحٍ وشفقةٍ على المسلمين لبادروا الفاسقَ بالنصيحةِ بأن يقولوا لـه - حتى لو كان فيه أشدّ الأمراض ! - : " مرضُ قلبك أشدّ مِمَّا تعانِي من مرَض جسمك ، لأنه بقدْرِ معصيتك لربك يكون مرض قلبك ، وقد يكون ميتاً وأنت لا تشعر ، وليس معنى موته أو ضعفـه أنه لا يعمل عمله المعروف من حركتـه لانتشار الدم في الجسـم ، وإنما كما قال الله تعالى :  كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  (1) ، وقال سبحانه :  فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ  (2) ، وقال تعالى :  فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ  (3) ، وقال تعالى :  أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا  (4) ، ونحو ذلك مما يبين أنَّ المرض الحقيقي هو مرض الذنوب الذي عاقبته النار وسخط الجبـار " ، وإذا نصحوه قالوا لـه : " اذهب الآن ، فإن عَلِمنا توبتَك حقيقةً مما أنت متلطخ فيه رقيناك ، والشفاء من الله ، ولا نريد منك شيئاً " .
وهذا مِن حَقِّ المسلم على إخوانه .
والفصل التالي يبين أهمية ذلك - إن شاء الله - :

مِـن عـلاَمـاتِ الـرُّقـاة الـتـجـاريِّـيـن عـدم أمـرِ
المـريـضِ بالمـعـروفِ ونـهْـيـهِ عـنِ المـنـكـر


وإنَّ مِن علاماتِ الرُّقاة التجاريين عدم نصيحة المريض وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حيث إنهم يخشَوْن ذَهَابَه عنهم فتبُور تجارتهم وتقِلّ مكاسِبُهم ! .
وتأمل كلامَ ابن عقيل ~ عن أهميـة الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر والتناصح حيث قال في كتابه ( الفنون ) : ( مِن أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديـان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح ، فهذا أشق ما تَحَمَّله الْمُكلَّف ; لأنه مقام الرسل , حيث يثقل صاحبه على الطِّباع وتنفر منه نفوس أهل اللَّذات , ويمقته أهلُ الخلاعـة , وهو إحياء للسُّنن , وإماتة للبدع (1) ) .
إلى أن قـال : ( لو سكت الْمُحِقُّون ونطق الْمُبطلـون لتعـوَّدَ النَّشْءُ ما شاهـدوا , وأنكروا ما لَم يشاهدوا , فمتى رام المتدين إحياء سُنة أنكرَها الناسُ وظنوها بدعة ! , ولقد رأينا ذلك ) انتهى (1) .
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لوْ لَم يتركه الناس :
وكثيرٌ من الناس اليوم حينما غَشَت المنكرات الأرض وصار بعضُها جُزءاً من حياة الناس حتى تبَلَّدت الأحاسيس بكثرة ملامستها غضوا الطَّرْف عن إنكارها بدعوى أنها بعيدة الزوال وأن الناس لن يتركوها ؛ وهذا خطأ فاحش ، قال شيخ الإسـلام ابن تيميـة ~ : ( ثُم لو فُرِض أنـَّا عَلِمْنـا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لَم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة وبيان العلم ، بل ذلك لا يُسقط وجوبَ الإبلاغِ ولا وجوبَ الأمرِ والنهي في إحدى الروايتين عن « أحمد » وقول كَثِيرٍ من أهل العلم ) انتهى (2) .
وقد جاء عن « الحسن البصري » ~ أنه قال عند قول الله - تعالى - :  وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ  (3) ، قال : ( وكيف عَفَا عنهم وقد قُتِل منهم سَبعون ، وقُتِل عَمُّ رسُولِ اللهِ  وكُسِرَت رباعيتُه وشُجّ في وَجهِهِ  ، قال : ثم يقول : قال الله - عز وجل - : « قد عفوتُ عنكم إذْ عصيتموني أن لاَ أكونَ استأصلتكم ! » ) .
ثم يقول الحسَن : ( هؤلاء مع رسول الله  وفي سبيل الله غِضَابٌ لله يُقاتلون أعداءَ الله ، نُهُوا عن شيءٍ فَصَنعوه فوالله ما تُرِكُوا حتى غموا بهذا الغَمّ ، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كلِّ كبيرةٍ ويركب كل داهيةٍ ويسحب عليها ثيابه ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم ! ) انتهى (1) .
أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من تارك « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » ! :
وما يُؤَمِّن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون شَرًّا من أهل المعاصي الظاهرة .
قال ابن القيم ~ : ( وقد غَرَّ إبليسُ أكثرَ الخلْـقِ بأنْ حَسَّن لَهُم القيـامَ بنوعٍ من الذِّكر ، والقراءة ، والصلاة ، والصيام ، والزهد في الدنيا ، والانقطاع ، وعطَّلوا هذه العبوديات (2) ؛ فلم يُحدِّثوا قلوبَهم بالقيام بها ؛ وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً ، فإن الدِّين هو القيام لله بما أمر به ، فتارِك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله  من مرتكب المعاصي ، فإن ترْك الأمر أعظم من ارتكاب النهي ، من أكثر من ثلاثين وجهاً ذَكَرَها شيخُنا (1) ~ ) انتهى (2) .
وقال - أيضاً - : ( وليس الدِّين مجرد ترك المحرمات الظاهرة ، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله ، وأكثر الدَّينين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس .
وأما الجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والنصحية لله ورسوله وعباده ، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه ؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها وفضلاً عن أن يفعلوها .
وأقل الناس دِيناً وأمقتهم عند الله مَن تَرَك هذه الواجبات وإنْ زَهِد في الدنيا جميعِهَا ! ؛ وقَلَّ أنْ ترى منهم مَن يَحمَرّ وجهه ويُمَعِّره لله ويغضب لِحُرُماته ويبذل عرضه في نصر دينه ، وأصحاب الكبائر أحسَن حالاً عند الله مِن هؤلاء ! ) انتهى (3) .
قال الشيـخ « حمد بن عتيـق » ~ عند ذِكر كلام ابن القيم هـذا : ( إنَّ الْمُداهِـن الطالب رِضَا الخلْـق أخبث حـالاً من الزَّانِي والسَّارق والشَّـارب (4) ! ) انتهى (5) .
وقال ~ : ( وقد حَدَّث مَن لا يُتهم عن شيخ الإسـلام « محمّد بن عبد الوهاب » ~ أنه قال مرة : " أرى أناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون ، فإذا رأوْا المعروفَ لَمْ يأمروا به ، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه ، وأرى أناساً يعكفون عندهم يقولون : [ هؤلاء لِحَى غَوَانِم ] وأنا أقول : إنهم لِحى فواين ! (1) " ؛ فقال السامع : [ أنا لا أقدر أقول : إنهم لِحَى فواين ! ] ، فقال الشيخ : " إنهم مِن العُمْيِ الـبُكْم ! " ) انتهى (2) .
وعن « مِسْعَر بن كدام » ~ أنه قال : بَلَغني أن الله - تعالى - أمر مَلَكاً من الملائكـة أن يخسف بقريـة فقال : " يا ربّ إنَّ فيهم فلاناً العابد الزاهد " ، فأوحى الله - عزَّ وَجَلَّ - إليـه : ( أنْ بِـهِ فابْـدَأ ، فإنه لَمْ يتمعَّرْ وَجهُهُ فِيَّ سَاعة قَط ! ) (3) .
وعن « جرير بن عبد الله البجَلي »  قال : قال رسـول الله  : ( ما مِنْ قومٍ يكون بين أظهرهم مَن يعمل بالمعاصي هُمْ أعزُّ منه وأمْنع لَم يُغيِّروا عليه إلا أصابهم الله - عزَّ وَجَلَّ - منه بعقاب ) أخرجه الإمام أحمد (4) .
وفي لفظِ أبي داود (5) مِن حديثِ « جَرِيرٍ » - أيضاً - أن النبي  قال : ( ما مِن رَجُلٍ يكون في قومٍ يعملُ فيهم بالمعاصي يقدِرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذابٍ من قبل أن يموتوا ) .
وقام أبو بكرٍ  ، فحَمِـدَ الله - عزَّ وَجل - وأثنى عليه ، ثم قال : « يا أيها الناس .. إنكم تقرؤون هذه الآية :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُـوا عَلَيْكُـمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  (1) ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله  يقول : ( إنَّ النـاسَ إذا رأوا المنكـرَ ولَمْ يُغَيروه أوشك الله - عزَّ وَجل - أنْ يعمهم بعقابه ) » أخرجه أحمد (2) وغيره (3) .
وجـاء عن عليّ بن أبي طالبٍ  أنه خَطَب في النـاس ، فحَمِد الله وأثنى عليه ، ثم قـال : ( يا أيها الناس .. إنما هلَكَ مَن كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولَم ينههم الربانيون والأحبار ، فلمَّا تمادوْا أخذتهم العقوبات ؛ فأْمُروا بالمعروف وانْهَوْا عن المنكر قبل أن ينـزل بكم الذي نزَل بهم ، واعلموا أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يَقطع رزقاً ولا يُقرب أجلاً ) انتهى (4) .
وقد جاء عن « عائشة » - رضي الله عنها- أنها قالت : ( غشيتكم السَّكْرتان : سَكْرَة حبِّ العيش ، وَسَكْرَة الجهل ؛ فعند ذلك لا تأمرون بمعروف ولا تنهون عن منكر ! ، والقائمون بالكتاب والسُّنة كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ) انتهى (1) .
وعن « مالك بن دينـار » ~ أنه قال : ( اصطلحنا على حُبِّ الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً ، ولا يَذَرنا الله على هذا ؛ فليت شعري أيُّ عذاب ينْزِل ! ) انتهى (2) .
وقال ابنُ الـنَّحَّاس على قوله - تعالى - :  لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ  (3) ، قال : ( دلَّت الآية على أنَّ تاركَ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عنِ المنكرِ كمُرتكبِه ! ، والآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما قاله القرطبي (4) - ، وتاللهِ إنهم لَأَهلٌ لكلِّ توبيخٍ فأنى يَصلُح الناسُ والعلماء فاسدون ؟! ، أم كيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين والعلماء بأفعالهم وأقوالهم لم ينهوهم عنهـا ؟! ، أم كيف يرغب في الطاعـة والعلمـاء لا يأتونها ؟! ، أم كيف يتركون البدعَ والعلمـاءُ يرونها فلا ينكرونها ؟! - إلى أن قال - : وأما في زماننا هذا فقد قـيَّد الطمع ألسن العلماء فسكتوا إذْ لَم تساعد أقوالهم أفعالهـم ،  فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ  (1) ، فإذا نظَرنا إلى فسادِ الرعية وجدنا سببه فساد الملوك ، وإذا نظرْنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء والصالحين ، وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين وجدنا سببه ما استولى عليهم من حبِّ المالِ والجاهِ وانتشارِ الصِّيِتِ ونَفَاذِ الكلمة ومداهنة المخلوقين وفساد النيات والأقوال والأفعال ) انتهى (2) .
وعن « أبي عبد الرحمن العمري » ~ أنه قال : ( إنَّ مِن غَفْلتك عن نفْسك إعراضك عن الله بأنْ ترى ما يُسخطه فتجاوزه ولا تأمرْ ولا تنهي خوفاً مِمَّن لا يَمْلِك ضَرًّا ولا نَفْعاً ) ؛ وَ ( مَن تَرَك الأمرَ بالمعروف والنهيَ عنِ المنكر مِن مَخَافةِ المخلوقين نُزِعت منه هيبةُ الطاعـةِ ، فلَو أمَرَ بعضَ ولَدِهِ أو بعضَ مواليهِ لاسْتخَفَّ به ! ) انتهى (3) .
وقال الإمام ابن القيم ~ : ( وأيُّ دِينٍ ، وأيُّ خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك ، وحدوده تُضيَّع ، ودينه يُترك ، وسُنة رسوله  يُرغب عنها ؛ وهو بارِد القلب ، ساكت اللسان ، شيطان أخرس ، كما أنَّ المتكلم بالباطل شيطان ناطق ؛ وهل بَلِيَّة الدِّين إلا مِن هؤلاء الذين إذا سَلِمَتْ لَهُم مآكِلُهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدِّين ! ، وخيارهم المتحزِّن الْمُتَلَمِّظ ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه ، في جاهه أو ماله ، بذَلَ وتبذَّل ، وجدَّ واجتهد ، واستعمل مراتبَ الإنكارِ الثلاثة بحسب وُسْعه ، وهؤلاء مَع سقوطهم من عيـن الله ومَقْت الله لهم ، قد بُلوا في الدنيـا بأعظم بليـةٍ تكون - وهم لا يشعرون - وهو موت القلوب ! ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم ، كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل ) انتهى (1) .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ، والخطاب في ذلك من الرب - عزَّ وَجَل - ومن نبيه  عام لجميع المسلمين ، والموفَّق مَنِ استجاب لربه - تعالى - ولنبيه  .
فالْمُتعيِّن على المسلمين اليوم لدفع البلاء الذي نخشى أنها قد انعقدت أسبابه القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومع أنَّ في ذلك اندفاع العقوبات والبلاء عن المسلمين ففيه - أيضاً - استجلاب النعماء لهم التي هي على الحقيقة استعلاء الدِّين ونصره الذي تكفَّل به الولي النصير - سبحانه وبحمده - لِمن نصر دينه .
لقد كان المسلمون فيما مضى يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بصدق وعزيمة واهتمام ، ويدْعُـون إلى الله - تعالى - ، ويُخَوِّفون من حلول النقمات والعقوبات الدنيوية والأخرويـة ، مع أنه لا نسبة لِمُنكراتِ أزمانهم لِمَا نحن فيه اليوم ؛ لأن المجاهرة بالمنكرات في زماننا لَم يحدث لها نظير ، وشؤمها عظيمٌ خطير ، وقد قال رسول الله  : ( كل أُمَّتي مُعافَى إلاَّ الْمُجَاهِرِين ) (1) .
ومع ما غَشَى الأرضَ اليوم من ظُلُماتِ المنكراتِ إلاَّ أنه يجب أن لا نقنط ولا نيأس من ثمرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل لو امتثلنا أمر الله تعالى وقمنا بهذه الشعيرة العظيمة فكم من مُنكر سيزول ! ، وكم مِمَّن سوف يشارك ولم يكن له من قبل في هذا الأمر نصيب ! ، وذلك ببركة امتثال أمر الله - عزَّ وجل - بالقيام بذلك عَمَلاً إذْ لا يكفي الكلام في المساجد والملتقيات .
وإنه لاَ يَسعنا أمام الله إلا أن يكون هذا الأمر أكبر همنا لنستدعي بذلك رِضَى ربنا ؛ وإننا على يقين أنه لو قام قائمُ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر فستكون له - بإذن الله - نتائج باهرة وعواقب محمودة مِن دفع البلاء واستجلاب النعماء ، وإظهار الدين ، وتحريك القلوب والشعور بالعزة والكرامة التي أُنيطت بطاعة الله ورسوله  ، ولأنه سبحانه هو الشكور الْمُحسِن الْمَنَّان فإنه يصنع لأهل الدين ما لَم يكن بالحسبان ؛ وإننا بقيامنا بذلك نطفئ الحريق الذي أشعلته الذنوب ، وننقـذ - بإذن الله - الغريقَ الذي أحاطت به الخطوب والكروب ؛ فلْنراغم الشيطان متوكلين على الرحمن ، فهذا سبيل النجاة وبه إغاثة الهلكى بالرحمـة المهـداة ، وفيما وصَفْتُ الفرَج والْمَخْرج من هذه الظلمات - بإذن الله تعالى - مع ما يُرجى من لطف اللطيف وكرم الكريم مما يصنعه لعباده المؤمنين مما لا يخطر لهم على بال فهو بداية خير - بإذن الله - .
وأخيراً ، فهل وعَى الراقي أهميةَ هذه الشعيرة العظيمة وإهماله القيام بها ؟! ، وقد قال شيخ الإسلام : ( وهكذا السُّنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي لا ينبغي لأحدٍ أن يقارنهم ولا يخالطهم إلاَّ على وجهٍ يَسْلَمُ به من عذاب الله - عزَّ وَجَل- ، وأقلّ ذلك أن يكون مُنكِراً لِظُلمهم ، ماقتاً لَهُم ، شانئاً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث : « مَن رَأى مِنكم منكراً فليغيِّره بيده ؛ فإنْ لَم يستَطِع فبلسانه ؛ فإنْ لَمْ يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » (1) ) انتهى (2) ؛ وتذكَّر ما جاء عن رسول الله  أنه قـال : ( إنَّ الله - عَزَّ وَجَلّ - ليسأل العبدَ يوم القيامة حتى يقول : « ما منَعَكَ إذا رأيتَ الْمُنكَرَ أن تُنكِره ؟! .. » ) الحديث (3) ؛ ولا تنسَ ما جاءَ عن رسول الله  أنه قال : ( إنَّ مِن أمتي قَوْماً يُعطَوْن مثل أجورِ أولِهِم ، يُنكرون المنكر ) (4) .
ولاَ يُوسوس لكَ الشيطانُ حتى تقول : " مَن أنا حتى أُنكر مُنكَراً أو آمُرَ بمعروف " ، بل الأمر كما قال أمير المؤمنين « عمر بن عبد العزيـز » : ( لو أنَّ المرءَ لَم يَعِظ أخاه حتى يحكم نفْسه ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه إذاً لَتَوَاكَلَ الناسُ بالخيرِ ، وإذاً يُرفع الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر ، واستحلت المحارم ، وقَلَّ الواعظون ، والساعون لله بالنصيحة في الأرض ) انتهى (1) .
وقال « سعيد بن جبير » و « مالك بن دينار » وغيرهم نحوَ ذلك (2) .
وَلَوْ لَمْ يعِظْ في النـَّاسِ مَنْ هَوَ مُذْنِبٌ فَمَنْ يَعِظِ العَاصِينَ بَعْدَ « مُحَمَّدِ » ! (3)
وانظر ما ذكره « شجاع بن الوليـد » ~ عن أمير المؤمنين في الحديث « سفيان الثوري » ~ (4) حيث يقول : ( كنتُ أحُجّ مـع « سفيان الثوري » فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهِباً وراجِعاً ! ) انتهى (5) ؛ فتأمَّل ، واتخذ من هؤلاء العلماء العاملين الصادقين أسْوةً حسنة .
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف الْمُأتَمِرين به ، والناهين عن المنكر الْمُنتهين عنه .

مَـوَانـع تـأثـيـر الـرُّقـى والأذكـار

وكذلك فإنَّ منَ الملاحظِ في وقتنا عند ذكر الرقى والأذكار والأوراد ونحو ذلك أن تُطلق دون ذكر مراعاة توفر الشروط وزوال الموانع الموجب للقبول والتأثير ، وعلى هذا رتَّبَ الشارع الثواب في الأذكار والفضائل ، كذلك الرُّقى ليس على مجرد : ( مَن قال : كذا فله كذا ) ، و ( من فعل كذا فله كذا ) ، بل رتب ذلك على القول والعمل الكامل .
قال ابن القيم ~ : ( وكلُّ قولٍ رَتَّبَ الشارع ما رتب عليه من الثواب فإنما هو القول التـام .. كقوله  : « مَن قال في يومٍ " سُبحَانَ الله وبِحَمْدِه " مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه - أو غُفِرت ذنوبه - ولو كانت مثل زَبَد البحر » (1) ، قال : وليس هذا مُرتباً على مجرّد قول اللسان ) انتهى (2) .
إنَّ مِن أعظم موانع تأثير الأذكار والأوراد والرُّقى ما طبق الأرض اليوم من الباطل والمنكرات .
فـ ( الصُّوَر ) مادة جذبٍ قويةٍ للشياطين ، وقد أَلِفَها الناسُ في كل شيء ، وفي كل مكان وبرَدَت قلوبهم عن الشعور بِحُرمتها الموجب لطمسها والمباعدة عنها ، لاسيما وقد هَوَّنَ شأنها مشايخ الوقت ، ولقد كان الواجب عليهم تعظيم حرمات الله - تعالى - لا تهوين أمرها ؛ وهذا شأن العلماء الصادقين .


إقـرارات مـن كـلام الـجـن والشـيـاطيـن تُـبـيِّـن بـعـض العقوبـات المـعـجـلـة عـلـى الـذنـوب والمـعـاصـي

وها هي بعض إقراراتٍ من كلام الجن والشياطين وهي تبين بعض العقوبات الْمُعجَّلة على المعاصي والذنوب ؛ فقد تكلم جنِّيٌّ فقال : ( الصُّوَر مغناطيس لنا ! ) (1) ، وهذا حاصِل في وقتنا .
وتكلَّم مرةً جِنِّيٌّ في مصروع فقال : ( أحسنُ موضعٍ لنا قصور الأفراح ، خصوصاً إذا تبرجت النساء فهُنَّ عندنا كـ " الْحُور العِينِ " عندكم ! ) .
وفي ( جِدّة ) كان هناك عرس في بعض القصور التي تسمى " قصور الأفراح " ، وقد دُعِي إليه بعضُ أقاربِ العروس ، فوافق أن يجيء هو وزوجته وبناته لكن بشرط أن لا يكون هناك غناء ولا رقص ، فأجابت أمُّ العروسِ لذلك ، ولَمَّا حضَرَ هو وأهله وجلسوا قليلاً اهتزَّت الأرض من هيَجان الرقص والغناء ! ، وفي الحال استدعى الرجل زوجَتَه وبناته وخرجوا ؛ لكن الذي حصَل أن العروس سقطت في بعض الدَّرَج ، فأصابتها حالة صعبة ! ، فذهبوا بها إلى مَن ينظر ما أصابها ، وفي صباح الغدِ سَألَتِ امرأةُ الرجل - الذي خرَج من القصر هو وإياها وبناته لَمَّا قام قائمُ الرقص والغناء - أمَّ العَروس عن حالِهَا ، فأخبَرَتْها بالذي أصابها من الدَّرَجَة ، فقالت لها المرأة : ( الذي أصاب ابنتك صرْع ، وقد رأيتُ ذلك في منامي بسبب الرقص والغناء ! ) انتهى .
فمن تعرَّض لِمَساخط ربه فلا يلوم إلا نفْسه إذا أصابه ما أصابه ! .
وهَلاَّ يخشى مَنِ استهان بالمحرَّمَات إذا وقع في المصائب أن يقال له :
فَنفْسَـكَ لُـمْ ولاَ تلُـمِ الْمَطَايَـا !
ومِمَّا وقَع - أيضاً - في وقتنا هذا أن امرأةً راقية صالحة في ( بريدة ) ترقي النساء المصروعات ، ولَمَّا تكلم جِنِّيٌّ في واحدةٍ منهن ذكر أنه خرج من امرأةٍ ودخـل بأخرى ، فسألته الراقيـة عن ذلك ، فقال : ( إنِّي طَلَعْتُ منها ) ، فقالت : « ولِمَاذا طلَعْتَ منها ؟! » ، فقال : ( لقد انتهيتُ منها حيث إنها ماتت وهذا مطلبي ! ) ، فقالت الراقية : « حسبي الله عليك (1) » ، وذَكَرَتْ له آية قتل النفْس ، فأجاب - متباعداً - : ( إنَّ هذه المرأة عندنا غير معصومة الدَّم ! ، والسبب أنها دائماً تشاهد المسلسلات وبيتها كله صُوَر ! ) ، ثم قال على صفةِ السخرية : ( إنها تذهب لِمَن يَقرأ عليها ولا تنتفع لأجل الصُّوَر ! ) ، ثم سألتْه الراقية : وماذا تفعل بكم الصور ؟! ، فقال : ( تَجْمَع الشياطين ! ) انتهى .
وعلى هذا فكم تجمع ( الجريدة ) الواحدة من شيطان ؟! ، بل كم تجمع من الشياطين صفحةٌ واحدة من صفحاتها حيث إنها منقوشة بالصُّوَر ؟! .
بل لقد صار كل خبر قرين صوَر ، ولَم يبقَ إلا الزنا إذا ذكروه صوّروه ! ، فَلْيَهْنِ مَنِ استهانوا بِحُرُمات الله قُرْبُ الشياطين منهم ! .
وقد حضر رجل عند قارئ يقرأ على بنت مصروعة ، فلما نطق الجني سأله الحاضر عن الصور ! ، فقال الجني : ( مع كل صورة شيطان ! ) ، فيا تُرى كم مع كل جريدة ومجلة من شيطان ؟! ، بل ومع كل درس باطل ؟! ، وإذا كان هذا في الصور وجذبها الشياطين وأنها مادة شيطانية فكيف بالأشرطة بلا استثناء ، والراديو بلا استثنـاء (1) ، والشاشـات بلا استثناء ، والدروس التي ليست من مشكاة ( محمـد )  ؟! ، ولا ريب أن مقارنة الشياطين لهذه المحدثات والخوارق وأشباهها مما دخل على المسلمين في زماننا من أعدائهم حاصلة بصورة خطيرة فظيعة شنيعة ، لكن كما يُقال :
مَا لِـجُـرْحٍ بِمَـيِّـتٍ إِيـلاَم ُ!
وقد ثبَت في الحديث أنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة (2) ، ومعنى ذلك أنه يكون مأوى للشياطين ، ومع هذا فليس المراد تَرْك الأذكار والأوراد مع وجود هذه المنكرات ، وإنما المراد التنبيه لذلك وأنه يضعف التأثير مع وجودها وقد لا يحصل الأثر عقوبةً لمرتكبها ! .
ولَمَّا قرأتْ راقيةٌ على بعض المصروعات قال الجني : ( اتركيني أردّ على الجوال ) ! .
وتكلم جنِّيٌّ على لسان مصروعه فقال : ( إذا اشتغل " التلفزيون " صِرْنا واحد فوقه ، وواحد عن يمينه ، وواحد عن يساره ، والباقي بين المشاهدين حتى لو حرَّك أحدُهم يدَه لَلَمَسْنا ) ! .
وقد قال رجلٌ للحسن البصري : ( أينام إبليس ؟! ) ، فقال : ( لَوْ نام لَوَجدنا راحة ) (1) .
قال ابن تيمية ~ : ( وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشَّرَّ ، ويلْتَذُّون به ، ويطلبونه ، ويحرصون عليه بمقتضى خُبث أنفسهم وإن كان مُوجباً لعذابهم وعذاب من يُغْوُونه ، كما قال إبليس :  فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۞ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ  (2) ) انتهى (3) .
وقرأ قارئٌ على بنتٍ صغيرة ، فنطق الجني وقال : ( نَحْن سبعة عشر شيطاناً ، دخلنا فيها إعجاباً بها لأنها فَتَنَتْنا بلبس " البنطلون " ! ) انتهى كلامه ، ولقد كثر لبس البنطلونات والثياب القصيرة في البنات والكبيرات ، وهو تشبُّه بالكفار ، قال « حَسَن بن صالح » ~ : سَمِعْتُ أنَّ الشيطـانَ قال للمرأة : ( أنتِ نصف جُنودي ، وأنتِ سهمي الذي أرمي به فلاَ أُخطئ ، وأنتِ موْضع سِرِّي ، وأنتِ رسولي في حاجتي !! ) انتهى (1) ، كذلك كَـثُر لبس الأولاد للبدلات وهو تشبه بالكفار ، وقد نهى النبي  عن التشبه بهم حيث قال  : ( مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم ) (2) ، وأن مِنْ عِلَلِ التشبه بهم ما ذكره شيخ الإسلام ~ بأن التشبه في الظاهر يدعو إلى المودة في الباطن ، وغير ذلك من العلل ، والتشبه بالكفار باللباس محرَّم لِمَا جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه قال : رأى رسول الله  عليّ ثوبين معصفرين ، فقال : ( إنَّ هذه مِن ثيابِ الكفار ، لا تلبسها ) رواه مسلم (3) وغيره (4) .
قال شيخ الإسلام ~ : ( وعَلَّلَ النهيَ عن لبسها بأنها من ثياب الكفار ) انتهى (5) .
وقال ~ : ( فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهةً ومشاكَلةً في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج ) انتهى (1) .
وقال : ( والمشاركة في الهَدْيِ الظاهر توجب - أيضاً - مناسبةً وائتلافاً وإن بَعُدَ الزمان والمكان فهذا أيضاً أمر محسوس ) انتهى (2) .
وقال : ( مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة ، بل في نفس الاعتقادات ) انتهى (3) .
وقال : ( المشابهة في الظاهر تورث نوعَ مودَّةٍ ومَحَبةٍ وموالاةٍ في الباطن ، كما أنَّ المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر ، وهذا أمر يشهد به الحِسّ والتجربة ) انتهى (4) .
وقال « ابن كثيـر » معلقاً على الحديث المتقـدم ( مَن تشبَّه بقوم فهو منهم ) ؛ قال ~ : ( فيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم ، وأفعالهم ، ولباسهم ، وأعيادهم ، وعباداتهم ؛ وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها ) انتهى (5) .
وقال الشيـخ « حمـود بن عبـد الله التويجـري » ~ في حديـث « عبد الله بن عمرو » - المتقدِّم - : ( وهذا الحديث الصحيح صريح في تحريم ثياب الكفار على المسلمين ، وفيه دليل على المنع من لبس البرنيطات وغيرها من ملابس أعداء الله تعالى كالاقتصار على لبس البنطلونات والقُمُص القصار وغير ذلك من زَيِّ أعداء الله تعالى وملابسهم لوجود عِلّه النهي فيها .
وفي غضب النبي  على «عبد الله بن عمرو » - رضي الله عنهما - وأَمْرُهُ بطرح ثَوْبَيْه في النارِ أبلَغ زَجْر عن مشابهة الكفار في زَيِّهم ولباسهم ، وكذلك في قوله  : « أأمُّك أمَرَتك بهذا » أبلغ ذم وتنفير عن التشبه بأعداء الله تعالى والتَّزَيِّي بزيهم ) انتهى (1) .
وكان ~ قد ذَكَر رواية « مسلم » حينما رأى رسـولُ الله  على « عبد الله بن عمرو » ثوبين مُعَصْفَريْن قال له : ( أأمك أمرتك بهذا ؟! ) ، فقال عبد الله : ( أغسلهمـا ) ، قال : ( بل أحْرِقْهُمـا ) (2) ؛ وذَكَر روايـة « النسائي » ~ : فغضب رسول الله  وقال : ( اذْهَب فاطرحهما عنك ) ، فقال عبد الله : أين يا رسول الله ؟! ، قال : ( في النار ) (3) .
وكلام « التويجري » - المتقدِّم - له أكثر من « ثلاثين » سنة وذلك في بدايات هذا الوباء والبلاء ، فانظر الآن كيف صَعُب التمْيِيز بين أكثر أولادِ المسلمين وبناتهم وبين أولاد وبنات الكفار ! ، والْمُحرَّمات والمعاصي مَجْلَبة ومادة جذبٍ لشياطين الجن والإنس ؛ لاَسِيَّما وأنَّ التشبه بالكفار باللباس يُشَكِّل ويُبيِّن العورات ، ويثير الشهوات في الأنفس المريضات .
وقد قرأ بعضُ القرَّاءِ على بعض المصروعين فتكلَّم الشياطين وقال أحدهم : ( إنه مرتاح لأن المرأة - الْمُتلبِّس بها - لا تقرأ القرآن ، لكنـه متحسِّر لعدم وجود التلفزيون بالبيت في مواضع مُتَيَسِّرة ! ) ، فقال الثاني : ( يا ليتني كنت مثلك ولو أنه في موضع منعـزل ! ) ، وبدأ يُعَدِّد ما يلقاه من أذى منها حيث يقول : ( تؤذيني بالوضوء ، فأنْهَاهَا ولا تمتثل ، وتؤذيني بالاستغفار ) ، ثم بكى وقال : ( تستغفر قبل أن تنام ، وتقوم قبل الفجر فتؤذيني بذلك ) انتهى .
وقال الشيطانُ الآخر : ( إنه متأذي من قراءة المسجِّل سورةَ البقرة ) ، فأجاب الأول بأنه كذِب حيث لا تؤذي كثيراً قراءة المسجل ، ثم قال : ( وإنما قاصمة الظهر قراءة الشخص نفْسه بيقين ! ، وتؤذيني المرأة - الْمُتلبِّس بها - بالصلاة ) انتهى .
وقد علَّقَتْ بعضُ النساء الناصحات تعليقاً على كلام الشيطان بالنسبة للصُّوَر والتشبُّه باللباس والبدلات حيث كانت حاضرة ، فنطق أحد الشياطين متحسراً أن صاحبته لا تُلَبِّس أولادَها بَدْلاَت ! .
ويتبين مما تقدم ويأتي - إن شاء الله تعالى - أنَّ مَن تهاون بالصُّوَر ، والخوارق الشيطانية الناطقـة والمرئيـة ، والفواحش ، والخمر ، والدخـان ، أو التشبه بالكفار باللباس وغيره ، ونحو ذلك مما يُسخط الله ويُباعدِ عن العبد الملائكـة - عليهم السلام - .. أنه بذلك مع الشياطين كَمَنْ ينثر قِطَعاً من الحديد على المغناطيس ويُريد منه تغيير طبيعته بأن لا يجذبها ! ، قال الله تعالى :  وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة  (1) ، ويُقال : " مَن أدخل يدَه في جُحُورِ الأفاعي لا يُنكِر اللَّسْع ! " .
وهذا الذي ذكرته من أمثلةٍ لكلام الجن والشياطين - حيث تُبيِّن بعض العقوبات المعجلة على المعاصي- حاصل بجملته عندنا في ( بريدة ) عند امرأة راقية صالحـة نعرفها وهي لا تأخـذ ثمناً على الرقيـة ، وقد اطَّلـعَتْ على ما ذكرناه هنا مما جرى عندهـا فأقرَّتـه ؛ ولسنا - وللهِ الحمد والمنة - بحاجة إلى كلام ( الجنِّ ) لأنـه لا يشكّ مسلم صادق أنَّ في معصية الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله  من الأضرار والمفاسد ما لا يحيط بعلمه إلا الله - سبحانه - ولوْ خفيَ ذلك على مَن زُيِّن له سوءُ عمَلِهِ ! .
وكل ما تقدم ذكره من إقرارات الجن والشياطين يبين أن مَن ضَيَّع نفْسَه في أودية الضلالة ومتاهات الغواية منشغل القلب عن ذِكر ربه وطاعته فإنه يفتح الأبواب على مصراعيها للشياطين لأذيته وإضلاله ! ؛ وبضدِّهِ مَن تَحَصَّن بطاعة ربه وذِكره .
وفي الحديث الصحيح أن الله - تبارك وتعالى - أمَر « يَحيَ بنَ زكريا » - عليهما السلام - بخمس كَلِمَات أن يعمل بِهِنّ ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بِهِنّ ، وفي آخرها قال : ( وآمُركُم بِذِكْرِ الله كثيراً ، فإنَّ مَثَل ذلك كَمَثَلِ رجُلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِهِ سِرَاعاً حتى أتى على حِصن حصين فأحرز نفْسَه منهم ، كذلك العبد لا يُحْرِز نفْسَه من الشيطان إلاَّ بذكر الله ) (1) ، وذِكْرُ اللهِ - جلَّ جلاله - ليس مجرَّد قَولٍ باللسان بل يشمل الدِّين كله .
ولذا يقول أحدُ الرُّقَاةِ : ( جاءني رَجلٌ بزوجته وذَكَرَ لِي أنها تبغضه بغضاً شديداً ، وترتاح في عدم وجوده معها في البيت ، وقد تبين لي بعد سؤالها عن الأعراض أن لديها سِحر تفريق ، وحينما قرأت عليها نطَق الجني المتلبس بها ، فسألته عن ذلك فقال : " إني أحِبها ، ولا أعذِّبها ، ولكني أريد أن يبتعد عنها زوجهـا " ، وبعد جِـدَال معه لكي يخرج منها قلتُ له : « إذاً أُحْرِقك بالقرآن - بحوْلِ الله وقوتـه - » ، ثم قرأت عليهـا آيـاتٍ فصَرَخ ! ، فقلت لـه : « أتخـرُج ؟! » ، قال : " نعَم ، ولكن بِشَرط ! " ، فقلت : « ما هو ؟! » ، قال : " أخرج منها وأَدْخُل فيك أنت ! " ، فقلتُ : « لا بأس ، أخرج منها وادْخُل فِيَّ إنِ استطعتَ ! » ، فانتظر قليلاً ثم بكى ! ، فقلتُ : « ما يُبكيك ؟! » ، قال : " لا يستطيع أي جِنِّي أنْ يدخل فيك اليوم ! " ، فقلتُ : « وَلِمَ ؟! » ، قال : " لأنكَ قلتَ اليوم في الصَّباح : ** لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الْمُلْكُ وله الحمد ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير ** 100 مرة " ؛ فقلتُ : « صدَق رسول الله  القائل : [ مَن قَالَ ** لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الْمُلْكُ وله الحمد ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير ** في يومٍ " مائة مرة " كانت له عَدْل عَشْرِ رقاب ، وكُتِبَتْ له مائة حسنة ، ومُحِيَتْ عنه مائة سيئة ، وكانت له حِرْزاً من الشَّيطان يومَه ذلك حتى يُمْسي ، ولَمْ يأتِ أحدٌ بأفضل مِمَّا جاءَ به إلاَّ أحدٌ عَمِل أكثرَ من ذلك ] (1) » ؛ ثم قلتُ : « إذاً أُخْرُج منها » ، فخَرَج منها - والفضل لله - ) انتهى مختصراً (2) .
وقد ذكَر الإمامُ ابن القيم ~ في كتابه النفِيس ( الوابل الصَّـيِّب ) أنَّ في ذكر الله - تبارك وتعالى - ، وما فيه من الآثار العظيمة على العبد في دِينه ودنياه وآخرته - أكثر من ( مائة ) فائدة ، وقد ذَكَر منها في كتابه هذا أكثر من ( سبعين ) فائدة ! .


مَـقـمَـعَـة الـشـيـطـان



وقد ذَكَر ابن القيم ~ أن ذِكرَ الله - عَزَّ وَجَل - ( هو مَقْمعة الشيطانِ التي يُقمع بها كما يُقمع الْمُفسد والشرِّير بالمقامع التي تردعه من سياطٍ وحديد وعُصِيٍّ ونحوها .
فذِكْرُ الله يقمع الشيطانَ ويُؤلِمُه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي مَن يُضرب بها ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ضئيلاً مُضْنى مِمَّا يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته ، وفي أثَرٍ عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر لأنه كلما اعترضه صَبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة ، فشيطانه معه في عذابٍ شديدٍ ، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحةٍ ودَعَةٍ ، ولهذا يكون قوياًّ عاتياً شديداً .
فمن لَم يُعذِّب شيطانه في هذه الدار بذكر الله - تعالى - وتوحيده واستغفاره وطاعته عذَّبَه شيطانه في الآخرة بعذاب النار ، فلا بد لكلِّ أحدٍ أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه ) انتهى (1) .
ومما يُبين مقارنة الشياطين للكتب والدروس التي تحتوي على علومٍ تفسد دينَ المسلـم ، ومقارنتها - أيضاً - للكتب والدروس التي تحتوي على علوم الدين وهي مخلوطة بالصور وبالعلوم التي ليست من علوم الدين ؛ مِمَّا يبين ذلك أن رجلاً في ( الشِّقَّة ) - وهي قرية تقع شمال غرب ( بريدة ) - قرأ على بنتٍ مصروعة ، فتكلم الجني الذي فيها ، فسأله الراقي : من أين أنت ؟! ، فقـال : ( أنَا من بلاد الشام ) ، فقال له : ما الذي جاء بك هنا ؟! ، فقال الجني : ( إننا قد أتينا برفقة فلان من أهل « بريدة » حيث أتى معه بكتب من الشام وجئنا برفقته ! ) .
فتابَعَ الراقي القراءةَ حتى طلَبَ الجني الخروجَ وعاهدهُ أنْ يخرج ولا يضرها ولا يعود إليها ، فخرج وذهب أهل البنت بابنتهم وقد شفاها الله - تعالى - بخروج الجني .
ثم إنَّ الراقي رَكِبَ حِمَاره وأتى من وقته إلى الشيخ « عمر بن محمد بن سليم » ~ ببريده وأخبره بالذي حصل ، فبعَثَ الشيخ إلى الرجل - القادم من الشام - يطلب منه الكتب التي جاء بها من الشام ، فبعَث بها إلى الشيخ كما هي حيث كان هذا أوان وصوله من الشام ، ولَم ينظر ما فيها وقد يكون لا يعلم ما فيها ، فقرأ الشيخ منها ، وإذا هي إلحاد ومخرفة فأحْرَقَها .
هذه القصـة جرَت منذ حوالـي سبعيـن سنة حيث إنَّ الشيخ « عُمَر ابن سليم » ~ توفي سنة ( 1362هـ ) (1) ، وشاهِدُ الحادثة مرافقة الْجِنِّي لهذه الكتب لأن الباطل بأنواعه وأجناسه مادَّة جذب للشياطين ، وبالعكس الملائكة - عليهم السلام - .
وقد امتلأت الأرضُ اليوم من المواد الشيطانية ، حتى المساجد أُهِينَتْ حُرْمتُها بإدخال الصور والجوالات وغير ذلك ! ، فإلى الله المشتكى .
وليس بَعْدَ أن تُجعل فيها آلاتُ التصوير شيء ! ، وهذا - واللهِ - عظيمٌ وعظيم ، وخطيِرٌ خطير ، نعوذ بالله من موجبات سَخَطه ، قال « أبو إدريس الخوْلاَني » ~ : ( لأَنْ أرى في جانب المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحبّ إِلَيَّ مِن أنْ أرى فيه بِدعةً لا أستطيع تغييرها ) انتهى (1) ؛ فتأمَّل !


كَـلامٌ غـيـر حـضـاري !


قد يقول بعض المخذولين : « هذا كلام غير حضاري ! » ، فيقال له : حضارتك هذه تَمسَّك بها لتكون عُدّتكم في الشدائـد وعند الموت وحين لقاء الله تعالى ! ؛ والجدَل مع هذا الصِّـنْفِ عقيم ، والحمد لله الذي عافانـا مِمَّا ابتلاهم به .. وفضَّلنا على كثيرٍ ممن خلَق تفضيلاً .
وإنما أَحَبَّ هؤلاء الباطل وكرهوا الحق لفسادهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيميـة ~ : ( والإنسـان إذا فَسَدَتْ نفْسُـه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذّ به ، بل يعشق ذلك عشقاً يُفسد عقله ودينه وخُلُقه وبدنه وماله ! ) انتهى (1) .


الـصَّـرْع الأصـغـر والأكـبـر !

ولِـيُعلم أن أمثال أولئك الناعقين بما يسمونها ( الحضارة ) وأمثالهم هم الصرعى ، وأن بهم الصرع الأعظم كما قال ابن القيم ~ : ( ولو كُشِفَ الغطاءُ لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة ، وهي في أسْرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها ، وبها الصَّرْع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلاَّ عند المفارقة والمعاينة ، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة - وبالله المستعان - ) انتهى .
ثم ذكَرَ عِلاجَ هذا الصَّرْع ، وسوف أنقله - إن شاء الله تعالى- لأنه عظيم الفائدة ، ولعلنا نتنبَّه ولا نظن أنَّ الصرعَ فقط لِمَن نسميهم مصروعين ، بل إن بعض هؤلاء يكون مصاباً بذلك وفيه دِين وخير ، فعاقبته بصبره على مصيبته خير عاقبة ، وفي قصة المرأة التي تُصْرع وتتكشف عِبْرة وتصديقـاً لِمَا ذكَـرْت ، ففي « الصحيحين » من حديث « عطاء بن أبي رباح » قال : قـال « ابنُ عباس » : ألا أُرِيك امرأةً من أهل الجنة ؟! ، قلتُ : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء ، أتَتِ النبي  فقالت : " إِنِّي أُصرع وإني أتكَشَّف فادع الله لي " ، فقال : ( إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولكِ الجنة ، وإن شئتِ دَعَوْتُ الله لَكِ أنْ يعافيكِ ) ، فقالت : " أصبِر " ، ثم قالت : " فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكَشَّف " ، فدعا لَهَا (1) .
أما الصَّرعى حَقِيقَةً فقد بَيَّن أمرَهم ابنُ القيم ~ ، وإذا كان يقول هذا القول في وقته فكيف لو رأى ما نحن فيه ؟! ، ربما قال لنا : ( أنتم مصروعين بِجِنٍّ مصروعين !! ) ، ومعلومٌ أن للجن شياطين مُسَلَّطة عليهم كما هي مُسَلَّطة على الإنس .
وإليك كلامه فتأملـه -  وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُـون  (1) - ، ونحن ليسَت ما تُسمى ( الحضارة ) دِيننا حتى نُخَوَّف بمخالفتها ! ، وإنما دِيننا الإسلام .
قال ~ : ( أما جَهَلة الأطباء وسَقَطهم وسفلتهم ومَن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك يُنكرون صَرْعَ الأرواح ولاَ يُقِرُّون بأنها تؤثّر في بدن المصروع ، وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحسّ والوجود شَاهِدٌ بِه ) .
ثم ذَكَرَ أن مِنَ المعالجين لهذا الصرع من يكتفي بقوله : « أُخرج منه » ، أو يقول : « بسم الله » ، أو يقول : « لا حول ولا قوة إلا بالله » ، والنبي  كان يقول : « أُخْرُج عدو الله ، أنا رسول الله » .
ثم قال : ( وشاهدت شيخَنا « يعني شيخ الإسلام ابن تيميه ~ » يُرسل إلى المصروع مَن يُخاطب الرُّوحَ التي فيه ويقول : قال لكِ الشيخ : « أُخرجي ، فإنَّ هذا لا يحلّ لَكِ » ، فيفيق المصروع .
ورُبَّما خاطَبَها بنفْسه ، وربما كانت الرُّوح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق المصروع ولا يحس بألَم .
وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً ، وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع :  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ  (1) .
وحدثني أنه قرأها في أذن المصروع فقالت الروح : « نعم » ، ومَدَّ بها صوته قال : فأخذتُ له عصا وضربته بها في عروق عُنقه حتى تخلّت يدايَ من الضرب ، ولم يشكّ الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب ، ففي أثناء الضرب قالت : « أنا أحبـه » ، فقلت لها : هو لا يُحبكِ ، قالت : « أنا أريد أنْ أحج به » ، فقلت لها : هو لا يريد أن يَحُـجَّ معكِ ، فقالت : « أنا أدعـه كرامة لك » ، قال : قلت : لاَ ، ولكن طاعة لله ولرسوله  (2) ، قالت : « فأنا أخرج منه » ، قال : فقعد المصروع يلتفت يَمِنياً وشِمالاً ! .. وقال : [ ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟! ] ، قالوا : وهذا الضرب كله - يعني ألم تشعر به ؟! - فقال : [ وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ؟! ] ، ولَم يشعر بأنه وقع به ضرب البتّة .
وكان يُعالِج بآية الكرسي ، وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوِّذتين .
وبالجملة .. فهذا النوع من الصَّرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظِّ من العلم والعقل والمعرفة ) انتهى (1) .
أقول : كثيرون في زماننا - لا كثَّرهم الله - ينكرون ذلك ويسخرون منه ، وذلك من بعض بركات علوم الكفرة التي غرقوا في لُجج بحارها ! ، وما فُتحت عليهم في هذا الزمان الدجَّالي إلا لِهَوانِهِم على خالقهم ، ولأن عقولَهم غير قابلة لِتَلَقِّي موروث الصادق المصدوق  ، ولذلك يحتقرون المؤمنين وَهُمُ الأراذل الأسافل ! .
الصـرع الأكـبـر :
ثم قال ابن القيم ~ بعد الكلام السابق مبيناً الصرع الذي يظن صاحبه أنه أعقل الناس وأكملهم مع أنَّ فيه الصرع الأكبر ، وقد ملأ هذا الصنف الأرض اليوم ! .
قال : ( ولَوْ كُشِف الغطاء لرأيتَ أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسْرِها وقبضتها ، تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها ، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة - أي عند فراق الدنيا ومعاينة الآخرة - ، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة - وبالله المستعان - ) انتهى (2) .
وحيث قد تقدم بيانه ~ لعلاج الصرع الأصغر والأهون ، فتأمل الآن بيانه وإرشاده لعلاج الصرع الأكبر ، ولا ريب أن غفْلتنا عن هذا الأمر العظيم وترك معالجته لا تدل دلالتها إلا على استحكام هذا الصرع فينا مع فساد شعورنا به ! .
عـلاج الصـرع الأكـبـر :
قال ابن القيم ~ : ( وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل ، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقِبْلَةَ قلبه ، ويستحضر أهل الدنيا وحلول الْمَثُلاَت والآفات بهم ، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون ؛ وما أشَدّ هذا الصرع ، ولكن لَمَّا عمَّت البلية به بحيث لا يُرى إلاَّ مصروعاً لَمْ يصِر مستغرَبـاً ولاَ مستنكَراً ، بل صار لكثرةِ المصروعين عين المستنكَر المستغرَب خلافه (1) .
فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أفـاق من هذه الصَّرْعَـة ونَظَر إلى أبناء الدنيا مصروعين حَولَه يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم ، فمنهم من أطبق به الجنون ، ومنهم مَن يُفيق أحياناً قليلة ويعود إلى جنونه ، ومنهم مَن يُفيق مرةً ويُجَنّ أخرى ، فإذا أفـاق عَمِلَ عَمَلَ أهل الإفاقـة والعقل ، ثم يُعـاوده الصرع فيقع في التخبيط ) انتهى (2) ؛ وهذا ليس بخارجٍ عن موضوعنا ، ففيه موعظة بليغة وفتحُ بابٍ للتفكُّرِ السليم .


رُقـاة مِـمَّـن هَـبَّ ودَبّ !


وفي زماننا هذا يَقرأ على المرضى والمصروعين مَن هَبَّ وَدَبّ ! ، وهذا خلافُ ما كان في الماضي حيث لا يتولى ذلك إلا الصُّلَحَاء .
وبعضُ الجهال إذا رأى الراقي يُخاطب الجني الذي في المصروع يَظن أن هذا لَم يحصل إلا لِعُظْمِ شأنِ هذا الراقي ! ، وليس الشأنُ في كلام الجني على لسان المصروع ، فقد يتكلم ويزيد في أذاه ، وإنما الشأن أن يخرج ولا يعود ، وهذا نادرٌ حصولُه ، والمراد أن الجهال يُعظِّمون الراقي لأجلِ مُجَرَّد محاورته للجني ، وكثيِرٌ من الجن في المصروعين يَسخرون بالراقي ويتلاعبون به .
عن « الأعمش » ~ قال : حدثنا رجلٌ كان يُكَلِّم الْجِـنّ ، قالـوا : ( ليس علينا أشد مِمَّن يتَّبِع السُّنة ، وأما أصحابُ الأهواءِ فإنا نلعبُ بهم لَعِباً ! ) انتهى (1) .
وأخيراً ؛ فَلْـيُعلم أنَّ المراد مِمَّا تقدم التنبيه والنصيحة ، ولعل مَن أخطأ أن يعود إلى رُشده ، لأنَّ كثيراً من رُقاة زماننا بحاجة إلى مَن يَرْقِيهِم ! .
وكل ما تقدَّم من الكلام هو في شأن الرقية الشرعية النَّقية ، أمَّا الرقية بالسحر والشعوذة ونحو ذلك فشيء آخر وسيأتي الكلام عليه قريباً إن شاء الله .
ثم تأمل فضل الله - عزَّ وَجَل - ورحمته ، فليس كل الجن عصاة لربهم ، ويكفي في بيـان ذلك ما ذكره الله - سبحانه وبحمده - في سورة ( الجن ) ، لكن ها هنا قصة فيها عَجَب ، وهو مِنَّـة الله - عَزَّ وَجَل- على إنسي بدعوة جِنِّي كان له مُضِلاً فصَار هادياً بفضل الله - تعالى - .
فقد كان ( خُنافر بن التوأم الحميري ) قد أُوتي بسْطة في الْجِسم وسَعَة في المال ، وكان عاتياً .
فلمَّا وفدت وفودُ اليمَن على النبيِّ  ، وظهر الإسلام ؛ أغارَ « خُنافِر » على إبِلٍ لِـ « مُرَاد » فاكْتَسَحَها ، وخرَجَ بأهله ومالِهِ ولَحِق بالشِّحْر (1) ، فحَالَف « جودان بن يحيى الغرضمي » - وكان سيداً منيعاً - ، ونزَل بِوَادٍ من أودية الشِّحْر - مُخْصِبٌ كثير الشجَر من الأيك والعرين - .
قال « خُنافِر » : ( وكان رَئيِّي (2) في الجاهلية لا يكاد يتغيَّب عني ، فلمَّا شاعَ الإسلامُ فقدته مُدَّةً طويلة وسَاءني ذلك ، واسمه « شِصَارٌ » ؛ فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائم إذ هوى هَوِيَّ العُقاب فقال : خنافر ؟! .
قلت : نعم ؟! ؛ فقال : إسمع ، أقل ؛ قلت : قل ، أسمع ؛ فقال : عِـهْ تغنم ، لكلِّ مُدَّةٍ نهاية ، وكل ذي أمد إلى غاية ، قلت : أجل .
فقال : كلُّ دولةٍ إلى أجَل ، ثم يُتاح لَهَا حِوَل ؛ أُنتسِخَتِ النِّحَل ، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سَجِير (1) موصول ، والنصح لك مبذول ، وإني آنست بأرض الشام نَفَراً من « آل الفدام » (2) ، حُكَّاماً على الحكام ، يَذْبرون (3) ذا رَوْنق من الكلام ، ليس بالشعر المؤلَّف ، ولا السجع المتكلَّف ؛ فأصغيتُ فزُجرت ، فعاودت فظُلِفت (4) .
فقلتُ : بِمَ تُهينمُون (5) وإلاَم تَعْتزُون ؟! ؛ قالوا : [ خِطَابٌ كُـبَّار ، جاء من عنـد الْمَلِك الجبار ، فاسمع يا « شِصار » عن أصدق الأخبار ، واسلك أوضح الآثار ، تَنْجُ من أُوَارِ النار ] ؛ فقلت : وما هذا الكلام ؟! ؛ قالوا : [ فرقان بين الكفر والإيمان ، رسُولٌ من مُضَر ، من أهل المدر ، أُبْـتُعِث فَظَهَر ، فجاء بقولٍ قدْ بَهَر ، وأوْضَح نهجاً قد دثر ، فيه مواعظ لِمَن اعتَبَر ، ومَعَاذ لِمَن ازدجر ، أُلِّف بالآيِ الكُبَر ] .
قلت : ومَنْ هذا المبعوث من " مُضَر " ؟! ؛ قالوا : [ " أحمد " خير البشر ، فإنْ آمَنْتَ أُعطيتَ الشَّـبْر (6) ، وإنْ خالَفْتَ أُصْلِيتَ سَقَر ] .
فآمنتُ يا « خُنافِر » ، وأقبلتُ إليك أبادر ، فجانِب كلَّ كافـر ، وشايع كلَّ مؤمنٍ طاهـر ، وإلاَّ فهو الفراق لا عَن تَلاَق ! .
قلتُ : مِن أينَ أبغي هذا الدِّين ؟! ؛ قال : من ذات الأَحَرَّيْن (1) ، والنَّفَر الميامين ، أهل الماء والطين ؛ قلت : أوضِح ! ؛ قال : إلحق بـ " يثرب " ذات النخل ، والحرَّة ذات النعل ، فهناك أهل الطَّوْل والفضل ، والمواساة والبذل .
ثُمَّ امَّلَسَ (2) عني ؛ فَبِتُّ مذعوراً أراعي الصباح ، فلمَّا بَرَق لي النور امتيطت راحلتي ، وآذنت (3) عبدي ، واحتملت أهلي حتى ورَدْتُ " الجوف " ، فرددتُ الإبلَ على أربابِهَا ، فحُولَهَا وسِقَابَها (4) ، وأقبلتُ أريد " صنعاء " ، فأصَبتُ بِهَا « مُعَاذَ بنَ جبل » أميراً لرسولِ الله  ، فبايعته على الإسلام وعلَّمَني سُوَراً من القرآن ، فَمَنَّ الله عَلَيَّ بالهدى بعد الضلالة ، والعلم بعد الجهالة ؛ وقلتُ في ذلك :
ألَـمْ تـَرَ أنَّ اللـهَ عَـادَ بِفَـضْـلِـهِ
فَأَنْقَذَ مِنْ لَفْـحِ الْجَحِيـمِ « خُنَافِـرَا »
وَكَشَّـفَ لِي عَـنْ حَجْمَتَـيَّ عَمَاهُمَـا
وَأوْضَحَ لِـي نَهْجِـي وَقَـدْ كَـانَ دَاثِرَا
دَعَانِـي « شِصَارٌ » لِلَّتِـي لَوْ رَفَضْـتُهَا
لأُصْلِيتُ جَمْراً مِنْ لَظَى الْهُوبِ وَاهِـرَا (1)
فأصْبَحْتُ وَالإِسْـلاَمُ حَشْـوُ جَوَانِحِـي
وَجَانَبْتُ مَـنْ أمْسَى عَـنِ الْحَـقِّ نَافِـرَا
وَكَـانَ مُضِلِّـي مَـنْ هُـدِيتُ بِرُشْـدِهِ
فَلِلَّـهِ مُـغْـوٍ عَـادَ بِالـرُّشْـدِ آمِـرَا
فَمَـنْ مُبْلِـغٌ فِتْيَـانَ قَوْمِـي أَلُوكَـةً (2)
بِأنِّـيَ مِنْ أقْـتَـالِ مَـنْ كَـانَ كَافِـرَا
عَلَيْكُـمْ سَـوَاءَ القَصْـدِ لاَ فَـلَّ حَدّكُمْ
فَقَدْ أَصْبَحَ الإِسْـلاَمُ لِلْكُفْـرِ قَاهِـرَا (3)

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة