الموضوع: شروط الجلباب
عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 01-06-2025, 11:57 AM   #2
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي

2ـ عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((ليس منَّا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال)) رواه أحمد وأبو نعيم وإسناده صالح.
3ـ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:
((لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخَنَّثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم. قال: فأخرج النبي فلاناً، وأخرج عمر فلاناً)) رواه البخاري.

(1/45)
وفي لفظ:
((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) رواه البخاري.
4ـ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة،: العاق والديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والدَّيوث)) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
5ـ عن ابن أبي مليكة ـ واسمه عبد الله بن عبيد الله ـ قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت:
((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَة من النساء)) رواه أبو داود ورجاله ثقات وهو صحيح بشواهده.
وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال، وعلى العكس، وهي عامة تشمل اللباس وغيره، إلا الحديث الأول، فهو نص في اللباس وحده.
وقد قال أبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)):
((سمعت أحمد سئل عن الرجل يُلْبِس جاريته القرطق؟ قال: لا يلبسها من زي الرجال، ولا يشبهها بالرجال)).
قال أبو داود:
((قلت لأحمد: يلبسها النعل الصرارة؟ قال: لا، إلا أن يكون لبسها للوضوء. قلت للجمال؟ قال: لا. قلت: فيجز شعرها؟ قال: لا)) والقرطق هو القباء وهو نوع من اللباس.
وقد أورد الذهبي تشبه المرأة بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء في ((الكبائر))، وأورد بعض الأحاديث المتقدمة، ثم قال:
((فإذا لبست المرأة زي الرجال من المقالب والفرج والأكمام الضيقة، فقد شابهت الرجال
في لبسهم، فتلحقها لعنة الله ورسوله ولزوجها إذا أمكنها من ذلك، أورضي به ولم ينهها، لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله، ونهيها عن المعصية، لقول الله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة**، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسؤول عنهم يوم القيامة))) متفق عليه.
وتبعه على ذلك الهيتمي في ((الزواجر))، ثم قال:
((عَدُّ هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة، وما فيها من الوعيد الشديد، والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان: أحدهما أنه حرام، وصححه النووي بل صوبه.

(1/46)
وثانيهما أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عدَّه منها، وهو ظاهر)).
وقال الحافظ في ((فتح الباري)) عند شرح حديث ابن عباس المتقدم برقم (3) باللفظ الثاني:
((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) ما مختصره:
((قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء، ولا العكس، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيىء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي، وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير. قال: والحكمة في لعن من تشبه، إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء،

وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله:
(المغيِّراتِ خَلْقَ الله).
فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابهاً لزي الرجل، فلا يحل لها أن تلبس رداءه وإزاره ونحو ذلك، كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب (لجاكيت)
و (البنطلون)، وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم وجدت لشيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله تعالى فصلاً جيداً، رأيت من المناسب إيراده في هذا المكان لوثيق صلته به، ولما فيه من الفوائد الغزيرة والتحقيق العلمي، وهو جواب سؤال وُجِهَ إليه، وهذا نصه مع الجواب؛ كما جاء في ((الكواكب)) لابن عروة الحنبلي المحفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق:
((مسألة في لبس الكوفية للنساء ما حكمها إذا كانت بالداير والفرق، وفي لبسهن الفراجي، فما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كل زمان بحسبه؟
الجواب:
الحمد لله، الكوفية التي بالفرق والداير من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان، والمرأة اللابسة لذلك متشبه بهم. وهذا النوع قد يكون أوله من قبل النساء قصدن التشبه بالمردان، كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيراً واحداً مسدولاً بين الكتفين، وأن ترخي لها السوالف، وأن تعتم؛ لتشبه المردان في العمامة والعذار والشعر، ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا، لكن هي في ذلك متشبه بالرجال.
وقد استفاضت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، وفي رواية:

(1/47)
أنه لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وأمر بنفي المخنثين، وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد وغيرهما، وقالوا: جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنفي في حد الزنا، وبنفي المخنثين.
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال:
((صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسمنة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله)).
وقد فسر قوله: ((كاسيات عاريات))، بأن تكتسي ما لا يسترها، فهي كاسية، وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك، وإنما كسوة المرأة ما تسترها فلا تبدي جسمها، ولا حجم أعضائها لكونه كثيفاً واسعاً.
ومن هنا يظهر الضابط في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تشبه الرجال بالنساء، وعن تشبه النساء بالرجال، وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعاً إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه، فإنه لو كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان! وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغاً! وهذا خلاف النص والإجماع، فإن الله تعالى قال للنساء:
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن** الآية، وقال: {قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين** الآية، وقال:
{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى**، فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاد النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم، لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب، ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى، لأن ذلك كان عادةً لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباساً معيناً من جهة نص النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم، فإن النساء على عهده كن يلبسن ثياباً طويلات الذيل بحيث ينجُّر خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين، ولهذا لمَّا نهى - صلى الله عليه وسلم - الرجال عن إسبال الإزار، وقيل له: فالنساء؟
قال: يرخين شبراً، قيل له: إذن تنكشف سوقهن، قال: ذراعاً لا يزدن عليه، قال الترمذي:
((حديث صحيح)).
فالفارقة بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال، وما يصلح للنساء، وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال، وما يؤمر به النساء، فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور.

(1/48)
ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان والتلبية، ولا الصعود (كذا، ولعله: في الصعود) إلى الصفا والمروة، ولا التجرد في الإحرام كما يتجرد الرجل، فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه، وأن لا يلبس الثياب المعتادة، وهي التي تصنع على قدر أعضائه، فلا يلبس القميص ولا السراويل، ولا البرنس ولا الخف، لكن لمَّا كان محتاجاً إلى ما يستر العورة ويمشي فيه، رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزاراً أن يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين، وجعل ذلك بدلاً للحاجة العامة، بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد، فإن عليه الفدية إذا لبسه، ولهذا طرد ابو حنيفة هذا القياس، وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح، ولأجل الفرق بين هذا وهذا، وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب، فلا يشرع لها ضد ذلك، لكن منعت أن تنتقب، وأن تلبس القفازين، لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو، ولا حاجة بها إليه.
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل أو كبدنه؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، فمن جعل وجهها كرأسه، أمرها إذا سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه، كما يجافي عن الرأس ما يظلل به، ومن جعله كاليدين ـ وهو الصحيح ـ قال: لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الإنتقاب كما نهيت عن القفازين، وذلك كما نُهي الرجل عن القميص والسراويل، ونحو ذلك، ففي معناه البرقع، وما صنع لستر الوجه. فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس، فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها، ومثل تغطية اليدين بالكمين، وهي لم تنه عن ذلك.
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا، ويَدَعوا النساءَ باديات الوجوه لمُنعوا من ذلك، وكذلك المرأة أُمرت أن تجتمع في الصلاة، ولا تجافي بين أعضائها - الصواب أن المرأة كالرجل في الصلاة -، وأمُرت أن تغطي رأسها، فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بسترٍ لا يؤمر به الرجل حقاً لله عليها، وإن لم يرها بشر، وقد قال تعالى:
{وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى**،
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
((صلاة إحداكن في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي)) - رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان وهو حديث حسن -. وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب.

(1/49)
ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس، كلاهما جعل في الأصل للوقاية ودفع الضرر، كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة، فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد ويتقي به سلاح العدو، وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد، ويتقي بها العدو، وقال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً**، وقال: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً، وجعل لكم من الجبال أكناناً، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ، وسرابيل تقيكم بأسكم، كذلك يتمُّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون**، فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم، وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم،
فقال تعالى: {والإنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون**، فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد، لأن البرد يهلكهم، والحر يؤذيهم، ولهذا قال بعض العرب: البرد بؤس، والحر أذى، ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخرى وقاية البرد، فإن ذلك تقدم في أول السورة، وهو في أثناء السورة ما أتم به النعمة، وذكر في أول السورة أصول النعم، ولهذا قال: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون**.
والمقصود هنا، أن مقصود الثياب يشبه مقصود المساكن، والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن، فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب، كان للنساء، وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء، فلو كان مقصوده مجرد الفرق، لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك، بل أبلغ من ذلك أن المقصود بلباس أهل الذمة؛ إظهار الفرق بين المسلم والذمي، ليترتب على كلٍ منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه، ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التميز به، ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق، فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالبياض، فليلبسه أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم))، لم يكن من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة أبيض، ولباس أهل الاسلام المصبوغ، كالعسلي والأدكن ونحو ذلك، بل الأمر بالعكس، وكذلك في الشعور وغيرها، فكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء، ليس المقصود به مجرد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار.
وكذلك أيضاً ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضاً مقصود، حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا في ما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهو عن ذلك، والله تعالى قد بين هذا المقصود أيضاً بقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين**، فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمراً مقصوداً، ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المتشبهات

(1/50)
من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء)) فعلق الحكم باسم التشبه، وبكون كل صنف يتصف بصفة الآخر.
وقد بسطنا هذه القاعدة في ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم))، وبينَّا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسباً وتشابهاً في الأخلاق والأعمال، ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار، ومشابهة الأعاجم، ومشابهة الأعراب، ونهي كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر.
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة، ولما كان الغناء مقدمة ذلك، وكان من عمل النساء،
كانوا يسمون الرجال المغنين (مخانيث).
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجال، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لابد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال والنساء،
وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب، وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة، وإن كان ساتراً كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا يتغير بتغير العادات، وأما ما كان الفرق عائداً إلى نفس الستر، فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر ... ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نهي عنه من الوجهين. والله أعلم)).

(1/51)
الشرط السابع
(أن لا يشبه لباس الكافرات)
لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين - رجالاً ونساءً - التشبه بالكفار سواء في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم. وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية خرج عنها اليوم - مع الأسف - كثير من المسلمين-حتى الذين يُعْنَون منهم بأمور الدين والدعوة إليه-جهلاً بدينهم، أو تبعاً لأهوائهم، أو انجرافاً مع عادات العصر الحاضر وتقاليد أوروبا الكافرة، حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم، وسيطرة الأجانب عليهم، واستعمارهم {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم** (الرعد: 11) لو كانوا يعلمون.
وينبغي أن يعلم أن الأدلة على صحة هذه القاعدة المهمة كثيرة في الكتاب والسنة، وإن كانت أدلة الكتاب مجملة؛ فالسنة تفسرها وتبينها كما هو شأنها دائماً.
فمن الآيات قوله تعالى في (الجاثية: 16 - 18):
1ـ {ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بيناتٍ من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون**.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الاقتضاء)) (ص8):
((أخبر سبحانه وتعالى أنه أنعم على بني اسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض، ثم جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لايعلمون، وقد دخل في {الذين لا يعلمون** كل من خالف شريعته. و (أهواؤهم): هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه.

(1/53)
وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه. ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالاً عظيماً ليحصل ذلك. ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم، فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره. فإن ((من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه))، وأي الأمرين كان؛ حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر.
ومن هذا الباب قوله تعالى في (الرعد: 36 - 37):
2ـ {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه، قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكماً عربياً، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق**.
والضمير في {أهوائهم** يعود - والله أعلم - إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما،
وقد قال تعالى: {ولئن اتبعت أهوائهم بعد ما جاءك من العلم** (الرعد: 37)، ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم؛ اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك)).
وقال تعالى في (الحديد: 16):
3ـ {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون**.
قال شيخ الإسلام (ص 43):
((فقوله: {ولا يكونوا** نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي)).
وقال ابن كثير عند تفسير هذه الآية (4/ 310):
((ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية)).
ومن ذلك قوله تعالى في (البقرة: 104):
4ـ {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم**.
قال الحافظ ابن كثير (1/ 148):
((نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص؛ عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، قالوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين،
ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم

(1/54)
فلا يؤمنون إلا قليلاً** (النساء: 46).
وكذلك جاءت الأحاديث بإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلُّموا إنما يقولون: ((السام عليكم))،
والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ ((وعليكم))، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم علينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً)).
وقال شيخ الإسلام عند هذه الآية ما مختصره (ص 22):
((قال قتادة وغيره: كانت اليهود تقوله استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم، وقال أيضاً: كانت اليهود تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: راعنا سمعك، يستهزئون بذلك، وكانت في اليهود قبيحة. فهذا يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها، وإن كانت من اليهود قبيحة، ومن المسلمين لم تكن قبيحة، لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار
وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم)).
وفي الباب آيات أخرى، وفيما ذكرنا كفاية، فمن شاء الوقوف عليها فلينظرها في
((الاقتضاء)) (ص: 8 - 14 و22 و 42).
فتبين من الآيات المتقدمة أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم؛ من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققه في أمور كثيرة من فروع الشريعة، حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشعروا أنه عليه السلام يريد أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم، كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
((إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبيِ - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض** إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام في (الاقتضاء):
(فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا:

(1/55)
ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه).
وأما السنة فالنصوص فيها كثيرة طيبة في تأييد القاعدة المتقدمة، وهي لا تنحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلاً، بل قد تعدتها إلى غيرها من العبادات والآداب
والاجتماعيات والعادات، وهي بيان وتفصيل لما أجمل في الآيات السابقة ونحوها كما قدمت الإشارة إليه.
وها نحن أولاء نسوقها بين يديك؛ لتكون على بصيرة فيما ذهبنا إليه:
1 ـ عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال:
((قلت يا نبي الله! أخبرني عما علَّمك الله، وأجهله، أخبرني عن الصلاة. قال: صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار. ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تُسجر جهنم، فإذا أقبل الفيءُ فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حين تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب؛ معللاً بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلالله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق ...
وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفراً أو معصية بالنية؛ ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين، سداً للذريعة وحسماً للمادة ...
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عُبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك ... لما فيه من مشابهة السجود لغير الله؛ فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات!
وكما لا يصلي إلى القبلة التي يصلون إليها، وكذلك لا يصلي إلى ما يصلون له، بل هذا أشد فساداً، فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء؛ أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون**)).
2 ـ عن جندب ـ وهو ابن عبد الله البجلي ـ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول:

(1/56)
((. . . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وعقَّب هذا الوصف بالنهي بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد.
وقال إنه - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن ذلك ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا إما مظهر للنهي وإما موجب للنهي وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي، وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة)).
3 ـ عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((اللحد لنا، والشِّق لأهل الكتاب)) رواه أحمد والطحاوي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((وهو مروي من طرق فيها لين لكن يصدق بعضها بعضاً، وفيه التنبيه على مخالفتنا بأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر)).
4 ـ عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَحر)) رواه مسلم.
5 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
((حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صُمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((فهذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر سنة ماضية صامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بصيامه، ورغَّب فيه ثم لمَّا قيل له (قبيل وفاته) إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم، بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك، ولهذا استحب العلماء ومنهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء.
6 ـ عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -، قال:
((قلت: يا رسول الله! إني أسألك عن طعام لا أدعه إلا تحرجاً، قال: لا تدع شيئاً ضارعت فيه النصرانية)) رواه أحمد والبيهقي والترمذي وسنده حسن ورجاله ثقات رجال مسلم.

(1/57)
ومعنى ضارعت فيه النصرانية: أي شابهت لأجله أهل الملة النصرانية من حيث امتناعهم إذا وقع في قلب أحدهم أنه حرام أو مكروه، وهذا في المعنى تعليل النهي.
7 ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وعلل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك؛ كما أنه في الحديث قال: ((إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا، وهي للمؤمنين في الآخرة))، ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير
وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار، ففي ((الصحيحين)) عن أبي عثمان النهدي قال:
((كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: يا عتبة! إنه ليس من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمِّك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس الحرير، وقال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما)).
وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً فرأى فيه حادثتين فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم، وفي لفظ آخر: فرأى شيئاً من زي العجم، فخرج، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم)).
8 ـ عن علي - رضي الله عنه - رفعه:
((إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه، فليس مني)) رواه الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به في الشواهد.
9 ـ عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((خالفوا المشركين، أحفوا الشوراب، وأوفوا اللحى)) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فأمر - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة المشركين مطلقا، ثم قال: أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى، وهذه الجملة الثانية بدلاً من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات، قال: فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال أكرم ضيفك؛ أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام أولاً، دليل على أن إكرام

(1/58)
الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراماً في ذلك الوقت، والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفوهم.)
10 ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى، أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة، ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره؛ كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هدي المجوس، وقال المروزي: سألت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن حلق القفا؟ هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم ... )
11 ـ عن الشريد بن سويد - رضي الله عنه - قال:
((مرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري، واتكأت على ألية يدي، فقال: أتقعد قِعدة المغضوب عليهم؟!)) رواه أبو داود وأحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
12 ـ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجراً، فإنها ميسر العجم)) رواه أحمد والبيهقي وهوحديث حسن أو صحيح.
13 ـ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبدُ الله ورسوله)) رواه البخاري.
قال المناوي (وهو - أي الإطراء - المبالغة في المدح والغلو، فالمعنى: لا تجاوزوا الحد في مدحي بغير الواقع، فيجركم ذلك إلى الكفر كما جر النصارى لما تجاوزوا الحد في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع واتخذوه إلهاً. قال:
والتشبيه في قوله: ((كما أطرت النصارى عيسى)) في زعم الألوهية، ويصح أن يكون ليس بمجرد ذلك، بل لنسبة ما ليس فيه، فيكون أعم)).
قلت: وهذا هو الصحيح، لأننا نعلم بالضرورة أن النصارى قد أطروا عيسى عليه السلام بغير الألوهية أيضاً، فمدح المسلمين النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ليس فيه يكون تشبهاً بالنصارى، فينهى عنه لأمرين:

(1/59)
الأول: كونه كذباً في نفسه، وهو - صلى الله عليه وسلم - أرفع مقاماً من أن يمدح به.
والآخر: سداً للذريعة، وخشية أن يؤدي ذلك إلى ما ادعته النصارى في نبيهم من الألوهبة ونحوها. وقد وقع في هذا بعض المسلمين، على الرغم من هذا الحديث وغيره، وذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -:
((لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) متفق عليه.
قلت: ومع ذلك فإننا لا نزال نسمع بعضهم يترنم بقول القائل مخاطباً النبي - صلى الله عليه وسلم -:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم!
فهذا شرك في بعض صفاته تعالى، فإن الله عز وجل كما أنه واحد في ربوبيته وألوهيته، فكذلك هو واحد في صفاته، لا يشاركه في شيء منها أحد من مخلوقاته، مهما سمت منزلته، وعلت رتبته، فهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر يسمع جارية تقول في غنائها البريء:
وفينا نبي يعلم ما في غد
فيقول لها - صلى الله عليه وسلم -: ((دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين)) رواه البخاري.
فأين قول هذه الجارية مما يردده بعض المسلمين منذ مئات السنين:
ومن علومك علم اللوح والقلم!
فهو عندهم ليس يعلم فقط ما في غد، بل يعلم ما كان وما سيكون مما سطره القلم في اللوح المحفوظ! بل هو بعض علمه!! سبحانك هذا بهتان عظيم وإثم مبين.
ومن كان له اطلاع على كتب الصوفية والتي يسمونها بالحقائق (!)، وكتب الموالد، ونحوها، يرى من هذا القبيل العجب العجاب.
وقد يتوهم كثير من الناس الذين يريدون أن يحسنوا الظن بكل الناس أن هذه الأقوال التي تقال في مدحه - صلى الله عليه وسلم - لا يقصدون معانيها الظاهرة منها. وأن كثيرين منهم لا يخطر في بالهم ذلك. ونحن نتمنى أن يكون هذا صحيحاً، ولكن: ((ما كل ما يتمنى المرء يدركه)) ... فقد سمعنا من أناس يظن فيهم العلم والصلاح ما يجعلنا مضطرين أن نسيء الظن بهم وبعقائدهم، وآخر ما وقع من ذلك أن شيخاً منهم (هلك قريباً) كان يدرس في مسجد بني أمية، فسَّر قوله تعالى في سورة الحديد: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم**، قال: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما اعتُرض عليه، حاول أن يلطف الأمر بشيء من التأويل، مصراً على إرجاع الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم -، فلما قيل له إقرأ الآية التي بعدها: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش**، فهل هو محمد؟
فبهت ... ومن يعلم مذهب القائلين بوحدة الوجود، لا يستغرب صدور مثل هذه الكفريات منهم.

(1/60)
14 ـ عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -:
((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين، مرَّ بشجرة للمشركين، يُقال لها: ذات أنواط، يعلِّقون عليها أسلحتهم، ويعكفون حولها، قالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(سبحان الله (وفي رواية الله أكبر)! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة**، والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم سنة سنة)) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.
15 ـ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِلَ الذلةُ والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وإسناده حسن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم**، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال:
((من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت؛ حُشِرَ معهم يوم القيامة)).
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً لهم كان حكمه كذلك، وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهاً.
والتشبه يعم من فعل الشيء، لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له فيه ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبها نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيِّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود))؛ دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منَّا ولا فعل. بل مجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية، وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)). ذكره القاضي أبو يعلى؛ وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين)).

(1/61)
فثبت مما تقدم أن مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا، فالواجب على كل مسلم رجالاً ونساءاً أن يراعوا ذلك في شؤونهم كلها، وبصورة خاصة في أزيائهم وألبستهم، لما علمت من النصوص الخاصة فيها، وبذلك يتحقق صحة الشرط السابع في زي المرأة.
هذا، وقد يظن بعض الناس أن هذه المخالفة إنما هي أمر تعبُّدي محض وليس كذلك، بل هو معقول المعنى، واضح الحكمة، فقد تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الظاهر والباطن، وأن للأول تأثيراً في الآخر، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه، ولكن قد يراه في غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
((وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة، كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذلك لأن الإشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة.
بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما متشابهة في العمامة، أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب، ونحو ذلك، لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما.
وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء ـ وإن تباعدت ديارهم وممالكهم ـ بينهم مناسبة توِرث مشابهةً ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص.
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضائها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والمولاة لهم تنافي الإيمان ... وقال سبحانه: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروحٍ منه** [المجادلة: 22]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يوادُّ كافراً، فمن وادَّ الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً:
((وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً، وقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن

(1/62)
شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضآلين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثيرٍ من الخلق في ذلك مفسدة؛ لأمور:
منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس ثياب الجند والمقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلقٍ بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك؛ إلا أن يمنعه مانع.
ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام ـ لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة ـ كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها أن مشاركتهم في الهدي توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضَّالين ... إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوعٍ من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له)).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال في أول كتابه الاقتضاء:
((وهنا نكتة ... وهي أن الأمر بموافقة قومً أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم؛ مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم؛ مصلحة، بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسابقين في أعمال، لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى، إلى غير ذلك من الفوائد، كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلاً على المفسدة، ومخالفتهم دليلاً على المصلحة، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة، وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران ـ أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل

(1/63)
الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه ـ وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم، وموافقتهم مطلقاً ومقيداً)).
قلت: وهذا ارتباط بين الظاهر والباطن مما قرره - صلى الله عليه وسلم - في قوله الذي رواه النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال:
(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أننا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقال:
((عباد الله لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم، وفي رواية: قلوبكم)) رواه مسلم.
فأشار إلى أن الاختلاف في الظاهر ـ ولو في تسوية الصف ـ مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن الظاهر له تأثير في الباطن، ولذلك رأيناه - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن التفرق، حتى في جلوس الجماعة، ويحضرني الآن في ذلك حديثان:
‍‍ـ عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال:
((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرآنا حِلَقَاً، فقال:
مالي أراكم عزين؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍)) رواه مسلم، ومعنى عزين أي متفرقين جماعة جماعة، وفيه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع.
2ـ عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال:
((كان الناس إذ نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‍:
((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان))
فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم)). رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(1/64)
الشرط الثامن
(أن لا يكون لباس شهرة)
ولباس الشهرة هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيساً يلبسه تفاخراً بالدنيا وزينتها، أو خسيساً يلبسه إظهاراً للزهد والرياء.
وقال الشوكاني: (قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر)
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه ناراً)) رواه أبو داود وابن ماجة وإسناده حسن.
قال الشوكاني:
(والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا الحديث مختصاً بنفس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوباً يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه. قاله ابن رسلان.
وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف. لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وإن لم يطابق الواقع).

وإلى هنا ينتهي بنا الكلام على الشروط الواجب تحققها في ثوب المرأة وملاءتها، وخلاصة ذلك:
أن يكون ساتراً لجميع بدنها؛ إلا وجهها وكفيها على التفصيل السابق، وأن لا يكون زينة في نفسه، ولا شفافاً، ولا ضيقاً يصف بدنها، ولا مطيباً، ولا مشابهاً للباس الرجال ولباس الكفار، ولا ثوب شهرة.

(1/65)
فالواجب على كل مسلم أن يحقق كل هذه الشروط في ملاءة زوجته، وكل من كانت تحت ولايته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((كلكم راع، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)).
والله عز وجل يقول:
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليه ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون** [التحريم: 6]
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لا تباع أوامره، واجتناب نواهيه.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا اله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
انتهى مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة
كتبه الدكتور حسام الدين عفانه
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة