أولا- أحاديث تنهى عن اتخاذ القبور مساجد، أو البناء عليها: ومنها:
1- ما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 2. ويلاحظ الوعيد في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "أولئك شرار الخلق عند الله"، وهذا الوعيد يتناول من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعنى اتخاذها مساجد: أي بناء المساجد عليها3. ومعلوم أن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام، أو أشد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، هي التي أوقعت كثير من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد4. فنهى صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد عليها حسما لمادة الشرك، وسدا للطرق المفضية إليه.
__________
1 انظر ص151 من هذا الكتاب.
2 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟
وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
3 انظر فتح الباري لابن حجر 1/ 524.
4 نقل ذلك عنه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص312.
2- ما روته أم المؤمنين عائشة، وابن عباس رضي الله عنه قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه؛ فقال وهو كذلك:
"لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا.
قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبرهن غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا1؛ أي: لولا نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ عليه الحائل.
فلعن -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث من كان قبلنا، وأنكر عليهم. وإنكاره صنيعهم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم.
والثاني: أنهم يجوزون الصلاة في دافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم النبياء. والأول هو الشرك الجلي، والثاني الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن2.
3- ما رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 3. ولهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم "بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبرة صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وتحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من جهة الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره"4.
4- ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه5.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب 55. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص327.
3 صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
4 المفهم شرح صحيح مسلم للقرطبي 2/ 932.
5 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.
ويلاحظ النهي عن البناء على القبور في هذه الأحاديث، واللعن على ذلك؛ "فهذا التحذير منه صلى الله عليه وسلم، واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا، ودليل على الحذر من جنس أعمالهم؛ حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكن من هذا الجنس، ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة؛ من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء.
وكلا الأمرين محرم، ملعون فاعله بالمستفيض من السنة"1.
5- ما رواه أبو الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2؛ ففي قوله: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته": الأمر بتغييير صور ذوات الأرواح3.
وقوله: "ولا قبرا مشرفا إلا سويته": أي لا يرفع القبر على الأرض رفعا كثيرا، ولا يسنم، بل يرفع نحو شبر، ويسطح4.
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله: "اعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها"5.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يجوز البناء على القبور، ولا تجصيصها4، واستدل بالحديثين السابقين.
ثانيا: أحاديث تنهى عن الصلاة إلى القبور، أو اتخاذها عيدا: ومنها:
الأحاديث التي تقدمت بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، دليل واضح في النهي عن الصلاة إليها؛ لأن من قصد القبور للصلاة عندها، أو إليها، فقد اتخذها مساجد وأعيادا، وارتكب ما نهى الله ورسوله عنه، ووقع في وسيلة من وسائل الشرك الأكبر6.
__________
1 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/ 295.
2 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.
3 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7- 36.
4 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 177-178.5 شرح الصدور بتحريم رفع القبور للشوكاني ص17.
6 انظر الإرشاد إلى توحيد رب العباد للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص97.
وقد دلت أحاديث كثيرة على تحريم الصلاة إلى القبور، أو اتخاذها عيدا، ومن ذلك:
1- ما رواه أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا إليها" 1؛ ففيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر. قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذا الحديث: فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور؛ لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لهذا الحديث الصحيح، ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء. وإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله، فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى3.
2- ما رواه أبو هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 4.
فإذا كان هذا في حق قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل قبر على وجه الأرض، فكيف بقبر غيره من البشر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذا الحديث:
"ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الرض. وقد نهى عن اتخاذه عيدا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا": أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور. فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور5.
__________
1 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.
2 شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 38.
3 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص294-295.
4 أخرجه افمام أحمد في المسند 2/ 367. وابو داود في السنن، كتاب المناسك، باب زيارة القبور.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 383.
5 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 657.
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله أن من أعظم المحدثات وأسباب الشرك بالقبور: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه1.
ولصحة هذه النصوص وتواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنوع الوعيد الوارد فيها، أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وجميع من سار على نهجهم على تحريم اتخاذ المساجد على القبور، أو البناء عليها، أو الصلاة إليها.
ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه تحذيرا لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته، قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم2.
ملاحظة: لا يجوز الطواف بالقبور، ويعتبر شركا؛ لأن الطواف بالكعبة عبادة لله عز وجل؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ** [الحج: 29] ؛ ولا يجوز صرف هذه العبادة لغير الله تعالى. والطواف بالقبور يعتبر تعظيما وعبادة لصاحب القبر، وفيه مضاهاة للطواف بالكعبة. والله عز وجل إنما شرع حج بيته، والطواف به، ولم يشرع الطواف عند غيره؛ فالطواف ببيته سبحانه وتعالى توحيد وعبادة ونفي للشرك؛ لأن المعبود بحق أمرنا أن نصرفه إليه في ذلك المكان. قال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ** [الحج: 26] 3.
__________
1 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص313.
2 انظر المرجع نفسه ص315.
3 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص50.
المطلب الثالث: الغلو في الأنبياء والصالحين، والتبرك بآثارهم من الوسائل المفضية إلى الشرك
تمهيد:
أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط، وهي الأمة المجانبة للغلو والإجحاف، فلا إفراط عندها ولا تفريط. وقد نهيت هذه الأمة عن الغلو على لسان رسولها صلى الله عليه وسلم، في قوله: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" 1.
والنهي عن الغلو نهي عن الشرك؛ لأن الغلو مطية الشرك باله عز وجل، والشرك بالله أعظم ذنب عصي الله عز وجل به.
لذلك يجب على أبناء هذه الأمة الحذر منه، لئلا يهلكوا كما هلك من كان قبلهم، فيخسروا دنياهم، ويوبقوا أخراهم.
ومن مظاهر الغلو الذي نهينا عنه: الغلو في الأنبياء والصالحين؛ فإن الشياطين ما اجتالت البشرية عن فطرتها التي فطرها الله عليها، إلا بالغلو في رجال صالحين، حتى قال قائلها: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا** [نوح: 23] .
وبيان هذا المظهر من مظاهر الغلو الذي نهينا عنه يمكن في المسائل التالية:
المسألة الأولى: المبالغة في مدح الأشخاص
المخلوق له منزلة لا يتعداها. فإن جاوز الناس فيها حدها؛ فقد غلوا فيه. وإنما حدثت عبادة الأصنام بسبب الغلو في المخلوق، وإنزاله فوق منزلته، حتى جعل فيها حظ من الإلهية، وشبه بالله تعالى. وهذا هو التشبيه الذي أبطله الله عز وجل، وبعث رسله بإنكاره، والرد على أهله2.
__________
1 أخرجه النسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى. وابن ماجه في السنن، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 176-177.
2 الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 445.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وأفضل الأنبياء والمرسلين، وأول شافع وأول مشفع قد حذرنا من الغلو فيه، والإسراف في مدحه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني1 كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله رسوله" 2.
وحين جاءه ناس فقالوا له: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: "يا أيا الناس! قولو بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وأنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" 3.
فإذا كان هذا النهي في حقه صلى الله عليه وسلم: أن لا يزاد في مدحه، فغيره أولى أن لا يزاد في مدحهم.
وليست المبالغة في مدحه صلى الله عليه وسلم دليلا على محبته، فإن المحبة إنما تعلم بالاتباع، ولو كان هؤلاء المسرفين في المدح صادقين في حبه صلى الله عليه وسلم، لامتنعوا عن الغلو فيه؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمرنا أن ننتهي عما نهانا عنه. يقول صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 4.
ونحن نحبه صلى الله عليه وسلم، وهو أحب إلينا من أنفسنا، وآبائنا، وأبنائنا، وأهلينا، وأموالنا.
ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، وفعل ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. فلا نفعل ما نهانا عنه من الغلو فيه، ومجاوزة الحد في شخصه الكريم.
المسألة الثانية: تصوير الأنبياء والصالحين، واتخاذ تماثيل لهم:
لقد كان سبب وقوع أول شرك في بني آدم، هو الغلو في الأشخاص وتقديسهم، واتخاذ تماثيل لهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
__________
1 الإطراء: المدح والزيادة في الثناء. "المعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص556".
2 صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ** .
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 153، 241.
4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع؛ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحي الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت" 1.
فـ "أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح عليه السلام، وكانت البناء تبر الآباء، فمات رجل منهم، فجزع عليه، فجعل لا يصبر عنه؛ فاتخذ مثالا على صورته، فكلما اشتاق إليه نظره، ثم مات ففعل به كما فعل، حتى تتابعوا على ذلك. فمات الآباء، فقال الأبناء: ما اتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم. فعبدوها2.
فكان تساهلهم في تصوير هؤلاء الصالحين وتعليق صورهم في مجالسهم، من أسباب عبادة ذريتهم لهذه التماثيل من دون الله عز وجل. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "إنما فعل ذلك أوائلهم ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم؛ فمضت لهم بذلك أزمان. ثم إنه خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فعبدوها. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك"3.
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على تحريم التصوير، خشية أن يؤدي تعليقها، والافتتان بها إلى عبادتها من دون الله عز وجل، ومن هذه الأحاديث:
__________
1 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا** .
2 فتح الباري لابن حجر 8/ 669.
3 المفهم شرح صحيح مسلم للقرطبي 2/ 931-932. وانظر: الجامع لأحكام القرآن له 18/ 198-199. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 249.
1- ما تقدم عن أبي الهياج الأسدون، من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 2، وفيه حرمة تصوير الحيوان.
قال النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره، فصنعه حرام3.
3- وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: يا أبا عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير؛ فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا" فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه.
فقال ابن عباس: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع؛ فعليك بهذا الشجر؛ كل شيء ليس فيه روح4.
4- وقد دخل أبو هريرة رضي الله عنه إلى دار مروان بن الحكم، فرأى فيها تصاوير. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 5.
__________
1 تقدم تخريجه ص159 من هذا الكتاب.
2 صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة. وصحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه.
3 نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 10/ 384.
4 صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح، وما يكره من ذلك.
5 صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب نقض الصور. وصحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان. واللفظ لمسلم.
المسألة الثالثة: التبرك بآثار الأنبياء والصالحين
التبرك: طلب البركة، والبركة: كثرة الخير، وزيادته، واستمراره1.
والشيء الذي يتبرك بهن قد يكون فيه بركة دينية، وقد يكون فيه بركة دنيوية، وقد يكون فيه بركة دينية ودنيوية معا.
فمثال الأول: المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لما فيها من الأجر العظيم لمن صلى فيها، وغير ذلك.
ومثال الثاني: الماء واللبن، لما فيهما من المنافع الدنيوية الكثيرة.
ومثال الثالث: القرآن؛ ففيه منافع دينية ودنيوية كثيرة. ويكفي أن من تمسك به أفلح في الدنيا والآخرة، وهو شفاء للقلوب والأبدان2.
والتبرك المقصود في هذه المسألة، هو التبرك بالأشخاص، وهو ينقسم إلى قسمين:
1- تبرك بذواتهم.
2- وتبرك بآثارهم.
وكلا النوعين يكون شركا إذا اعتقد المتبرك أن المتبرك به يهب البركة بنفسه؛ فيبارك في الأشياء استقلالا، أو يطلب منه الخير والنماء فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وإنما قلنا بأنه شرك لأن الله موجد البركة وواهبها، والعباد سبب، يقول صلى الله عليه وسلم حين تفجر الماء من بين أصابعه: "البركة من الله" 3، ويقول -عليه الصلاة والسلام- مخاطبا مولاه عز وجل: "والخير كله في يديك" 4.
أما إذا لم يعتقد المتبرك في المتبرك به أنه واهب البركة، بل نسب ذلك إلى الله عز وجل، فالأمر فيه تفصيل؛ لأن المتربك به قد يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون غيره من الأولياء والصالحين.
أولا: المبترك به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن كان المتبرك به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم مبارك في ذاته وآثاره، كما كان مباركا في أفعاله5.
__________
1 انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 230. وتهذيب اللغة للأزهري 10/ 231.
2 انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع ص43. ومذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص93.
3 صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب البركة، والماء المبارك.
4 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
5 انظر التبرك: أنواعه وأحكامه للدكتور ناصر الجديع ص243.
ولقد تبرك صحابته رضي الله عنهما بذاته صلى الله عليه وسلم، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم في حياته، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر عليهم. ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا ومن أتى بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، مما يدل على مشروعية هذا التبرك1.
فقد تبركت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بيده الشريفة؛ فكانت تقرأ عليه بالمعوذات حين اشتد وجعه، وتمسح عليه بيده نفسه، رجاء بركتها، كما قالت2.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يمسحون بيديه صلى الله عليه وسلم، ويضعونها على وجوههم رجاء بركتها3.
وكانوا يتبركون بشعره صلى الله عليه وسلم، وقد أقرهم على ذلك، بل إنه وزعه عليهم4.
وكانوا يتبركون بعرقه5 وبريقه6 صلى الله عليه وسلم، وبنخامته فيدلكون بها وجوههم وجلودهم7.
وكتب السنة مليئة بتبرك أولئك الأخيار بسيد المصطفين الأطهار صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته8.
ولقد كانت أعظم بركة نالوها: اتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، والسير على منهاجه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه. فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة.
بل كل مؤمن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعه حصل له من بركة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله9.
__________
1 انظر المرجع نفسه ص244.
2 تقدم تخريج حديثها في ص138، ح"4" من هذا الكتاب.
3 انظر صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به.
4 انظر صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر: أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق.
5 انظر صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به.
6 انظر صحيح البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه، وصحيح مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته.
7 انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب.
8 انظر تفصيل ذلك في كتاب: التبرك: أحكامه وأنواعه للدكتور ناصر الجديع ص243-26.
9 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 113.
ثانيا: المتبرك به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من الأولياء والصالحين:
لم يرد دليل صحيح يجيز التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل التبرك بأجساد الصالحين وآثارهم يدخل في دائرة التبرك البدعي؛ لذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بأحد من الصالحين؛ فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت، ولا غيرهم. ولو كان خيرا لسبقونا إليه؛ لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير1.
وقد أمعوا كلهم رضي الله عنهم على ترك التبرك بجسد أو آثار أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
فدل ذلك على عدم مشروعية هذا التبرك.
ولا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من البشر لوجوه3؛ منها:
1- عدم المقاربة؛ فضلا عن المساوة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة؛ فليس أحد من الأولياء أو الصالحين يقاس برسول الله صلى الله عليه وسلم في فضله أو بركته.
2- عدم تحقق الصلاح؛ فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب. وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص؛ كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين، ومن اشتهر بصلاح ودين، كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأئمة بالصلاح. أما غيرهم؛ فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون، فنرجو لهم.
3- لو ظننا صلاح شخص، فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء. والأعمال بالخواتيم. فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره.
4- أن الصحابة رضي الله عنه لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير رسولنا صلى الله عليه وسلم لا في حياته، ولا بعد موته ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
إذا ليس لأحد أن يتبرك بجسد أو آثار أحد كائنا من كان، لإجماع الصحابة على ترك التبرك بأجساد أو آثار غيره صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين.
__________
1 مذكرة في العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص95.
2 ممن نقل إجماعهم على ذلكك الإمام الشاطبي في الاعتصام 2/ 8-9. والعلامة صديق حسن خان في الدين الخالص 2/ 249-250، والشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص186. والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد ص188، وغيرهم.
3 انظرها في تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ص186.
المطلب الرابع: الأعياد والاحتفالات البدعية من الوسائل المفضية إلى الشرك
تمهيد:
شرع الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيدين سنويين، وعيدا أسبوعيا؛ ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد: عيد يتكرر كل أسبوع، وعيدان يأتيان في كل عام مرة مرة، من غير تكرر في السنة1، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى.
فلا يجوز إحداث أعياد أو احتفالات أخرى. بل كل ما أحدث يدخل تحت مسمى البدعة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 2.
قول الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأصل هذا أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا، إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيدا، وهو يوم الفطر، ويوم الأضحى وأيام التشريق، وهي أعياد العام، ويوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع. وما عدا ذلك فاتخاذه عيدا وموسما بدعة لا أصل له في الشريعة3.
وقد أدث الناس أعيادا لم يشرعها الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فابتدعوا في دين الله، وزادوا فيه ونقصوا، وعارضوا بصنيعهم قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا** [المائدة: من الآية3] .
وقد قسم الدكتور عبد الله بن جبرين ما أحدثه الناس من الأعياد والاحتفالات إلى ثلاثة أنواع4:
__________
1 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص480.
2 صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
3 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص228.
4 انظر مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن جبرين ص161-169.
النوع الأول:
أيام لم تعظمها الشريعة أصلا، ولم يحدث فيها حادث له شأن، ومن أمثلة هذا النوع: ما أحدث في شهر رجب من عبادات؛ صلاة، أو صيام، أو زكاة، أو غير ذلك. يقول الحافظ ابن رجب: فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب، وباطل لا تصح. وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء1.
وأماالصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنه1. وأما الزكاة فقد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب، ولا أصل له في السنة، ولا عرف عن أحد من السلف2.
النوع الثاني:
أيام وليالي جاء في الشرع ما يدل على فضلها؛ فهذه يتقييد المسلم بالعبادات المشروعة فيها، ولا يحدث عبادات ليس لها أصل في الشرع، ومن أمثلة هذا النوع ما أحدث في ليلة النصف من شعبان من صلاة الألفية، وغير ذلك. وهذه الصلاة المحدثة -كما ذكر العلامة ابن القيم- وضعت في الإسلام بعد أربعمائة سنة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
النوع الثالث:
أيام وليالي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها، أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها. ومن أمثلة هذا النوع:
1- حادثة الإسراء والمعراج:
فالإسراء والمعراج حادثتان ثابتان في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يرد في تحديد وقتهما حديث صحيح ولا ضعيف. بل ليس هناك ما يعتمد عليه في تحديد الشهر الذي حدثتا فيه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يقم دليل علوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به4.
__________
1 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص228.
2 المصدر نفسه ص231.
3 انظر المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم ص99.
4 نقله عنه تلميذه ابن القيم في كتابه: زاد المعاد 1/ 57. وانظر فتح الباري لابن حجر 7/ 203، فقد ذكر اختلاف الناس الكبير في تحديد وقتها.
ولو ثبت أن هذه الحادثة وقعت في ليلة بعينها، فلا يجوز تخصيصها، أو تفضيلها على غيرها من الليالي بشيء من العبادات، لعدم ورود الشرع بشيء من ذلك.
ومن فعل شيئا من ذلك فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه. يقول الشيخ علي محفوظ رحمه الله عن ابتداع أصحاب هذا العصر احتفالات ما أنزل الله بها من سلطان: ومنها ليلة المعراج التي شرف الله تعالى هذه الأمة بما شرع لهم فيها، وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبا كثيرة؛ كالاجتماع في المساجد، وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات، مع الإسراف في ذلك، واجتماعهم للذكر والقراءة، وتلاوة قصة المعراج1.
2- حادثة المولد النبوي:
لم يستطع العلماء تحديد ليلة بعينها ولد فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل ولا شهر بعينه، وبينهم في ذلك خلاف مشهور؛ فمنهم من قال إنه ولد في رجب، ومنهم من قال في رمضان، ومنهم من قال في ربيع الأول. حتى من قالوا إنه صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع الأول اختلفوا في تحديد يوم مولده: أهو الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر، أو الثامن عشر، أو الثاني والعشرين2.
وأتى العبيديون في القرن الرابع الهجري، فجزموا أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في شهر ربيع الأول؛ في الثاني عشر منه، وأحدثوا الاحتفال فيه3، فخالفوا ما عليه المسلمون طيلة أربعة قرون. على الرغم من عدم وجود ما يرجح قولهم.
والذي أجمع عليه العلماء: أن الأمة الإسلامية أصيبت في هذا الشهر بأعظم مصاب، وهو وفاته صلى الله عليه وسلم، والذي عليه جمهورهم أيضا: أنها كانت في الثاني عشر من هذا الشهر4.
__________
1 الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ ص141.
2 انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 100-101. والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 158.
وتاريخ الإسلام للذهبي -قسم السيرة ص25-26-. والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 373-380.
3 انظر المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي 1/ 423-433.
4 انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 272-275. وتاريخ الإسلام للذهبي -قسم السيرة ص568-571-. وفتح الباري لابن حجر 8/ 129. ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص212.
فمن احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، وفي الثاني عشر منه، فإنما يحتفل بمصاب الأمة؛ لما تقدم من إجماع العلماء على أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول، وقول جمهورهم أنها في الثاني عشر منه. وليس من محبته أن نقيم احتفالا يوم وفاته.
ولو فرض أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في هذا الشهر، وفي الثاني عشر منه، لما جاز لأحد أن يحتفل بهذه المناسبة؛ لعدم ورود دليل شرعي يجيز ذلك؛ ولأن الصحابة رضي الله عنه لم يفعلوه، مع أنهم أشد اتباعا له صلى الله عليه وسلم، وأشد حبا ممن أتى بعدهم. وكذلك لم يفعله أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ فلو كان خيرا لسبقونا إليه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا: فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له، وعدم المانع فيه لو كان خيرا. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وغنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان.
فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان1.
ولا أدل على عدم احتفال السلف الصالح بالمولد النبوي من اختلافهم في تعيين تاريخ ولادته صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان يشرع فيها شيء من العبادات -على سبيل الافتراض- لعينها الصحابة واهتموا بها، ولكانت معلومة مشهورة2.
"وبالجملة فإنه ينبغي للمسلم الذي يحب الله تعالى، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وولده، أن يسير على خطى ومنهج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي- وأن يكثر من قراءة وحفظ الكتاب الذي أنزل عليه، ومن حفظ وتدارس سنته وسيته في كل أيام وليالي العام، وأن يكثر من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات، وبالأخص في كل يوم جمعة وليلتها من كل أسبوع3.
__________
1 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 615.
2 التبرك: أنواعه وأحكامه للجديع ص363.
3 مذكرة العقيدة الإسلامية للدكتور ابن جبرين ص168.
الفصل الثاني: الكفر، وأنواعه
المبحث الأول: معنى الكفر
معنى الكفر لغة:
الكفر في اللغة: الجحود. وأصله من الكفر، وهو الستر والتغطية. يقال: كفر الشيء كفرا: ستره وغطاه. ويقال: كفر الزارع البذور بالتراب، غطاها وسترها؛ فهو كافر. وكفر التراب ما تحته: غطاه. وكفر الليل الأشياء بظلامه، غطاها وسترها، فهو كافر، وتكفر بالشيء: تغطى به وتستر. وكفر نعمة الله، وكفر بها كفورا وكفرانا: جحدها وسترها1.
معنى الكفر في الشرع:
الكفر ضد الإيمان، ويعرف شرعا بأنه: جحد ما لا يتم الإسلام بدونه. أو جحد ما لا يتم كمال الإسلام بدونه2.
والصلة بين المعنيين: أن جاحد الحق كأنه ساتر له، مغطية، وجاحد نعم الله: كأنه ساتر لها، مغطيها3.
ملاحظة هامة:
التكفير من الأحكام الشرعية -التي يطلقها الشارع؛ فلا يجوز لأحد إطلاقه بمجرد الهوى، أو بقياس عقلي، أو نحو ذلكن بل هو حق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق هذا الوصف على أحد إلا بعد استحقاقه له. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم؛ وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله4.
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص547. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 9. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص605-606. ولسان العرب لابن منظور 5/ 144. ومفردات غريب القرآن للأصفهاني ص434. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص791-792.
2 انظر: أعلام السنة المنشورة لحافظ الحكمي ص146. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص181.
3 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص605.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 545.
المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر
تمهيد:
الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر؛ فالكفر الأكبر اعتقادي، يخرج من الإيمان بالكلية. والكفر الأصغر عملي، ينافي كمال الإيمان، ولا ينافي مطلقه؛ فهو لا يخرج من الإيمان بالكلية، بل ينقص من كماله1.
والحديث في هذا المبحث منصب على الكفر الأكبر، وهو الاعتقادي، الذي ينافي الإيمان، ويضاده من كل وجه، ويخرج صاحبه عن الدين والملة، ويوجب له الخلود في النار، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ** [البينة: 6] .
وغنما قلنا عن هذا النوع إنه اعتقادي، لأن مقره القلب.
وقلنا إنه ينافي الإيمان ويضاده؛ لأننا عرفنا الإيمان بأنه قول وعمل؛ "قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح"؛ فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بالكلية، وإذا زال تصديق القلب، لم تنفع البقية1. والكافر جاحد غير مصدق كما بينا ذلك آنفا.
والكفر الأكبر أنواع متعددة، من لقي الله بنوع منها، لم يغفر له، وقد ذكر بعضها العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله: وأما الكفر الأكبر، فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبارا وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شكن وكفر نفاق2.
ومن أنواع الكفر الأكبر أيضا: كفر البغض، والكفر بدعوى علم الغيب.
وسأقتصر على ذكر بعض أنواع الكفر الأكبر -بإذن الله- في المطالب التالية:
__________
1 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص147.
2 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366.
المطلب الأول: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الجحود"
أولا: تعريفه
هو أن يعرف الإنسان الحق بقلبه؛ لكنه لا يقر به ولا يعترف به بلسانه، وبالتالي لا ينقاد بجوارحه، فهو جاحد له ظاهرا، مع معرفته باطنا1.
ثانيا: من الأمثلة عليه، مع الأدلة
1- كفر فرعون وقومه؛ حيث جحدوا الله عز وجل بألسنتهم، مع معرفتهم له بقلوبهم.
كما قال عز وجل عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ** [النمل: 14] ، وعللوا جحودهم بقولهم -كما حكى الله عنهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ** [المؤمنون: 47] .
2- كفر اليهود؛ حيث جحدوا نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره، وكتموا صفاته الموجودة في كتبهم، على الرغم من معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم، يقول عز وجل عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ** [البقرة: 146] ، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ** [البقرة: من الآية 89] .
ثالثا: نوعا كفر الجحود
قسم العلامة ابن القيم رحمه الله كفر الجحود إلى نوعين: جحود مطلق عام، وجحود مقيد خاص؛ فالمطلق: أن يجحد جملة: ما أنزل الله، وإرساله الرسول.
والخاص المقيد: أن يحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به؛ عمدا، أو تقديما لقول من خالفه عليه، لغرض من الأغراض2.
رابعا: أمر يجدر التنبيه إليه
من جحد شيئا مما تقدم ذكره -في أمثلة الجحود الخاص المقيد- جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به؛ كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح. ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا2.
__________
1 انظر: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص148. ومدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص337.
2 مدارج الساكين لابن القيم 1/ 176. والحديث في صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ح7508.