لأن ذلك من خصائص الألوهية؛ فمن سجد لغيره عز وجل، أو صرف له لونا من ألوان العبادة فقد جعله لله ندا3، كذا لو ذبح لغير الله تعظيما له، وتقربا إليه، فقد أشرك شركا أكبر؛ لأن الذبح عبادة أمر الله عز وجل بها في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر** [الكوثر: 2] 4.
ويقع الشرك في النوع الثاني؛ دعاء المسألة والطلب، إذا كان المدعو ميتا، أو كان السؤال في شيء لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فلو "كان المدعو حيا قادرا على ذلك فليس بشرك؛ كقولك: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك5.
أما إن كان المدعو ميتا، فإن دعاءه شرك مخرج عن الملة6.
على هذا يقال: ليس دعاء المسألة والطلب كله شركا؛ بل دعاء الإنسان لغيره ينقسم إلى ثلاثة أقسام7: الأول: أن يدعو مخلوقا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة؛ كسؤال الفقير. فهذا جائز.
والثاني: أن تدعو مخلوقا مطلقا -سواء كان حيا أو ميتا- فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكرا؛ فهذا شرك أكبر؛ لأن هذا من فعل الله عز وجل الذي لا يستطيعه البشر، ولا يقدرون عليه.
والثالث: أن تدعو مخلوقا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة؛ كدعاء الأموات؛ فهذا شرك أكبر أيضا؛ لأن هذا لا يقدر عليه المدعو. ولا يقع مثل هذا النوع من الدعاء إلا إذا اعتقد الداعي في المدعو شيئا سريا يدبر به الأمور.
__________
1 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص398.
2 تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص58-59.
3 انظر المصدر نفسه ص73.
4 انظر المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 148-149.
5 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص398.
6 المرجع نفسه ص399.
7 انظر المرجع نفسه ص393.
من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد:
ثانيا: شرك الشفاعة
تمهيد:
هذا اللون من الشرك نتيجة لازمة لشرك العبادة -أحد نوعي شرك الدعاء؛ فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ فهو إنما يفعل ذلك كي يشفع له هذا الغير عند الله عز وجل، في التجاوز عن الذنوب والسيئات، أو في تحقيق الآمال، ونيل الرغبات، ظنا منه أن الأصنام، أو الأولياء، أو غيرهم يملكون الشفاعة.
أولا: تعريف الشفاعة
تعرف الشفاعة بأنها انضمام شيء إلى آخر، ناصرا له، وسائلا عنه1؛ فهي مأخوذة من شفع الشيء شفعا، إذا ضم مثله إليه، وجعله زوجا2.
ثانيا: الشفاعة المعنية هاهنا
الشاعة المرادة هنا هي تلك التي تتعلق بالآخرة؛ كطلب الشفيع مغفرة ذنوب المشفوع له، او التجاوز عن سيئاته، أو غير ذلك.
ثالثا: كيف يقع شرك الشفاعة؟
يقع هذا الشرك إذا اتخذ العبد من دون الله أندادا، فصرف لهم نوعا من أنواع العبادة، أو كلها، وتوجه بهم، وتقرب بعبادتهم إلى الله، زاعما أن معبوداته هذه تشفع له عند الله، وتقربه منه زلفى.
رابعا: من أدلة هذا النوع
1- قول الله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ** [يونس: 18] ؛ فحكم الله عز وجل بالشرك على من عبد الشفعاء، أو دعاهم بقصد الشفاعة3.
2- قول الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ** [الزمر: 43-44] ؛ فنفى سبحانه وتعالى أن تشفع لهم هذه الأنداد عند الله، وأخبر أن الشفاعة لله وحده؛ فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
3- قول الله عز وجل {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ** [الزمر: 3] ؛ فكذبهم وكفرهم بذلك4.
__________
1 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 171.
3 انظر المعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين 487.
3 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص276.
4 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 369.
4- قول الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ** [سبأ: 22] ؛ فقطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا؛ لأن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع.
والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه؛ فإن لم يكن مالكا، كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له، كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده؛ فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه؛ فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه1.
خامسا: ما هي الشفاعة التي يقبلها الله عز وجل؟ الشفاعة التي تقدمت هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء، وهي التي نفاها الله عز وجل.
ولكنه سبحانه لم ينف الشفاعة مطلقا؛ بل أخبر ان هناك شفاعة مقبولة عنده؛ وهي الشفاعة الصادرة عن إذنه، لمن وحده؛ فالشفاعة التي يقبلها عز وجل هي التي جمعت شرطين: أحدهما: إذنه سبحانه وتعالى بالشفاعة؛ لأن الشفاعة كلها له وحده، كما قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا** [الزمر: 44] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ** [البقرة: 255] ؛ فلا يشفع أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا بإذنه عز وجل. والشرط الثاني: أن يرضى سبحانه وتعالى عن المشفوع فيه، وهذا يتطلب أن يكون من أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ** [البقرة: 255] ؛ فلا يشفع أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا بإذنه عز وجل، والشرط الثاني: أن يرضى سبحانه وتعالى عن المشفوع فيه. وهذا يتطلب أن يكون من أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، كما قال سبحانه: {ولا يشفعون الا لمن ارتضى** [الأنبياء: 28] ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 2؛ فشفاعته صلى الله عليه وسلم -بعد إذن الله عز وجل له بها- لا ينالها إلا أهل التوحيد الخالص، وهذا عكس ما عند المشركين الذين زعموا أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله3.
فالشفاعة المثبتة المقبولة -إذا- هي التي جمعت شرطين؛ إذن الله عز وجل للشافع أن يشفع، ورضاه سبحانه وتعالى عن المشفوع
. يقول عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى** [النجم: 26] .
__________
1 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 372. وانظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص285.
2 تقدم تخريجه ص74 من هذا الكتاب.
3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 396-370.
من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد:
ثالثا: شرك النية والإرادة والقصد
أولا: المراد بهذا النوع
هو أن ينوي العبد ويريد ويقصد بعمله جملة وتفصيلا غير الله عز وجل.
أو هو العمل الصالح للدنيا فقط. أو هو الذي يعمل العمل من غير إيمان، أو كان غرضه وهدفه الحياة الدنيا فقط1؛ فمن كان غرضه الدنيا لا غير، لا يريد إلا إياها، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجلها، ولا يوالي ولا يعادي إلا عليها؛ فليس له في الدنيا إلا ما قدر لهن وهو في الآخرة من أهل النار.
ثانيا: دليل هذا النوع
يدل على هذا النوع قول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ** [هود: 15-16] ؛ فهؤلاء لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها فقط؛ فليس لهم في الآخرة ثواب؛ لأنهم لم يريدوا بعملهم الآخرة، وإنما أرادوا الدنيا2.
من أنوع الشرك في الألوهية والتعبد:
رابعا: شرك الطاعة
تمهيد:
سبق أن ذكرنا أن توحيد الألوهية يعني: إفراد الله عز وجل بالعبادة3. ومن العبادة: الخضوع له عز وجل في الحكم، وتنفيذ أوامره ظاهرا وباطنا4، كما قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ** [يوسف: 40] ؛ فالحكم حق له.
ولا يتم الإيمان إلا بتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، كما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا** [النساء: 65] .
__________
1 انظر: تجريد التوحيد للمقريزي ص67. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص537.
وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص14.
2 انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله ص535. وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص540.
3 انظر ص59 من هذا الكتاب.
4 أضواء البيان للشنقيطي 1/ 396-397.
أولا: تعريفه
يعرف شرك الطاعة بأنه: مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم1. أو طاعة العلماء والأمراء في المعصية، مع استحلال ذلك2؛ فكل من أطاع مخلوقا في تحريم الحلال، أو تحليل الحرام؛ فهو مشرك شرك طاعة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم3.
ثانيا: من أدلة هذا النوع
يدل لهذا النوع أدلة كثيرة؛ منها:
1- قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ** [التوبة: 31] ؛ فهؤلاء اتخذوا علماءهم، ومشايخهم وقراءهم سادة لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم، مما قد أحله الله لهم4.
2- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ** [التوبة: 31] ؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم! قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه"؟ قال عدي: بلى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتلك عبادتهم" 5.
3- قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا** [النساء: 60] ؛ فسمى سبحانه الاحتكام إلى غير شرعه تحاكما إلى الطاغوت6.
__________
1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص155.
2 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص553. وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص15.
3 أضواء البيان للشنقيطي 4/ 83-84.
4 انظر جامع البيان للطبري 6/ 354.
5 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة. وحسنه.
6 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص567.
4- قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا** [النساء: 65] ؛ فنفى عز وجل الإيمان عن المعرضين عن الاحتكام إلى شرعه، وأقسم بنفسه سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن أحد حتى يحكم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى ينتفي عن صدره الضيق والحرج من ذلك.
ثالثا: من الأمثلة على هذا النوع
1- الطاعة في تحكيم القوانين الوضعية بدلا من الشريعة الإسلامية، والاحتكام إليها.
2- الطاعة في تحليل ما علم تحريمه من دين الإسلام بالضرورة؛ مثل الربا، والزنا، والتبرج، والسفور، والقمار، ونحو ذلك من سائر المعاملات المنصوص على تحريمها، ولا مجال للاجتهاد فيها.
3- الطاعة في تحريم ما أحل الله وأباحه؛ مثل أكل اللحوم، وتعدد الزوجات، والملكية الفردية، وغير ذلك.
وعن هذه الأمثلة يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله؛ فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله -عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه-، كفر بواح، لا نزاع فيه"1.
خاتمة لهذا النوع:
علماء الأمة الإسلامية اتفقوا على أن الحكم لله عز وجل وحده؛ لأنه المالك للخلق وحده؛ فله الحكم والأمر فيهم بما شاء.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "أما استحقاق نفوذ الحكم؛ فليس إلا لمن له الخلق والأمر. فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق عز وجل، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان، والسيد، والأب، والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا، لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم؛ لولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب؛ إذا ليس أحدهما أولى من الآخر.
فإذا: الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله طاعته2.
__________
1 أضواء البيان للشنقيطي 7/ 162.
2 المستصفى لأبي حامد الغزالي 1/ 83.
من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد:
خامسا: شرك المحبة
تمهيد:
سبق أن شكرنا أن العبادة تقوم على ثلاثة أركان، أحدها المحبة1. وهي محبة العبودية التي تستلزم الذل لله، والخضوع له، وتعظيمه، ومال طاعته، وإيثاره على غيره عز وجل.
وهذه المحبة هي المحبة الواجبة؛ إذ المحبة ثلاثة أنواع:
أولا: أنواع المحبة: المحبة ثلاثة أنواع:
1- محبة واجبة: وهي التي سبقت الإشارة إليها؛ محبة طاعة الله، والانقياد له2؛ وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع، وكمال الطاعة، وإيثار المحبوب على غيره؛ فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد3.
2- محبة محرمة، أو شركية: وهي صرف تلك المحبة الواجبة لله عز وجل، إلى غيره؛ فمن أحب غير الله حب ذل وخضوع، فقدم طاعته على طاعة الله، وآثر محابه على محاب الله، فقد جعله ندا لله.
وعنها يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر4. وهذه المحبة: قليلها وكثيرها ينافي في محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم5.
3- محبة طبيعية، أو جبلية: وهذه مباحة، ما لم تصل إلى تعظيم المحبوب إلى الحد الذي لا يليق إلا بالله عز وجل. ومن أمثلة هذه المحبة: حب الإنسان لوطنه، والوالد لولده، والزوج لزوجه، وذي المال لماله، وغير ذلك. وعنها يقول مولانا عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ** [آل عمران: 14] .
ثانيا: كيف يقع الشرك في المحبة؟ تقدم أن الإنسان إذا صرف المحبة الواجبة لله سبحانه وتعالى، لغير الله عز وجل، فقد اشرك في المحبة.
__________
1 انظر ص97 من هذا الكتاب.
2 انظر: الوسيط في تفسير القرآن للواحدي 1/ 136. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان ص74.
3 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان ص74.
4 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص487.
5 انظر المرجع نفسه ص478.
ثالثا: دليل هذا النوع: من الدلة على هذا النوع: قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ** [البقرة: من الآية 165] . وقد تقدم معناها1.
شبهة والرد عليها:
يعترض بعض الواقعين في هذا النوع من الشرك: بأنهم يحبون الله حبا شديدا، ربما أشد من حبهم لأندادهم، فأين الشرك في ذلك؟.
وعلى شبهتهم هذه رد العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله: وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم؛ من إغاثة اللهفان، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده؛ فإنك ترى المشرك يفرح، ويسر، ويحن قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده، وجردت توحيده، لحقته وحشتة، وضيق، وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك2.
من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد:
سادسا: شرك الخوف
تمهيد:
سبق أن ذكرنا أن العبادة تقوم على ثلاثة أركان، أحدها الخوف3. وهو عبدية القلب التي لا يجوز تعلقها بغير الله عز وجل؛ فيخاف العبد مولاه سبحانه وتعالى أن يصيبه بما يشاء من العقوبات، والمصائب، والأوصاف؛ ويخاف مما توعد به العصاة في الآخرة من النكال والعذاب.
وهذا هو الخوف الواجب صرفه لله عز وجل، ولا يجوز أن يصرف لكائن من كان سوى الله جل جلاله.
أنواع الخوف: الخوف أنواعه ثلاثة، كما المحبة:
1- خوف واجب: وقلنا هو الخوف من الله عز وجل أن يصيبك بما يشاء والمطلوب فيه:
__________
1 انظر ص75 من هذا الكتاب.
2 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 371.
3 انظر ص97، 100 من هذا الكتاب.
أن يحملك على فعل المأمورات، واجتناب المنهيات والمحظورات. وهذا الخوف يجب أن يكون مقترنا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله، أو اليأس من روح الله عز وجل؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء؛ بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله ينافيان التوحيد. قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ** [الأعراف: 99] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ** [يوسف: 87] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ** [الحجر: 56] "1.
2- خوف طبيعي2: وهو الخوف مما يخاف منه طبعا؛ كالخوف من السبع، كالأسد ونحوه، والعدو المبغت، وغير ذلك، مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله وحده. وهذا الخوف مباح، وهو غير مذموم. وقد وقع لموسى عليه السلام، يقول تعالى حاكيا عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ** [القصص: 21] .
3- الخوف المحرم: وهو قسمان:
الأول: الخوف السري "الاعتقادي"، وسمي اعتقاديا لأن محله القلب وهو: الخوف من غير الله أن يؤثر فيه، أو يصيبه لما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ من مرض، أو منع رزق، أو إصابة بفقر، أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته، كما قال الله عن قوم هود عليه السلام إنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ** [هود: 54] 3.
وهذا الخوف هو الخوف الشركي؛ فمن وقع فيه وقع في الشرك الأكبر.
__________
1 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان ص69-70.
2 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص489. والإرشاد للفوزان ص67.
3 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص488. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص39. والإرشاد للشيخ صالح الفوزان ص66.
الثاني: الخوف العملي1: وهو الخوف من الناس المؤدي إلى ترك الواجب، أوالمؤدي إلى عمل المحرم.
وهذا الخوف حرام، وينافي كال التوحيد، وهو خوف أصغر.
ودليله: قول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ** [آل عمران: 173] ؛ فاخشوهم: أي واتركوا الجهاد، ويشهد لهذا القسم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس؛ فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى" 2.
خاتمة:
أنواع الشرك في الألوهية كثير تتعلق بعبادته عز وجل ومعاملته؛ فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ فقد وقع في هذا النوع من أنواع الشرك، سواء أكانت العبادة المصروفة لغير الله: نذرا، أو ذبحا، أو سجودا، أو حبا، أو ذلا، أو توكلا، أو رجاء، أو خوفا، أو دعاء، أو غير ذلك.
__________
1 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص489. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص39. والإرشاد للشيخ صالح الفوزان ص66.
2 أخرجهألأحمد في مسنده 3/ 27، 29، 77، وابن ماجه في السنن، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم 1814. وانظر فتح المجيد ص489.
المطلب الثاني: الشرك الأصغر
أولا: تعريف الشرك الأصغر
يعرف الشرك الأصغر بأنه: مساواة غير الله بالله في هيئة الفعل وأقوال اللسان. أو: كل ما أطلل عليه الشرع وصف الشرك، لكنه لا يخرج من الملة1.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وأما الشرك الأصغر؛ فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله، وكيسير الرياء، ونحو ذلك2.
ثانيا: حكم الشرك الأصغر، مع دليله
1- الشرك الأصغر من أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، ومعصية من أكبر المعاصي، لما فيه من تسوية غير الله بالله عز وجل.
2- الشرك الأصغر لا ينقض التوحيد، بل يتنافى مع كماله.
3- الشرك الأصغر لا يحبط جميع العمل، بل يحبط العمل المصاحب.
4- الشرك الأصغر إن مات صاحبه عليه؛ فإنه يموت مسلما، ولكن شركه لا يغفر له -على الراجح من قولي العلماء، بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة3.
5- صاحب الشرك الأصغر في الآخرة إن دخل النار لا يخلد فيها. والدليل على الشرك الأصغر: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا** [الكهف: 110] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 4.
ثالثا: من أنواع الشرك الأصغر
ينقسم الشرك الأصغر إلى أنواع، سأذكر منها بإذن الله:
__________
1 انظر: المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 27. والإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف ص30.
2 انظر القول السديد شرح كتاب التوحيد لابن سعدي ص24.
3 انظر: الرد على البكري لابن تيمية ص146. وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص98.
والشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد ص188-189.
4 صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله.
أولا: يسير الرياء من أنواع الشرك الأصغر
أولا: تعريف الرياء لغة واصطلاحا: اليراء في اللغة مشتق من الرؤية، يقال: فعله رياء؛ أي ليراه الناس، فيحصل على الصيت والذكر1.
والرياء اصطلاحا: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس. أو التصنع للمخلوق؛ كالمسلم الذي يعمل لله، ويصلي لله، ولكنه يحسن صلاته وعمله ليمتدحه الناس2.
ووجه المطابقة بين المعنيين: أن المرائي يقصد رؤية الناس لعمله.
ثانيا: حكم الرياء، مع الدليل