رابعا: عبادات بدنية: وتشمل اعمال الجوارح؛ من صلاة، وجهاد، وحج، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك1.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ** [الحج: 77] ، وقوله جل جلاله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ** بالحج: 29] ، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ** [الجمعة: 9] .
خامسا: عبادات مالية: وتشمل إخراج الزكاة من المال، امتثالا لأمر الله، والوفاء بالنذر، والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ** [البقرة: 110] ، وقوله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ** [التوبة: 41] ، وقول الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا** [الإنسان: 7] .
إذًا العبادة تشمل جميع مجالات الحياة، بل تشمل الحياة بأسرها؛ فالحياة، والمحيا، والممات لله رب العالمين لا شريك له، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ** [الأنعام: 162-163] .
__________
1 انظر المصدر نفسه ص118.
(1/96)
المطلب الرابع: أركان العبادة وأصولها
تقوم العبادة على أركان، باجتماعها يحصل كمال العبودية لله عز وجل1.
وهذه الأركان هي: المحبة، والرجاء، والخوف، التي يجب اجتماعها، ولا يجوز إهمال واحد منها، كما قال علماؤنا ؤحمهم الله: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد2.
ويمكن بيان هذه الأركان في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: مع الركن الأول: محبة الله عز وجل:
المحبة أصل دين الإسلام، وهي نعمة لا يدركها إلا من تفيأ ظلالها، ولذة لا يعرف حلاوتها إلا من تذوقها.
1- المراد بها: يراد بها محبة المعبود جل جلاله، المتضمنة تقديم مراده عز وجل على كل شيء.
2- مقاماتها: مقامات العبادة ثلاثة؛ التكميل والتفريغ، ودفع الضد.
وقد جمعها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 3.
فـ "ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان" تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما4.
__________
1 انظر معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي ص136.
2 انظر: العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص161-162. وتوحيد الألوهية لمحمد الحمد ص37.
3 تقدم تخريجه في ص75 من هذا التاب.
4 العبودية لابن تيمية ص159-160. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 369.
وقد دل على هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 1.
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا الله.
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار2؛ لأن من محبة الله بغض ما يبغضه، وأعظم ذلك الكفر.
3- علاماتها: للمحبة علامتان، هما: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمن كان محبا لله، لزم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل3. وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأمته: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ** [آل عمران: 31] ؛ فليست المحبة مجرد دعوى باللسان؛ بل لا بد أن يصاحبها الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على هداه.
الجهاد في سبيل الله عز وجل: فمن كان محبا لله، لزمه أن يجاهد في سبيله؛ "لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"4. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ** [التوبة: 24] .
فتوعد من كان أهله وماله أب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد5.
وحقيقة محبة الله عز وجل لا تتم إلا بموالاته عز وجل؛ أي بموافقته فيما يحب ويكره؛ فيحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله عز وجل.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص160. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 369.
3 المصدر نفسه ص126-127.
4 العبودية لابن تيمية ص127. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 361.
5 العبودية لابن تيمية ص127.
الوقفة الثانية: مع الركن الثاني: الرجاء:
1- ارتباط الرجاء بالمحبة: على حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راج بالضرورة؛ لأن محبته لله عز وجل تحمله على أن يرجو ما عنده سبحانه وتعالى1.
2- المراد بالرجاء: أن يرجو العبد ما عند مولاه عز وجل من الأجر، والثواب، والرحمة، والمغفرة؛ فالعابد والمطيع يرجو الأجر والثواب والقبول، والتائب يرجو الرحمة ومغفرة الذنوب.
وهذا الرجاء ينبغي أن يكون بلا بأس من روح الله، ولا قنوط من رحمته عز وجل؛ لأن الله تعالى ذم الأمرين، فقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ** [يوسف: 87] ، وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون** [الحجر: 56] .
3- المطلوب فيه: المطلوب في الرجاء كماله وغايته؛ فيرتقي العبد في الرجاء صعدا؛ من رجاء يبعث على الاجتهاد في أداء العبادة طمعا فيما يؤمله من ثواب، إلى رجاء يقدم فيه لزوم الأحكام الدينية على ما تستلذه النفس وتميل إليه، إلى رجاء لقاء الخالق سبحانه وتعالى2، كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا** [الكهف: 110] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ** [العنكبوت: 5] .
4- من أسباب حصول الرجاء: يحصل الرجاء بأمور، منها3.
أ- شهود كرم الله تعالى وإنعامه، وإحسانه إلى عبادة.
ب- صدق الرغبة فيما عند الله عز وجل من الثواب والنعيم.
ج- التسلح بصالح العمل، والمسابقة في الخيرات.
5- من الأدلة على الرجاء:
تقدم آنفا دليلان، هما: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا** [الكهف: 110] ، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ** [العنكبوت: 5] .
__________
1 انظر مدارج السالكين لابن القيم 2/ 44.
2 انظر المصدر نفسه 2/ 54-56.
3 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص140.
وثمة أدلة أخرى، منها:
أ- قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ** [البقرة: 218] .
ب- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي" 1.
ج- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" 2.
فالله عز وجل عند ظن عبده. وعلى العبد أن يحسن الظن بربه كي لا يصيبه القنوط من رحمة الله، ولا اليأس من روحه عز وجل؛ فيبقى متطلعا لما عند الله من الثواب العظيم، راغبا في نيل ما ادخره لعباده المؤمنين ممن النعيم المقيم.
الوقفة الثالثة: مع الركن الثالث: الخوف من الله عز وجل
1- ارتباط الخوف بالرجاء: الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف؛ فكل راج خائف، وكل خائف راج؛ فكل راج خائف من فوات مرجوه، وكل خائف يرجو عفو ربه ومغفرته، والخوف بلا رجاء يعتبر يأسا من روح الله وقنوطا من رحمته3.
2- المراد بالخوف: أن يخاف العبد مولاه عز وجل أن يصيبه بعقاب عاجل، أو آجل، فيصيبه في الدنيا بما يشاء -سبحانه- من مصيبة، أو مرض، أو قتل، أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته.
وهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا؛ لأن هذا من لوازم الإلهية؛ فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف، فهو مشرك4؛ لأن الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا الله.
ويتبع هذا الخوف: الخوف مما توعد الله به العصاة في الآخرة، من النكال والعذاب يقول تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد** [ابراهيم: من الآية14] .
وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان؛ وإنما يكون محمودا إذا لم يوقع في القنوط من رحمة الله، أو اليأس من روحه سبحانه وتعالى5.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ** .
وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى.
2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت.
3 انظر مدارج الساكلين لابن القيم 2/ 53.
4 انظ تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص484.
5 انظر المرجع نفسه ص486.
والمطلوب في هذا الخوف: ما يحجز العبد عن المعاصي، ويبعده عن مخالفة أوامر الله.
يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف الحمود: ما حجزك عن محارم الله1.
3- سبب نقص الخوف من الله في نفس العبد: إذا نقص الخوف من الله عز وجل في نفس العبد؛ فذلك لنقص معرفته بربه عز وجل؛ فإن أعرف الناس بالله أخشاهم له سبحانه. وكلما ازدادت معرفة العبد بربه، كلما ازداد له خشية. يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء** [فاطر: من الآية28] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" 2، ويقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" 3، ويقول: "فوالله إني أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية" 4؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله عز وجل، وأشدنا خشية له؛ فكلما ازدادت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، ازدادت الخشية له عز وجل، وكذلك العكس؛ كلما نقصت المعرفة بالله، قل الخوف منه5.
4- حكم الخوف من الله عز وجل: الخوف من الله عز وجل من أجل منازل الطريق، وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد6.
5- من الأدلة على هذا الركن:
أ- آيات يأمر الله بها عباده بالخوف منه وخشيته عز وجل. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ** [آل عمران: 175] .
ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ** [المائدة: من الآية44] ؛ فأمر جلالة بالخوف منه، وجعل ذلك شرطا في تحقيق الإيمان.
__________
1 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 55.
2 صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صحة من طلع عليه الفجر وهو جنب.
3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله".
4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع.
5 لاحظ: أن الخشية أخص من الخوف؛ فإن خشية العلماء لله، هي خوف مقرون بمعرفة. وانظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 549.
6 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 548.
ب- آيات يمدح الله بها عباده ويثني عليهم بسبب عملهم بهذا الركن.
يقول الله عز وجل مثنيا على عباده المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون** [المؤمنون: 57] ، إلى أن قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون** [المؤمنون: 61] . ومدح أنبياء عليهم السلام بهذه العبادة؛ فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ** [الأنبياء: من الآية90] . ومدح ملائكته بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ** [النحل: 50] .
ج- آيات يخبر فيها عز وجل عن جزاء من عبده بهذا الركن، يقول الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان** [الرحمن: 46] ، ويقول سبحانه: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ** [ابراهيم: 14] .
عبادة الله عز وجل بهذه الأركان مجتمعة:
تقدم أن أهل السنة والجماعة يعبدون الله عز وجل بأركان العبادة الثلاثة مجتمعة، ولا يلغون أي ركن منها1. وتقدم أنهم يوازنون بينها، بيحث لا يطغى جانب منها على الآخر2؛ فكما أن المسلم يعبد ربه عز وجل حبا له، وطمعا في جنته، ورجاء لثوابه؛ فإنه كذلك يعبده عز وجل خشية له، وحذرا من ناره، وخوفا من عقابه.
وما أجمل كلمات العلامة ابن القيم رحمه الله، التي يخبر فيها عن اجتماع هذه الأركان القلبية، ويتحدث عن منزلة كل واحد منها، فيقول: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر. فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران. ومتى قطع الرأس مات الطائر. ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائد وكاسر" إلى أن قال: "أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب؛ فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه"3.
__________
1 انظر ص97 من هذا الكتاب.
2 انظر ص41 من هذا الكتاب وانظر إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى ص391-392.
3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 554.
الباب الثاني: ما يضاد هذا التوحيد أو ينافي كماله
تمهيد:
بعد أن تحدثنا في الباب الأول عن التوحيد، ناسب أن نتكلم في هذا الباب عن ضده؛ إذ بضدها تتميز الأشياء.
والشرك، والكفر، والنفاق شر كلها، ومعرفتا سبب لتوقيعها، كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
وقبله قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني" 1.
من أجل ذا كان الحديث في هذا الباب عن أضداد الخير؛ عن الشرك الذي هو ضد التوحيد، وعن الكفر الذي هو ضد الإسلام، وعن النفاق الذي هو ضد الإيمان، كي تحذر وتتقي.
فأقول -ومن الله التوفيق: الإنسان خلق على فطرة التوحيد والإسلام2، ولو تركت هذه الفطرة بعيدة عن المؤثرات، لاستمر صاحبها على لزومها.
وإذا تدخلت المؤثرات في هذه الفطرة، فإنها قد تنحرف عن الخط المستقيم، وعن الهدي الرباني، إذا تضافر لذلك جملة من عوامل الانحراف.
وإذا وجد الانحراف؛ فإنه سيأخذ صورا ثلاثة، هي:
1- الشرك.
2- الكفر.
3- النفاق.
ولنا وقفات مع كل واحد من هذه الانحرافات في الفصول القادمة إن شاء الله.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين.
2 انظر ص49-51 من هذا الكتاب.
الفصل الأول: الشرك، وأنواعه
المبحث الأول: معنى الشرك
معنى الشرك لغة:
الشرك في اللغة: اسم للشيء الذي يكون بين أكثر من واحد؛ بحيث لا ينفرد به أحدهم.
تقول: قد اشترك الرجلان، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وتقول: اشتركنا وتشاركنا في كذا، ورغبنا في شرككم، أي في مشاركتكم، وشركه في الأمر يشركه: إذا دخل معه فيه، وأشرك بالله: جعل له شريكا، فهو مشرك1.
معنى الشرك في الشرع:
يعرف الشرك شرعا بأنه: "صرف حق من حقوق الله لغيره"2، أو "مساواة غير الله بالله فيما هو حق لله"3.
وحق الله: كل ما لا يقدر عليه إلا الله؛ فلا يطلب إلا منه عز وجل. فإذا طلب من غيره، كان صرفا لخصائص الله لغيره4.
فمن صرف شيئا من أسماء الله وصفاته -التي تثبت لله على ما يليق به- لغير الله، أو صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله، أو اعتقد أن هناك ربا ومدبرا غير الله، أو صرف شيئا من خصائص الربوبية لغير الله عز وجل فقد جعل ذاك الذي صرف له شريكا لله سبحانه وتعالى5.
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص328. وتهذيب اللغة للأزهري 10/ 16. والقاموس المحيط للفيروزأبادي ص1220. ولسان العرب لابن منظور 10/ 448. وتاج العروس للزبيدي 7/ 148.
2 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 614.
3 شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص13.
4 انظر أضواء البيان للشنقيطي 3/ 614.
5 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص28.
المبحث الثاني: أنواع الشرك
مدخل
...
المبحث الثاني: أنواع الشرك
تمهيد: الشرك قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، وهو ينقسم ثلاثة أقسام، بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه1.
يقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: الشرك نوعان: أكبر وأصغر؛ فمن خلص منهما، وجبت له الجنة، ومن مات على الكبر وجبت له النار؛ فالشرك الأكبر: كالسجود، والنذر لغير الله، والأصغر: كالرياء، والحلف بغير الله إذا لم يقصد تعظيم المخلوق كتعظيم الله2.
فالشرك -إذًا- نوعان: أكبر، وأصغر.
ولكي يكون المسلم على حذر من الوقوع في أي منهما، وحتى لا يحكم بالشرك على من لم يقع فيه؛ فلا بد له من معرفة الفرق بين النوعين، ومن هذه الفروق3:
1- الأكبر كفر، والأصغر أكبر الكبائر بعد الشرك الكبر.
2- الأكبر يخرج صاحبه من الملة، والأصغر لا يخرجه، وهو يتنافى مع كمال التوحيد.
3- الأكبر محبط للأعمال كلها، والأصغر يحبط ما خالط أصله، أو غلب على العمل.
4- الأكبر موجب للخلود في النار؛ فصاحبه إن مات عليه، فهو خالد مخلد في النار أبدا، والأصغر لا يوجب ذلك، فإن دخلها فهو كسائر مرتكبي الكبائر.
5- الأكبر يحل النفوس والأموال، والأصغر لا يحل ذلك.
6- الأكبر لا يغفر لصاحبه إن مات عليه، والأصغر يدخل صاحبه تحت الموازنة؛ فإن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، وإلا دخل النار، ومآله الخروج منها.
وبيان نوعي الشرك يمكن في المطلبين التاليين:
__________
1 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص43.
2 تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران لأحمد آل بوطامي ص38-39.
3 انظر هذه الفروق في الكتب التالية: شرح نواقض التوحيد لحسن عواجي ص26. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص30. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 23-33، والإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف ص34-38، وبعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور عواد المعتق ص14-15، والدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 338.
المطلب الأول: الشرك الأكبر
أولا: تعريف الشرك الأكبر: يعرف الشرك الأكبر بأنه: إثبات شريك لله عز وجل في خصائصه؛ فيجعل الإنسان ندا لله في ربوبيته، أو في ألوهيته، أو في أسمائه وصفاته1.
ثانيا: حكم الشرك الأكبر، مع الدليل:
1- الشرك الأكبر يخرج من الملة، وصاحبه حلال الدم والمال، يقول الله سبحانه عن المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ** [التوبة: 5] ، ويقول عنهم: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ** [التوبة: 11] ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" 2.
2- الشرك الأكبر يحبط جميع العمل. يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ** [الأنعام: 88] ، ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ** [الزمر: 65] .
3- الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه إن مات عليه، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ** [النساء: 48، 116] . أما إن تاب قبل الموت، فإن الله يتوب عليه، ما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ** [لأنفال: 38] .
4- صاحب الشرك الأكبر في الآخرة خالد مخلد في النار. يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ** [المائدة: من الآية72] .
__________
1 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/ 483. وفتاوى اللجنة الدائمة 1/ 516-517.
2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. واللفظ للبخاري.
ثالثا: أقسام الشرك الأكبر: ينقسم الشرك الأكبر إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد:
1- شرك في الربوبية.
2- شرك في الأسماء والصفات.
3- شرك في الألوهية.
وبيان هذه الأقسام يمكن في المسائل التالية:
المسألة الأولى من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الربوبية
الشرك في الربوبية أحد أقسام الشرك الأكبر، وهو شرك يتعلق بذات الله عز وجل.
أولا: تعريفه
هو صرف خصائص الربوبية كلها، أو بعضها لغير الله عز وجل، أو تعطيله عز وجل عنها بالكلية.
وخصائص الربوبية هي: التفرد بالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والإعطاء والمنع، والضر، والنفع، وغير ذلك.
ثانيا: نوعاه
الشرك في الربوبية نوعان؛ شرك تعطيل، وشرك تمثيل.
1- شرك التعطيل:
عريفه: هو تعطيل المصنوع عن صانع، وتعطيل الصانع عن أفعاله ويكون ذلك بتعطيل خصائص الربوبية، وإنكار أن يكون الله رب العالمين1.
ومن الأمثلة عليه2: شرك فرعون الذي عطل الربوبية ظاهرا؛ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين** [الشعراء: 23] ، وقال لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا** [غافر: 36-37] .
ومن هذا الشرك3: شرك أهل وحدة الوجود؛ كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم الذين يقولون: إن الخالق عين المخلوق؛ فعطلوا لله عز وجل عن أن يكون رب العالمين، ولم يفرقوا بين رب، وعبد.
__________
1 انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص231.
2 انظر تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص69.
3 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 315.
2- شرك التمثيل:
عريفه: هو التسوية بين الله وخلقه في شيء من خصائص الربوبية، أو نسبتها إلى غيره عز وجل1.
ومن الأمثلة عليه2: شرك النصارى الذين اتخذوا معه أربابا، فجعلوه ثالث ثلاثة؛ وشرك المجوس القائلين بأن للعالم ربين أحدهما خالق للخير، والآخر خالق للشر؛ وشرك الصابئة الذين زعموا أن الكواكب هي المدبرة لأمر العالم؛ وشرك القدرية "مجوس هذه الأمة" القائلين بأن كل إنسان يخلق فعل نفسه؛ وشرك عباد القبور الذين يزعم أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فتقضى الحاجات، وتفرج الكربات، وتنصر من دعاها، وتحفظ من لاذ بحماها. ومثلهم مزاعم غلاة الصوفية في الأولياء: أنهم ينفعون، ويضرون، ويتصرفون في الأكوان إلخ.
المسألة الثانية من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الأسماء والصفات
أولا: تعريفه
هو التسوية بين الله والخلق في شيء من الأسماء والصفات؛ بأن يجعل لله عز وجل ندا في أسمائه وصفاته؛ فيسميه بأسماء الله، أو يصفه بصفاته3.
ثانيا: نوعاه
الشرك في الأسماء والصفات نوعان؛ شرك تشبيه، وشرك اشتقاق.
1- شرك التشبيه:
تعريفه: هو أن يثبت لله تعالى في أسمائه وصفاته من الخصائص، مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك4.
ومن الأمثلة عليه: قول القائل: إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين، واستواءه على عرشه كاستوائهم، ونحو ذلك4.
__________
1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص147.
2 انظر: تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص55-57، 70. والجواب الكافي لابن القيم 231-232.
وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 38. وتوحيد الربوبية لمحمد إبراهيم الحمد ص21-25.
3 انظر: فتاوى اللجنة الدائمة 1/ 516. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص147.
4 انظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ ابن عثيمين ص20-21.
2- شرك الاشتقاق:
تعريفه: هو أن يشتق من أسماء الله عز وجل المختصة به اسما، ويسمى به غيره.
وهذا من الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى1.
ومن الأمثل عليه: ما فعله المشركون من اشتقاق أسماء لآلهتهم الباطلة من أسماء الإله الحق سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ** [الأعراف: 180] ، فـ "يلحدون": أي يشركون2، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله"3.
المسألة الثالثة من أقسام الشرك الأكبر: الشرك في الألوهية والتعبد
أولا: تعريفه: هو أن يجعل لله ند في العبادة، أو في التشريع؛ فيصرف العبد لغير الله شيئا من أنواع العبادة التي تصرف لله، أو يتخذ غيره مشرعا من دونه، أو شريكا له عز وجل في التشريع4.
ثانيا: أنواعه: الشرك في الألوهية والتبعد على أنواع، منها:
1- شرك الدعاء.
2- شرك الشفاعة.
3- شرك النية والإرادة والقصد.
4- شرك الطاعة.
5- شرك المحبة.
6- شرك الخوف.
__________
1 انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/ 516.
2 أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة بن دعامة السدوسي. "انظر الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي 3/ 272".
3 أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. "الدر المنثور 3/ 271".
4 انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/ 516.
من أنواع الشرك في الألوهية والتعبد:
أولا: شرك الدعاء
أولا: تعريفه: هو دعاء غير الله؛ من الأنبياء، والأولياء، وغيرهم، فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فمن دعا، أو استغاث1، أو استعان2، أو استعاذ بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ من طلب رزق، أو شفاء مريض، أو إحياء ميت، أو غير ذلك؛ فقد أشرك مع الله غيره، سواء أكان ذلك الغير نبيا، أو وليا، أو جنيا، أو غير ذلك من المخلوقات3.
يقول العلامة ابن القيم معددا أنواع الشرك الأكبر: "ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؛ فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته"4.
ثانيا: من الأدلة على أن دعاء غير الله شرك:
1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ** [المؤمنون: 117] ؛ فهذا سيقدم على ربه، فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا؛ لأنه كافر5.
2- قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ** [الزمر: 8] ؛ فلا يغنيك ما تتمتع به، إذا كان المآل النار6.
__________
1 استغاث: أي طلب الغوث؛ وهو إزالة الشدة. والفرق بينها وبين دعا؛ أن الاستغاثة تكون من المكروب، والدعاء يكون من المكروب وغيره. "انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص214".
2 الاستعانة: طلب العون. وقد تكون في جلب منفعة، أو دفع مضرة.
3 انظر: تيسير ذي الجلال والإكرام للقحطاني ص26، وبيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة لمحمد بن عبد الرحمن الخميس ص14.
4 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 375.
5 انظر تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 5/ 386.
6 انظر المرجع نفسه 6/ 453.
ثالثا: نوعاه
قبل التعرض لنوعي الشرك في الدعاء، يستحسن ذكر نوعي الدعاء؛ لأن الشرك يقع فيهما؛ فالدعاء نوعان: دعاء مسألة وطلب، ودعاء عبادة وثناء1. وفي النوعين طلب التوصل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ سواء أكان على وجه السؤال لله عز وجل، والاستعاذة به، رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وهذا دعاء المسألة والطلب. أم كان على وجه عبادته عز وجل، طاعته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، وهذا دعاء العبادة والثناء2.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذين النوعين: "إن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر؛ فهو يدعى للنفع والضر دعاء مسألة، ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان"3؛ فمن صلى، أو صام، أو توجه إلى الله عز وجل وسأله دعاء طلب ومسألة؛ فهو راج له، خائف منه4.
والله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ** [غافر: 60] ؛ فجعل سبحانه الدعاء عبادة.
والآن، وبعد أن عرفنا نعي الدعاء، نقول: إن شرك الدعاء يقع في هذين النوعين؛ إما شرك في المسألة والطلب، أو شرك في العبادة والثناء.
رابعا: كيف يقع الشرك في هذين النوعين؟
إذا توجه الإنسان بواحد من هذين النوعين لأحد غير الله عز وجل؛ فقد أشرك.
فيقع الشرك في النوع الأول؛ دعاء العبادة؛ إذا صرف العبد شيئا من العبادة لغير الله عز وجل، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد كفر كفرا مخرجا عن الملة؛ فلو ركع
__________
1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 2/ 778. وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص223.
2 انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 778.
3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 10-11.
4 انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص398.
إنسان، أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركا خارجا عن الإسلام1. ويقول الإمام أحمد بن علي المقريزي: فالشرك به في الأفعال: كالسجود لغيره سبحانه، والطواف بغير البيت المحرم، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره2.