2- قول الله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ**
3- قول الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا** [فاطر: 40] .
__________
1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
2 انظر تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد بن محمد القحطاني ص44.
3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 124.
4 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص37.
الوقفة الثالثة: مع الناقض الثالث: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم.
أو تصحيح مذهبهم 1
المراد بهذا الناقض:
أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة بالبعد عن الكفار والمشركين، والمخالفة لهم، والبراءة منهم. قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ** [يونس: 41] ، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ** .
ومسألة الحكم بتكفير الكافر مبنية على أصل كبير؛ وهو أن الله تعالى عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم، ممن ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم2.
بـ "من لم يكفر المشركين الذين كفرهم وشركهم ظاهر بين، فهو كافر؛ لأن الله تعالى كفرهم في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكم بإسلام المرء حتى يكفر المشركين"3.
من الأدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ** [التوبة: 23] .
2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ** [الممتحنة: من الآية1] .
3- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ** [المجادلة: من الآية22] .
__________
1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
2 شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص51.
3 تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد بن محمد القحطاني ص53.
الوقفة الرابعة: مع الناقض الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه.
المراد بهذا الناقض:
من اعتقد أن هناك دينا أحسن من الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هديا أكمل من هديه صلى الله عليه وسلم، أو حكما أفضل من الحكم الذي أتى به من عند ربه عز وجل، فقد كفر؛ لأنه كذب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالله عز وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا** [الإسراء: 9] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ** [المائدة: 50] ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وخير الهدي هدي محمد" 1.
يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع؛ إما مطلقا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال؛ فلا ريب أنه كفر؛ لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف نحالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد"2.
من الدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا** [النساء: 59] ؛ فالله سبحانه وتعالى طلب من عباده الاحتكام إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند وقوع التنازع.
2- قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا** [النساء: 60] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن الاحتكام إلى غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إضلال من الشيطان، وهو من صنيع المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا** [النساء: 61] .
3- قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا** [النساء: 65] ؛ فنفى الإيمان عمن لم يرض بحكم الله عز وجل.
__________
1 تقدم تخريجه ص5.
2 رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم ص14.
الوقفة الخامسة: مع الناقض الخامس من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
المراد بهذا الناقض:
بغض وكراهية الحق من صفات الكفار، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُون** [المؤمنون: من الآية70] ، وهو أيضا من صفات المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُون** [التوبة: من الآية 54] .
فمن أبغض وكره ما شرعه الله عز وجل، أو أبغض وكره التكاليف الشرعية -من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها- وتمنى أن الله لم يكلف بها؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأن في صنيعه تركا للقبول والانقياد والتسليم التي تقدم الحديث عن أنها من شروط لا إله إلا الله1.
ولذلك كفر العلماء من اتصف بهذه الصفة، وقالوا: "تكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع"2.
من أدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ** [محمد: 9] ؛ فهؤلاء، كرهوا ما أنزل الله من القرآن -وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم- فلم يقبلوه، بل أبغضوه، ورفضوه فأحبط الله اعمالهم، والأعمال لا تحبط إلا بالكفر الذي يناقض الإيمان.
2- قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ** [النور: من الآية63] . ولا ريب أن من أبغض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لأمره عليه الصلاة والسلام.
3- قول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: "من ترك السنة كفر"3، وقوله صلى الله عليه وسلم محمول على الترك مع البغض والجحود، أو على ترك منهج النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته التي أوجب على أمته سلوكها4.
__________
1 انظر تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام للقحطاني ص69.
2 الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص522.
3 ذكره ابن بطة العكبري في الشرح والإبانة ص123.
4 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص68-69.
الوقفة السادسة: مع الناقض السادس من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثوابه، أو عقابه.
المراد بهذا الناقض:
من تجرأ بكلام فيه غض من دين الله، أو تنقص له، أو استهزاء به، أو تنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو استهزاء به، كفر بإجماع علماء المسلمين1.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله-: ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك؛ فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر -ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء- إجماعا2.
ويقول الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله: اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه، فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صرح في الاستهزاء3.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: فإن الاستهزاء بالله ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه، ورسله. والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة"4.
من الأدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ** [التوبة: 65-66] .
__________
1 انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص513.
2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص617. وانظر: روضة الطالبين للنووي 10/ 64-65.
والروضة الندية شرح الدرر البهية لصديق حسن خان 2/ 293. وفتاوى العقيدة لابن عثيمين ص193.
3 الدرر السنية في الأجوبة النجدية -لعدد من العلماء- 10/ 428.
4 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي 3/ 259.
هاتان الآيتان حكمتا بكفر المستهزئين بالله، أو بدينه، أو بكتابه، أو برسوله، ولنزولهما سبب، أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما، وفيه: "أن رجلا قال في غزوة تبوك، في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب1 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة2، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ** "3.
فدلت هاتان الآيتان على كفر المستهزئ بالله عز وجل، أو بآياته، أو برسوله صلى الله عليه وسلم.
فائدة: سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هل تنطبق الآيتان السابقتان على الذين يسخرون ويستهزئون بالذين يعفون لحاهم، ويلتزمون بدين الله؟ فأجاب رحمه الله: "هؤلاء الذين يسخرون بالذين يلتزمون بدين الله، المنفذين لأوامره، إذا كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر. أما إذا كانايستهزئون بهم، يعنون أشخاصهم -بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة في الثياب واللحية؛ فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه، بغض النظر عن عمله وفعله. لكن يجب على كل إنسان أن يحذر من الاستهزاء بأهل العلم، أو الاستهزاء بأهل الدين الذي يتمسكون بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"4.
__________
1 حقب الناقة: الحزام الذي يلي حقو البعير. أو هو حبل تشد به الحقيبة "المعجم الوسيط ص187".
2 أي تدميها "المعجم الوسيط ص950".
3 جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري 6/ 409. وإسناده لا بأس به. وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 272-273. والحذر بمعرفة أن من هزأ بالدين كفر لجمال الدين باش 221-33.
4 فتاوى العقيدة لابن عثيمين ص196. وانظر المرجع نفسه ص197.
الوقفة السابعة: مع الناقض السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف 1.
السحر من نواقض "لا إله إلا الله":
ومن السحر أدوية وعقاقير وعقد وطلاسم تؤثر على بدن المسحور فتجده ينصرف عن زوجته "الصرف"؛ فيبغضها ويبغض بقاءها معه. أو ينعطف قلبه ويميل نحو زوجته أو امرأة أخرى "العطف"؛ حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء2.
والدليل على هذا الناقض، قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ** [البقرة: 102] .
الوقفةالثامنة: مع الناقض الثامن مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين
المراد بهذا الناقض:
المقصود من مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين: أن يتخذ البعض الكفار والمشركين أولياء، فيكونوا لهم أنصارا وأعوانا ضد المسلمين، وينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان؛ فهذا كفر يناقض الإسلام.
والله عز وجل نهانا في آيات كثيرة أن نتخذ الكفار والمشركين أولياء، ومن معاني هذه الولاية التي نهينا أن نصرفها لهم: المحبة، والمودة الدينية، والنصرة، والتأييد على المسلمين3.
__________
1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض بالتفصيل في الباب الثالث من هذا الكتاب.
2 انظر: شرح نواقض التوحيد لحسن عاجي ص78-87، وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص79-84.
3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 160-161.
من الأدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ** [آل عمران: 28] ؛ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافونهم على أنفسكم، فتظهوا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العدواة، ولا تشايغوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تيعنوهم على مسلم بفعل1.
2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ** [المائد: 51] ؛ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى أولياء، ومن يفعل ذلك منكم فإنه منهم؛ لأن "التوالي التام يوجب الانتقال إلى دينهم والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يكون العد منهم"2.
3- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ** [المجادلة: 22] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن -الذي لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما- لا تجده موادا لمن حاد الله ورسوله؛ فإن هذا جمع بين ضدين لا يجمتعان، ومحبوب الله، ومحبوب معادية لا يجتمعان3.
4- قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ** [الممتحنة: 9] ؛ فأخبر عز وجل أن من يفعل ذلك -أي من يتولى الكفار- فإنه ظالم؛ "وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإذا كان توليا تاما، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام"4
__________
1 انظر جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري 3/ 227.
2 تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 2/ 304.
3 انظر قاعدة في المحبة لابن تيمية ص89-90.
4 تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/ 357.
الوقفة التاسعة: مع الناقض التاسع من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر عليه السلام الخروج عن شريعة موسى عليه السلام
المراد بهذا الناقض:
يعتقد البعض أن بالإمكان الخروج عن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومخالفته، والاستغناء عن متابعته في عموم أحواله أن بعضها، زاعمين أن في قصة الخضر عليه السلام حجة لهم1.
ولا ريب أن هذا الاعتقاد كفر مخرج عن الملة. يقول الشيخ موسى بن أحمد المقدسي: من اعتقد أن لأحد طريق إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن له أو لغيره خروجا عن اتباعه وأخذ ما بعث به، أو قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أوقال: إن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريع موسى، أو أنغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، فهو كافر"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من اعتقد أن أحدا من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه"3.
وقصة الخضر مع موسى قصها الله علينا4، وفيها: خرق الخضر للسفينة، وقتله للغلام، وإقامته للجدار. وقد زعم المحتجون بها أن الخضر خالف موسى عليه السلام وخرج عن شريعته، وعن الأمر والنهي الشرعيين. قالوا: وكذلك يسوغ لبعض الناس الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى عليه السلام5.
ومزاعمهم هذه مردودة عليهم من وجوه6:
__________
1 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 422.
2 الإقناع لطالب الانتفاع لموسى المقدسي 4/ 287-288.
3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 422.
4 في سورة الكهف، الآيات 60-82.
5 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 420.
6 ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11/ 263.
1- إن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه؛ بل كان مبعوثا إلى قومه خاصة؛ إلى بني إسرائيل، والخضر عليه السلام ليس من بني إسرائيل. وموسى عليه السلام قصد الخضر للعلم منه، والأخذ عنه، وحين لقيه قال له: "أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا" 1. فلا يقاس عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله لجميع الثقلين؛ الجن والإنس، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 2.
ولا يعتبر صنيع الخضر عليه السلام خروجا على شريعة موسى عليه السلام، أما من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطعه في كل ما أمر، أو ينته عما نهى عنه وزجر، فهو من أمته، ولا يجوز له مخالفته، فإن فعل، فهو خارج عن شريعته عليه الصلاة والسلام لا محالة.
2- إن قصة الخضر عليه السلام ليس فيها مخالفة للشريعة؛ بل ما فعله عليه السلام يباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر عليه السلام. ولهذا لما بين الخضر لموسى أسبابها، وافقه موسى عليه السلام على ذلك، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه بحال3.
أما هذا الذي يريد الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مخالف لشريعة موسى، لما وافقه بحال3.
أما هذا الذي يريد الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مخالف لشريعته. ويتضح ذلك في الوجه الثالث.
3- إن ما فعله الخضر عليه السلام كان عن وحي من الله عزوجل، وليس مجرد خيال أو إلهام. وهذا لا يمكن أن يكون لحد بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بموته انقطع الوحي.
ومن ادعى حصوله كفر4.
إذا: لا يجوز الخروج على شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم بحال، ومن فعل ذلك، فهو كافر مرتد، وهو من اعظم الناس كفرا5.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام.
2 صحيح البخاري، كتاب التميم، باب1، حديث رقم336.
3 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 263. وشرح نواقض التوحيد لحسن عواجي ص100-101. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص100.
4 انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق ص132.
5 انظر إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية 1/ 123.
الوقفة العاشرة: مع الناقض العاشر الإعراض عن دين الله، فلا يتعلمه، ولا يعمل به.
المراد بهذا الناقض:
الإعراض التام عن دين الله عز وجل، والتولي عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والامتناع عن الاتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة؛ فلا إرادة له في تعلم الدينن ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه1، ويعرض إعراضا كليا عن جنس العمل الظاهر "الطاعة أو الاتباع".
والإعراض التام الكلي لا يقع إلا ممن تمكن من العلم ومعرفة الحق، وتمكن من العمل، فأعرض، وفرط، وترك ماأوجبه الله عليه، من غير عذر؛ فهذا وأمثاله مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل، فإنما أتي من تفريطه وإعراضه2.
ويجب أن يعلم أن الإعراض ليس كله مما يخرج من الملة؛ بل الذي يكفر بتركه هو الإعراض عن تعلم الإيمان العام المجمل، والإعراض عن جنس العمل الذي يعد شرطا في صحة الإيمان3، فهذا هو الذي يكفر فاعله لأنه لم يتعلم دين الله، ولم يعمل به.
يقول العلامة ابن القيم عن الإعراض عن تعلم الإيمان المجمل الذي يدخل صاحبه في دائرة الإسلام: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله، واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وغن لم يكن كافرا معاندا، فهو كافر جاهل4.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإعراض عن العمل: وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة، ولا زكاة، ولا صياما، ولا غير من الواجبات5.
__________
1 انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية ص412-413. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص102.
2 انظر: مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزيه 1/ 43. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 3/ 17.
3 انظر: شرح نواقض الإسلام لحسن عواجي ص105. وتيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام لسعد القحطاني ص102-103.
4 طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية ص411.
5 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 621.
من الأدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ** [النور: 47-48] ؛ "فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول"1.
2- قول الله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ** [آل عمران: 32] ؛ فدل على أن من تولى عن طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر2.
3- قول الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا** [النساء: 61] ؛ "فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن حكم فهو من المنافقين وليس بمؤمن"3.
4- قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى** [طه: 124-126] ؛ فأخبر عز وجل أن المعرضين في معيشة ضنك، وضيق، وأنهم يحشرون يوم القيامة عميا.
خاتمة النواقض:
ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبحث النواقض بقوله: ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه، وصلى الله على محمد.
وكلامه -رحمه الله- بعدم التفريق بين الهازل والجاد في محله، ويمكنك إدراكه إذا تأملت في سبب نزول الآية {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ** ؛ كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزاح واللعب. نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى إنه سميع مجيب.
__________
1 مجموع فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 142.
2 انظر تفسير ابن كثير 1/ 338.
3 الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص33.
المبحث الثاني: العبادة، وأنواعها، وأركانها
المطلب الأول: معنى العبادة في اللغة والاصطلاح
العبادة لغة:
العبادة في اللغة: الذل والخضوع. يقال: عبده: ذلَّله. وعبد الطريق، وعبد البعير.
ويقال: عبد الله عبادة، وعبودية: انقاد له، وخضع، وذل1.
يقول الشاعر طرفة بن العبد في معقلته المشهورة، يصف ناقته:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد2
ومور معبد: أي تراب ممهد مذلل3.
العبادة اصطلاحا:
والعبادة في الاصطلاح: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة4.
وهي تتضمن غاية الذل الله تعالى، بغاية المحبة له عز وجل؛ فمن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابد؛ كما قد يحب ولده وصديقه5.
فالعبادة -إذًا- تتضمن غاية الحب، مع غاية الذل، كذا عرفها العلامة ابن القيم بقوله:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده، هما قطبان6
فهي في مفهومها العام تعني: "التذلل لله محبة وتعظيما، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه"7.
والله عز وجل أحب إلى عبده المؤمن من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء.
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص406. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص579.
2 انظر شرح المعلقات العشر للزوزني ص97.
3 انظر أساس البلاغة للزمخشري ص607.
4 انظر العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص23.
5 انظر المصدر نفسه ص33-34.
6 انظر النونية لابن القيم -بشر الهراس- 1/ 95.
7 المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/ 25.
المطلب الثاني: مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية
سبق أن ذكرنا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للعبادة، بأنها: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والعمال الباطنة والظاهرة".
فالعبادة على هذا لا تقتصر على أركان الإسلام فحسب؛ من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. بل إن الإسلام أسبغ على أعمال الإنسان كلها صفة العبادة، إذا تحقق فيها شرطا قبول العمل، وهما1:
أولا: الإخلاص؛ بأن يكون العمل خالصا لوجه الله الكريم، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء** [البينة: من الآية5] . فينوي العبد أن يكون عمله، وقوله: وإعطاؤه، ومنعه، وحبه، وبغضه لله وحده، لا شريك له؛ إذا الأعمال لا تقوم إلا بالنيات، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إعمال بالنيات" 2؛ فالنية تتحكم في العمل، وتقلبه إلى عبادة.
ثانيا: المتابعة؛ بأن يكون العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه القويم، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا** [الحشر: من الآية7] . فالأعمال لا اعتبار لها إلا إذا كانت على الوجه الذي رسمه الشرع. روت أم المؤمنين عاشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 3.
وكل عمل بلا متابعة، فإنه لا يزيد عامله إلا بعدا من الله؛ فإن الله عز وجل إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء، ولا الآراء.
والمسلك الحسن ليس في إخلاص العمل لله عز وجل فحسب، ولا في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل في مجموعهما معا، فإن الله عز وجل ذكر العمل الصالح، فقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا** [الكهف: من الآية 110] ، والعمل الصالح هو الخالص الصواب، فإذا جمع العمل هذين الشرطين، كان عبادة.
__________
1 انظرهما في كتاب: تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص88-89.
2 صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
3 صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور، فالصلح مردود. وصحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
والعبادة تتعدد وتتنوع لتشمل حياة الإنسان المسلم كلها، وفي هذه الأمثلة بيان لذلك:
1- الله عز وجل لم يقصر وصف الصلاح على العبادات المخصوصة، بل جعله شاملا لأعمال أخرى يقول عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ** [التوبة: 120-121] .
2- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول اللهّ! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليها فيها وزر؛ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" 1. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن باب العبادة واسع، يدخل فيه التسبيح، والتحميد، والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى إتيان الرجل امرأته جعل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة؛ لأن في الكف عن المعصية ابتغاء مرضاة الله عز وجل أجر وعبادة، إذ بإتيان الرجل امرأته يعف نفسه عن الحرام، ويعف أهله أيضا. فإن انضم إلى ذلك نية إنجاب الذرية الطيبة، وتربيتها التربية الحسنة، وحسن رعايتهم، ازدادت دارة العبادة بازدياد دائرة النية الصالحة.
3- عن ابن عباس -رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل، قال: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" 2. فبين صلى الله عليه وسلم أن النية الطيبة وحدها، ولو لم يصاحبها عمل، يؤجر الإنسان عليها. فالنية دائما لها أجرها.
وهكذا تتسع دائرة العبادة بقدر امتداد النية المقرونة بالعمل، حتى تشمل حياة المسلم كلها، في يقظته ومنامة، وفي صمته وكلامه، وفي سعيه لمعاشه ومعاده، ما دام العمل موافقا لشرع الله صلى الله عليه وسلم وما دامت نيته ابتغاء وجه الله عز وجل.
__________
1 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
2 صحيح البخاري، كتاب الرقاق باب من هم بحسنة أو بسيئة. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتب.
المطلب الثالث: أنواع العبادة
ذكرنا في المطلب السابق أن دائرة العبادة تتسع بقدر امتداد النية لتشمل حياة الإنسان كلها، ما دام العمل موافقا لشرع الله سبحانه وتعالى، وما دامت نية العامل: ابتغاء وجه الله عز وجل. فأعمال الإنسان كلها عبادة إذا جمعت شرطي قبول العمل.
وهذه الأعمال التي حملت اسم "العبادة" يمكن تصنيفها ضمن أنواع متعددة:
أولا: عبادات اعتقادية: وهي اعتقاد ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه؛ من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وما اشبه ذلك1.
ودليل هذا النوع، قول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ** [البقرة: 177] .
ثانيا: عبادات قلبية: وهي أعمال القلوب؛ كمحبة الله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، ورجائه، وإخلاص الوجه له، والصبر على أوامره ونواهيه وأقداره، والرضا به وله وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنينة به، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله عز وجل2.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ** [المائدة: 23] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه** [الزمر: 54] ، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ** [آل عمران: 200] .
ثالثا: عبادات قولية: ومن أجلها: النطق بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، والدعاء إلى الله والذب عنه، والقيام بذكره عز وجل، وتبليغ دينه، وقراءة القرآن، ونحو ذلك3.
ومن أدلة هذا النوع: قول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ** [النحل: 125] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ** [النحل: 98] ، وقوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم** [غافر: 60] .
__________
1 انظر تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص117.
2 انظر المصدر نفسه.
3 انظر المصدر نفسه.