الوقفة الثالثة: منزلة توحيد الألوهية بين أنواع التوحيد
هذا التوحيد هو أول دعوة الرسل1 عليهم الصلاة والسلام؛ فمن أجله أرسلت الرسل؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ** [النحل: من الآية 36] .
وبهذا التوحيد أنزل الله الكتب2؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ** [الأنبياء: 25] .
وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الثواب أو العقاب في الدارين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئا، كان موحدا"3.
وهذا التوحيد هو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكفار عليه4؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 5.
و"لا إله إلا الله" هو معنى توحيد الألوهية، كما سيأتي.
الوقفة الرابعة: الأدلة الشرعية على توحيد الألوهية
"توحيد الله، وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته، في القرآن كثير جدا"، كما قال ابن تيمية رحمه الله6. ومن هذه الأدلة الكثيرة: قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا** [النساء: من الأية36] ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ** [الإسراء: من الآية23] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ** [البينة: من الآية5] ، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ** [الأنعام: 162-163] .
__________
1 انظر: مدارج الساكلين لابن القيم 3/ 443. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 21.
2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 145.
3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 52-53.
4 انظر المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 11-12.
5 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله.
6 في مجموع الفتاوى 1/ 70.
والأدلة من السنة كثيرة جدا، أكتفي بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ " قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" 1.
الوقفة الخامس: حكم من لم يأت بهذا النوع من التوحيد، وأخذ بالنوعين الباقين
لا يدخل في الإسلام من لم يأت بتوحيد الألوهية، ولو كان آخذا بالنوعين الآخرين؛ "فلو أن رجلا من الناس يؤمن بأن الله سبحانه هو الخالث المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه سبحانه المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات؛ لكن يعبد مع الله غيره، لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية، والأسماء والصفات"2، وكذا لو صرف شيا من العبادة لغير الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ** [المائدة: من الآية72] .
الوقفة السادسة: العلاقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية
يكثر في كلام علماء أهل السنة -رحم الله أمواتهم، وحفظ أحياءهم- ذكر علاقة الاستلزام والتضمن بين نوعي التوحيد هذين.
ومن كلامهم في ذلك قول العلامة ابن القيم رحمه الله: "والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها، هي العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به؛ فإنه يلزم من الإقرار بتوحيد الإلهية"3.
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد البوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته، احتج بها عليهم، على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده، لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده"4.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. واللفظ لمسلم.
2 المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 12.
3 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 2/ 153.
4 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 411.
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أقر بالأول، لزمه الثاني؛ أي: من عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، -وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته- وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده، لزم إفراده بالعبادة1.
والله عز وجل كثيرا ما يستدل على المشركين المقرين بتوحيد الربوبية بهذا. من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ** [البقرة: 21-22] .
وكما أن كان توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فإن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن توحيد الألوهية: "وهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن كل من عبد الله وحده؛ فإنه لن يعبده حتى يكون مقرا له بالربوبية"2.
فتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ أي يدخل ضمنا فيه؛ فمن عبد الله وحده لا شريك له، فلا بد أن يكون معتقدا أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر3.
الوقفة السابعة: الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
أعظم الغلط إنما حصل من جهة الانحراف في فهم مدلول كل من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فليس أحدهما هو الآخر، والفروق بينهما كثيرة جدا، وأكتفي بذكر بعضها، فمنها4:
1- فرق في الاشتقاق اللغوي؛ فالربوبية مشتق من اسم "الرب"، والألوهية مشتق من لفظ "الإله".
__________
1 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60.
2 المجموع الثمين لابن عثيمين ص22.
3 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35، وتوحيد الألوهية للحمد ص61.
4 انظر إشارات إلى هذه الفروق في الكتب التالية: الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص15-19. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60-63.
2- فرق في التعريف؛ فتوحيد الربوبية: إفراد الله بأفعاله؛ من خلق، ورزق، وإحياء، وإماتة، وإعطاء، ومنع، وضر، ونفع، إلخ. وتوحيد الألوهية: إفراد الله بأفعال عباده؛ من صلاة وزكاة وصيام وخشية ورجاء ومحبة وخوف وتوكل إلخ.
3- فرق في الكفاية؛ فتوحيد الربوبية لا يكفي وحده في دخول الإسلام، أما توحيد الألوهية فيكفي وحده؛ لأن من أتى بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية، لذلك من قال "لا إله إلا الله"، فقد أى بجميع ألأنواع التوحيد.
4- فرق في الإقرار؛ فتوحيد الربوبية أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية رفضه المشركون ولم يؤمنوا به، وعبدوا آلهة أخرى، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى** [الزمر من الآية3] ، ولما طلب منهم أن يعبدوا الله وحده، قالوا ما حكاه الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ** [ص: 5] .
5- فرق في اللزوم والتضمن؛ فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أتى بتوحيد الربوبية، لزمه أن يأتي بتوحيد الألوهية. أما توحيد الألوهية فإنه متضمن لتوحيد الربوبية؛ فمن جاء بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية.
وهذه الفروق التي ذكرتها مع غيرها من الفورق ترد على من زعم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو توحيد الربوبية، ولا يفرق بين هذا التوحيد وتوحيد الألوهية.
وثمة وقفات أخرى مع توحيد الألوهية في الفصل التالي؛ حين الحديث عن شهادة "أن لا إله إلا الله" كمعنى لهذا التوحيد، وعن العبادة، وأنواعها، وأركانها.
الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة الإلهية
المبحث الأول: شهادة أن لا إله إلا الله
المطلب الأول: معنى لا إله إلا الله
...
الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة "الإلهية"
المبحث الأول: شهادة أن لا إله إلا الله
تمهيد:
توحيد الألوهية هو معنى شهادة الحق: "أشهد أن لا إله إلا الله".
ولما كان جماع التوحيد، وأساسه، وعموده، هو معرفة معنى شهادة الحق، كان من اللازم أن يحرص المسلم على إدراك معناها، وفهم مرماها، والعمل بمقتضاها.
ويتضح ذلك في وقفات مع هذه الشهادة، في المطالب التالية:
المطلب الأول: معنى لا إله إلا الله
توحيد الألوهية، هو معنى لا إله إلا الله1.
ومعنى "لا إله إلا الله" أي: لا تعبدوا أحدا إلا الله2.
ويزداد هذا المعنى وضوحا إذا قمنا بإعراب شهادة الحق هذه، فـ:
لا: نافية للجنس.
إله: اسم "لا" مبني على الفتح في محل نصب، والخبر مرفوع مقدر، تقديره حق.
إلا: أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرغ.
الله: بدل من لفظ "إله"، وهو بدل بعض من كل.
والجملة مع خبرها المقدر: لا إله حق إلا الله.
وقد تقدم إن معنى "إله": معبود؛ فالجملة على هذا: لا معبود حق إلا الله، أو لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له3.
ويتضح هذا المعنى حين التفكر في حال الكفار الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل دماءهم، وسبى نساءهم، وأخذ أموالهم؛ لقد كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ يعلمون أنه لا خالق لهم، ولا رازق، ولا محيي، ولا مميت، ولا مدبر لأمورهم إلا الله. ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام؛ لأنهم لم يشهدوا "أن لا إله إلا الله"؛ فعبدوا آلهة مع الله عز وجل.
__________
1 انظر معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشيخ الشنقيطي ص40.
2 المصدر نفسه ص41.
3 انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص73. وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي 4/ 508.
المطلب الثاني: أركان "لا إله إلا الله
"لا إله إلا الله" لها نوعان من الأركان؛ نوع لفظي، ونوع معنوي.
أما النوع اللفظي: وهو ما تضمنه لفظ الشهادة "لا إله إلا الله": فركناه نفي وإثبات؛ "لا إله": نفي، "وإلا الله": إثبات.
وأما النوع المعنوي، وهو ما تضمنه معنى الشهادة "لا معبود بحق إلا الله": فركناه نفي وإثبات أيضا؛ فـ "لا معبود بحق": نفي، و"إلا الله": إثبات.
يقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين: فلا إله إلا الله" اشتملت على نفي وإثبات؛ فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى؛ فكل ما سواه من الملائكة، والأنبياء، فضلا عن غيرهم؛ فليس بإله، ولا له من العبادة شيء. وأثبتت الإلهية لله وحده؛ بمعنى أن العبد لا يأله غيره؛ أي لا يقصده بشيء من التأله؛ وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة؛ كالدعاء، والذبح، والنذر، وغير ذلك1.
فالنفي إذا: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن كل ما سوى الله عز وجل.
والإثبات: إثبات الإلهية واستحقاق العبادة عن كل ما سو الله عز وجل.
والإثبات: إثبات الإلهية واستحقاق العبادة لله عز وجل وحده، لا شريك له2.
وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ** [الأنعام: 162-163] .
__________
1 الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص22. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 189.
2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص39
المطلب الثالث: شروط "لا إله إلا الله"
معنى الشروط في اللغة:
شروط جمع، مفردها شرط، والشرط: إلزام الشيء، والتزامه؛ يقال: شرط له أمرا: التزمه، وشرط عليه أمرا: ألزمه إياه1.
المراد بشروط "لا إله إلا الله":
يراد بشروط "لا إله إلا الله": الأمور التي يجب على الإنسان أن يلزمها، حتى يحقق "لا إله إلا الله"، أو: ما لا تصح شهادة "لا إله إلا الله" إلا بوجودها، ويجب اجتماعها.
منزلة هذه الشروط من شهادة "لا إله إلا الله":
هذه الشروط بمثابة الأسنان للمفتاح، فلا يفتح إلا بوجودها.
وقد أشار إلى ذلك عدد من علماء الأمة؛ منهم الإمام الحسن البصري رحمه الله، حين قال للشاعر الفرزدق -وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال الفرزدق: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. فقال الحسن: نعم العدة، إن لـ "لا إله إلا الله شروطا"؛ فإياك وقذف المحصنات2.
وقيل لوهب بن منبه رحمه الله: أليس "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ فقال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك3.
ذكر شروط "لا إله إلا الله":
ذكر العلماء لكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" سبعة شروط، فعظمها بعضهم بقوله4:
علم، يقين، وإخلاص، وصدقك مع ... محبة، وانقياد، والقبول لها
وزاد بعضهم شرطا ثامنا، ونظمه بقوله:
وزيد ثامنها الكفران منك لما ... سوى الإله من الأنداد قد ألها
ويمكن بيان هذه الشروط في الوقفات التالية:
__________
1 انظر: القاموس المحيط للفيروز أبادي ص869. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص478.
2 انظر: كتاب التوحيد لابن رجب الحنبلي ص39. والدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 157.
3 أخرجه البخاري تعليقا في صحيحه، كتاب الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. وقد وصله في تاريخ 1/ 95، وأبو نعيم في حيلة الأولياء 1/ 66.
4 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منها للشيخ ابن جبرين ص77.
الوقفة الأولى: مع الشرط الأول: العلم المنافي للجهل:
المراد بهذا الشروط:
يراد بهذا الشرط: أن نعلم معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ومدلولها، علما منافيا للجهل، في النفي والإثبات؛ فننفي الألوهية عن غير الله عز وجل، ونثبتها له وحده؛ بأن نعلم أنه لا معبود بحق غيره.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عزوجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ** [محمد: من الآية19] .
والعلم هنا لا بد فيه من إقرار القلب، ومعرفته بما طلب منه علمه.
2- قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون** [الزخرف: من الآية86] .
أي: إلا من شهد بـ "لا إله إلا الله"، وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم1.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" 2.
الوقفة الثانية: مع الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك:
المراد بهذا الشرط:
حتى يكون العلم كاملا، يجب أن لا يكون فيه شك ولا ريب؛ فمن علم أن معنى "لا إله إلا الله": لا معبود بحق إلا الله، يجب أن لا يرد عل علمه شك ولا ريب، ويجب أن لا يتردد في الإيمان بمدلولها، وعليه أن يعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله تعالى، وبطلان إلهية غير الله عز وجل بأي نوع من التأله.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ** [الحجرات: 15] ؛ فاشترط لصدق إيمانهم بالله ورسوله: كونهم لم يرتابو؛ أي لم يشكو، فعلم أنه لا بد من البعد عن الشك في معنى "لا إله إلا الله".
__________
1 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص40.
2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة.
2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" 1.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: "اذهب بنعلي هاتين، فمن رأيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة" 2.
الوقف الثالثة: مع الشرط الثالث: القبول المنافي للرد:
المراد بهذا الشرط:
يراد من هذا الشرط: قبول ما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان، وتجنب ردها؛ لأن من الناس من يعلم معنى "لا إله إلا الله"، ويوقن بمدلولها؛ ولكنه يردها كبرا وحسدا؛ فالمشركون كانوا يعرفون معنى "لا إله إلا الله"، ولكنهم كانوا يستكبرون عن قبوله، كما حكى عز وجل ذلك عنهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ** [الصافات: 35] ، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ** [الأنعام: من الآية33] 3.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ** [النور: 51] .
2- قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا** [الأحزاب: 36] .
3- قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا؛ فكانت منها طئافة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا. وأصاب
__________
1 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه، دخل الجنة.
2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه، دخل الجنة.
3 انظر: الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص80-81.
طائفة منها أخرى؛ إنما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله، وشنفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 1.
الوقفة الرابعة: مع الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك:
المراد بهذا الشرط:
الانقياد من مستلزمات القبول. ولعل الفرق بينه وبين القبول: أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال، والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول. ويلزم منهما جميعا الاتباع، ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله2.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى** [لقمان آية22] .
2- قول الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا** [النساء: من الآية125] .
3- قول الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ** [الزمر: من الآية54] .
4- قول رسول الله صلى الله علي وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" 3.
الوقفة الخامسة: مع الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب:
المراد بهذا الشرط:
أن يكون صادقا في قول "لا إله إلا الله" واعتقاد مدلولها، صدقا ينافي الكذب ظاهرا، ويمنع من النفاق باطنا؛
__________
1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم. وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي والعلم. واللفظ لمسلم.
2 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص81.
3 انقسم العلماء في هذا الحديث بين مصحح ومضعف؛ لأن آفته كما ذكروا هو نعيم بن حماد. فانظر كلامهم الطويل عن هذا الحديث في: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 393-395. ومشكاة المصابيح للألباني 1/ 59. وظلال الجنة بتخريج السنة له ص12.
فلا يخالف ظاهره باطنه؛ بل يتواطأ ظاهره مع باطنه، وما في داخل قلبه مع ما يقوله بلسانه، ويجري على جوارحه من الأعمال. وهذا هو الصدق الذي يمنع من النفاق باطنا.
كذلك لا يظهر على جوارحه ما يناقض ما في قلبه من الاعتقاد بمدلول "لا إله إلا الله" ومقتضاها، واليقين به. وهذا هو الصدق الذي ينافي الكذب ظاهرا.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عز وجل: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ** [العنكبوت: 1-3] .
2- قول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ** [المنافقون: 1] ؛ فالمنافقون يقولون بألسنتهم؛ لكنهم ينكرون مدلول الشهادة بقلوبهم. لذلك حكم الله عليهم بالكذب، وبأن مجرد القول باللسان لا ينجيهم، بل هم في الدرك الأسفل من النار.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمة الله على النار" 1.
4- حين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي شرائع الإسلام، وقال له الأعرابي: والله لا أزيد عليها، ولا أنقص منها، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" 2.
الوقفة السادسة: مع الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك
المراد بهذا الشرط:
يراد بهذا الشرط: تصفية القلب وتخليصه من كل ما يضاد معنى "لا إله إلا الله"، وتصفية العبادة، وتخليصها من شوائب الشرك والرياء. والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده، دون أن يصرف منها شيء لغير الله عز وجل، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل3.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم.
2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
3 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص83-84.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص** [الزمر: من الآية3] ؛ أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له.
2- قول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ** [البينة: 5] .
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 1.
4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 2.
الوقفة السابعة: مع الشرط السابع: الحب المنافي للبغض
المحبة هي مواطأة القلب على ما يرضي الله عز وجل؛ فيحب ما أحب الله، ويكره ما كره.
المراد بهذا الشرط:
أن يحب هذه الكلمة، ويحب العمل بمقتضاها، ويحب أهلها العاملين بها.
ومن هنا قيل: "كل من ادعى محبة الله، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطلة"3.
و"ليس بصادق من ادعى محبة الله، ولم يحفظ حدوده"4.
فالعبد يحب الله عز وجل، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحب كل ما يحبه من الأعمال والأقوال، ويحب أولياءه وأهل طاعته4.
ومتى استقرت كلمة "لا إله إلا الله" في القلب؛ فإنه لا يفضل عليها شيء؛ إذ حبها يملأ القلب، فلا يتسع لغيرها، وعندئذ يجد العبد حلاوة الإيمان.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب المساد في البيوت، وكتاب الرقاق، باب العمل الذي أبتغي به وجه الله.
2 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار.
3 ذكره ابن رجب الحنبلي في كتاب التوحيد ص61.
4 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص84.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ** [البقرة: من الآية165] ، وللمفسرين في أفعل التفضيل "أشد حبا لله" قولان: أحدهما: الذين آمنوا أشد حبا لله من حب المشركين لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة المشركين مشتركة.
وثانيهما: الذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين لأندادهم1.
2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ** [المائدة: من الآية54] ؛ فالله يحبهم بسبب تمسكهم بدينه وشرعه، وهم يحبونه، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه.
3- قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ** [آل عمران: 31] . يقول الحسن البصري رحمه الله عن هذه الآية: "قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله تعالى هذه الآية"2.
4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"3.
واجتماع هذه الشروط يحقق حلاوة الإيمان؛ فيستلذ العبد الطاعات، ويحتمل المشاق، إذا كان ذلك في سبيل رضا الله عز وجل، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 359.
2 ذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 177-178، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر عن الحسن البصر.
3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.
الوقفة الثامنة: مع الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله
المراد بهذا الشرط:
أن يعتقد بطلان عبادة من سوى الله عز وجل، وأن كل المعبودات سوى الله باطلة، وجدت نتيجة جهل الشمركين وضلالهم؛ فمن أقرهم على شركهم، أو شك ففي بطلان ما هم عليه؛ فليس بموحد، ولو قال لا إله إلا الله، ولو لم يعبد غير الله1.
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الكفر بما يعبد من دون الله:
"وهذا من اعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يرحم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه"2.
من الأدلة على هذا الشرط:
1- قول الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ** [البقرة: 256] .
2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله"، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" 3.
وبعد: فهذه هي شروط "لا إله إلا الله"، ولا بد من اجتماعها، والمداومة عليها كي يختم للعبد بخاتمة حسنة؛ لأن الأعمال بالخواتيم.
فمتى حقق المسلم هذه الشروط، كان من أهل "لا إله إلا الله" القائمين بها علما وعملا واستحق محبة الله وثوابه، والتنعم في جنات النعيم4.
__________
1 انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما للشيخ ابن جبرين ص78.
2 كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص33.
3 صحيح مسلم، كتاب افيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله.
4 انظر للاستزادة عن هذه الشروط: تيسير الإله بشرح أدلة شروط لا إله إلا الله لعبيد الجبري.
المطلب الرابع: نواقض "لا إله إلا الله"
النواقض لغة:
النواقض جمع، مفرده ناقض. يقال: نقض الشيء نقضا: أفسده بعد إحكامه.
ونقض ما أبرمه فلان: أبطله؛ فالنقض ضد الإبرام، ومنه نقض العهد أواليمين: نكثه، ونقض الحبل أو الغزل: حل طاقاته، ونقض البناء: هدمه1.
المراد بنواقض "لا إله إلا الله":
يراد بنواقض "لا إله إلا الله" مفسداتها؛ أي الأمور التي إذا فعلها الشخص، فسد توحيده وانتقض2؛ فإذا وجد في العبد ناقض من نواقض "لا إله إلا الله"؛ فإنه لا يكون من المسلمين، ولا يكتسب أحكامهم، بل يعطي أحكام أهل الشرك والكفر.
ذكر ناقض "لا إله إلا الله":
تنوعت طرائق العلماء في ذكر هذه النواقض، وتقسيماتها، وتفريعاتها.
وثمة تقسيمات متعددة، وكلها صحيحة.
ولكني سأكتفي بالنواقض التي ذكرها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته الموسومة بـ "نواقض الإسلام"3.
وهذه النواقض عشرة، والحديث عنها سيكون في الوقفات التالية:
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص651. والقاموس المحيط للفيروز أبادي ص846. ولسان العرب لابن منظور 7/ 242. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص947.
2 انظر شرح نواقض التوحيد لحسن بن علي عواجي ص9.
3 هذه الرسالة مطبوعة ضمن مؤلفات الشيخ محمد بنعبد الوهاب، قسم العقيدة والآداب، ص385-387.
الوقفة الأولى: مع الناقض الأول: الإشراك بالله 1
المراد بهذا الناقض:
يقع هذا الناقض إذا صرف الإنسان شيئا من العبادة لغير الله عز وجل؛ من صلاة، أو زكاة، أو ذبح، أو نذر، أو نحو ذلك.
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: "الشرك هو تشريك غير الله مع الله في العبادة؛ كأن يدعو الأصنام أو غيرها، أو يستغيث بها، أو ينذر لها، أو يصلي لها، أو يصوم لها، أو يذبح لها"2.
ومن العبادة: النذر؛ فمن صرفه لغير الله فقد أشرك. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله: إن الله تعالى مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة. فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه، فقد اشرك3.
من الدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ** [المائدة: من الآية72] ؛ فالله عز وجل قدحرم الجنة على كل مشرك، وجعل النار مأواه الدائم لأنه ترك القيام بعبوديته عز وجل4.
2- قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا** [النساء: 116] ؛ فـ "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار" 5، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
__________
1 سيأتي الحديث عن هذا الناقض مفصلا في الباب الثاني من هذا الكتاب.
2 مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 4/ 32.
3 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص203.
4 انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص191.
5 صحيح مسلم، كتاب افيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار.
الوقفة الثانية: مع الناقض الثاني: من جعل وسائط وشفعاء بينه وبين الله، يدعوهم مع الله، أو من دون الله، أو يسألهم الشفاعة، أو يتوكل عليهم 1
المراد بهذا الناقض:
أن يجعل العبد لنفسه واسطة بينه وبين الله عز وجل، فيما لا يقدر إلا الله، أو فيما لا يشرع ولا يجوز للعبد أن يجعله واسطة؛ كطلب الرحمة والمغرفة، ودخول الجنة، وطلب الشفاء، ولا رزق من غير الله سبحانه وتعالى؛ فهذا من الشرك الأكبر2.
يقول شيخ افسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا الناقض: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار؛ مثل أن يسالهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات؛ فهو كافر بإجماع المسلمين3. لأن الثمرة التي يريد أن يصل إليها من يجيز جعل الوسائط بين العبد وربه، هو إثبات الاستغاثة والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذا هو الشرك بعينه4.
من الأدلة على هذا الناقض:
1- قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ** [الأحقاف: 5] .