المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية
الوقفة الأولى: أهل السنة والجماعة
...
المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية:
عرفنا بعض المسميات التي أطلقت على علم العقيدة الإسلامية.
وثمة مسميات أطلقت على أهل العقيدة الصحيحة وحملتها. سأذكر بعضها في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: أهل السنة والجماعة
من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: أهل السنة والجماعة.
التعريف بأهل السنة والجماعة:
هذا المسمى يجمع وصفين اثنين لأصحابه، وهما السنة، والجماعة.
والسنة قد تقدم معناها اللغوي، وذكرنا أن العلماء يعرفونها اصطلاحا بأنها: ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو وصف أو تقرير1.
والسنة قد تطلق على ما يقابل البدعة، كقولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا، وفلان على سنة -إذا وافق التنزيل والأثر في القول والفعل-، وفلان على بدعة -إذا عمل خلاف ذلك-2. وهاتان الكلمتان -السنة والبدعة- تستعملان دائما ككلمتين متضادتين؛ لأن السنة هي الطريق التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم، والبدعة هي ترك تلك الطريق والانحراف عنها.
وقد ورد في الأثر ذكر السنة مقابل البدعة؛ من ذلك ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أحدث قوم بدعة، إلا رفع مثلها من السنة" 3. وما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما:
__________
1 انظر ص15، 16.
2 انظر مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص29.
3 مسند أحمد 4/ 105، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/ 253.
"ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيى البدع، وتموت السنن"1.
فالسنة بهذا المعنى، تشمل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال.
أما الجماعة في اللغة: فهي مأخوذة من الجمع؛ وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض؛ يقال: جمعته فاجتمع. قال ابن فارس: "الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء"2. والجماعة: العدد الكثير من الناس، أو القوم المجتمعون على أمر ما، أو طائفة يجمعهم غرض واحد3.
والجماعة شرعا هم: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، والتابعون، وتابعوهم بإحسان4.
وأهل الشيء هم: أخص الناس به. يقول أهل اللغة: أهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكانه، وأهل الإسلام: من يدين به، وأهل المذهب: من يدين به5.
وبإمكاننا بعدما علمنا معنى أهل، والسنة، والجماعة، أن نعرف أهل السنة والجماعة بأنهم المتبعون لمنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الأصول والفروع6.
وقيل: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اعتقادا وقولا وفعلا؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الفرقة الناجية، فأجاب مرة بأنها ما كان عليه هو وأصحابه، وأخرى قال: هي الجماعة7.
__________
1 أخرجه ابن وضاح القرطبي في كتابه: البدع والنهي عنها ص45.
2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 479.
3 انظر لسان العرب لابن نظور 8/ 53-60.
4 انظر مفهوم أهل السنة والجماعة للعقل ص54.
5 انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 150.
6 انظر: الاعتصام للشاطبي 1/ 28. وشرح العقيدة الواسطية للهراس ص16-17.
7 الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب شرح السنة. وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم. وابن أبي عاصم في السنة 1/ 32-33، تحت الأرقام 63، 64، 65. وقال الألباني في تعليقه على الحديث: "والحديث صحيح قطعا؛ لأن له ست طرق أخرى عن أنس، وشواهد عن جمع من الصحابة" "1/ 42".
وقيل: "هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها ظاهرا وباطنا في القول والعمل والاعتقاد"1.
ملاحظة: لا يقصد بالجماعة هنا مجموع الناس وعامتهم، ولا أغلبهم، ولا سوادهم، ما لم يجتمعوا على الحق؛ لأن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة، ولو كنت وحدك، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت وحدك"2.
يقول عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة "ت665هـ: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف كثيرا؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم, ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم"3.
__________
1 انظر: رسائل في العقيدة ص53، والمجموع الثمين 3/ 3، وكلاهما لفضيلة الشيخ ابن عثيمين.
2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 109.
3 الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص34.
الوقفة الثانية: السلف
من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: السلف.
التعريف بهم:
السلف في اللغة: جمع سالف، والسالف: المتقدم. والسلف: الجماعة المتقدمون1.
قال ابن فارس: "سلف: السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق. من ذلك: السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون"2.
فالسلف -إذًا- من سلف يسلف سلفا وسلوفا أي: تقدم3.
__________
1 انظر لسان العرب لابن منظور 6/ 158.
2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/ 95.
3 انظر: المفردات للراغب الأصفهاني ص239. والوجوه والنظائر لألفاظ القرآن للدامغاني ص243.
وسلف كل إنسان: من تقدمه من آبائه وذوي قرابته الذين هم فوقه في السن والفضل، وأحدهم سالف1. وقيل: من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته. ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين بالسلف الصالح2. هذا عن السلف في اللغة.
أما السلف في الاصطلاح: فقد اختلف العلماء في تحديد المراد بهم، نتيجة اختلافهم في تحديد الزمن الذي ينسبون إليه، إلى عدة أقوال:
1- القول الأول: أنهم الصحابة رضي الله عنهم فقط، وهو قول عدد من شراح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني3.
2- القول الثاني: أنهم الصحابة والتابعون. وممن ذهب إلى هذا أبو حامد الغزالي، حين قال: "اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر، هو مذهب السلف؛ أعني مذهب الصحابة والتابعين"4.
3- القول الثالث: أنهم الصحابة، والتابعون، وتابعوا التابعين؛ أي: القرون الثلاثة التي أثبت لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخيرية بقوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 5.
وإلى هذا القول ذهب عدد كبير من أهل العلم؛ كالإمام الشوكاني، والإمام السفاريني، وغيرهما5.
ملاحظة:
يلاحظ على هذه الأقوال جميعها أنها تدخل من كان في القرون الأولى في مسمى السلف. ولكن ليس كل من كان في ذلك الزمن يسمى سلفيا، إذ المعروف أن الفرق ظهرت
__________
1 انظر معالم التنزيل للبغوي 4/ 142.
2 انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 390.
3 انظر وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور محمد باكريم ص97، 98.
4 إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص53.
5 صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
في القرون الأولى، فـ"ليس السبق الزمني كافيا في تعيين السلف، بل لا بد أن يضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسنة نصا وروحا. فمن خالف رأيه الكتاب والسنة، فليس بسلفي، وإن عاش بين ظهراني الصحابة والتابعين"1.
ويصح أن يضاف إلى أهل القرون المفضلة الموافقين للكتاب والسنة، من وافق الكتاب والسنة، ونهج نهج أولئك الكرام، واتبع آثارهم ومروياتهم الصحيحة التي أبانوا بها الحق.
فلا شك أنه داخل في مفهوم هذه الكلمة "السلف". ولقد وفق الإمام السفاريني رحمه الله حين حدد مذهب السلف بأنه "ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفا عن سلف، دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي؛ مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء"2.
إذًا: ليس المراد بالسلف أهل القرون المفضلة فحسب، بل يدخل فيهم كل من وافق الكتاب والسنة، ونهج منهج الصحابة رضي الله عنهم.
مفهوم الخلف عند علماء السلف:
الخلف في اللغة هو من جاء خلف المتقدم، سواء أكان تأخره في الزمن، أو في الرتبة3.
وإذا أطلقت كلمة "الخلف" في مقابل كلمة "السلف" يراد بها: "من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي"1، كما تقدمت عبارة الإمام السفاريني في ذلك. فمن انحرف عن الكتاب والسنة، ومال عن طريقة الصحابة رضي الله عنهم، فلم يتخذها منهجا له، فهو خلفي، وإن عاش بين ظهراني الصحابة.
__________
1 بتصرف من كتاب: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل للدكتور الجليند ص52.
2 لوامع الأنوار للسفاريني 1/ 20.
3 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1042-1043.
الوقفة الثالثة: أهل الحديث
من المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الصحيحة: أهل الحديث.
التعريف بهم:
الحديث في اللغة: ضد القديم. ويستعمل في كثير الكلام وقليله1.
وهو في الاصطلاح: ما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة2.
وأهل الحديث: هم المنسوبون إليه بسبب اتباعهم له؛ فهم كل من جعل كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدرا من مصادر التلقي، يستفيدون منه عقائد الإسلام الصحيحة، ويبنون عليه، سواء أكانوا علماء حديث، أو فقه، أو أصول، أو سوى ذلك.
يقول الإمام الصابوني "ت449هـ": "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة، حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم"3.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية "ت728هـ": "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته، أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته، وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا. وكذا أهل القرآن"4.
فأهل الحديث هم الذين اتبعوا آثار الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وكان لهم عناية خاصة بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: جمعا، وحفظا، ورواية، وفهما، وعملا في الظاهر والباطن.
__________
1 انظر المصدر نفسه ص214.
2 انظر الحديث النبوي للدكتور محمد الصباغ ص140.
3 عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص3-4.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 95.
المبحث الثاني: مصادر العقيدة الإسلامية
العقيدة الإسلامية لها مصدران فقط، هما: كتاب الله عز وجل، وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس للعقيدة مصدر ثالث؛ لأن إجماع السلف الصالح لا يكون إلا على الكتاب والسنة1.
يقول الإمام البيهقي "ت458هـ": "فأما أهل السنة، فمعولهم فيما يعتقدون: الكتاب والسنة"2.
ويقول العلامة صديق حسن خان رحمه الله: "للإسلام أصلان فقط؛ القرآن، والسنة الصحيحة"3. ويعقب على ذلك بقوله: "وإنما حصرنا الأصول في كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مأمورة بهما"3.
وما على الأمة إلا الاعتصام بما أمرت بالاعتصام به؛ كتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ إذ الاعتصام بهما سبب للعصمة من الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب للعصمة من الوقوع في الاضطراب في فهم العقيدة، ولأنه يجمع الأمة ولا يفرقها. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى** [طه من آية 123] .
ولا ريب أن الاعتصام بالكتاب والسنة من أعظم ما من الله به على هذه الأمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن السلف الصالح: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم: اعتصامهم بالكتاب والسنة"4.
__________
1 انظر الاعتصام للشاطبي 2/ 252.
2 مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ص462.
3 الدين الخالص لصديق حسن خان 3/ 36.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 13/ 28.
منزلة العقل ومجالاته في الإسلام:
الله عز وجل امتن على الإنسان بنعمة العقل الذي ميزه به عن سائر الحيوانات. وهذه النعمة هي التي ترفع صاحبها إلى مستوى التكاليف الشرعية الإلهية، وتؤهله لإدراكها وفهمها1.
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني، وتكريمه، والاعتماد عليه في فهم النصوص كالعقيدة الإسلامية، ويبدو هذا واضحا في آيات كثيرة من كتاب الله، مدح الله عز وجل فيها العقل، ورفع من شأنه، من خلال توجيهه إلى النظر، والتفكر، والتدبر، والتأمل2.
ولكن لما كان للعقول في إدراكها حد تنتهي إليه لا تتعداه، لم يجعل الله لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب3؛ فلم يجعل لها سبيلا لإدراك أغلب مسائل الاعتقاد؛ إذ لا يمكن للعقول أن تستقل بمعرفتها لولا مجيء الوحي بها وبأدلتها العقلية. وما على العقول إلا فهمها وتدبرها.
وأيضا، فإن كثيرا من مسائل الاعتقاد لا تدرك العقول حقيقتها وكيفياتها، ولو فهمت أدلتها وتدبرتها؛ كالروح التي في أجسادنا: عسر على الناس التعبير عن حقيقتها لما لم يشهدوا لها نظيرا4. وكذا صفات ربنا عز وجل، رغم أننا فهمنا معانيها بعقولنا من اعتبار الغائب بالشاهد، إلا أن حقيقتها وكيفياتها لا تدركه عقولنا؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف. والموصوف عز وجل ليس كمثله شيء؛ فهو متصف بصفات الكمال التي لا يماثله فيها شيء5. وكذا ما أخبر الله جل جلاله عنه من أمور الآخرة؛ كالجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، وغير ذلك من المغيبات، ليست من مدارك العقل، ولا في متناوله، مع أن العقل يقر بها، ولا يحيلها6.
__________
1 انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 150.
2 انظر النبوات لابن تيمي ص189.
3 انظر الاعتصام للشاطبي 2/ 318.
4 انظر تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص202.
5 انظر الرسالة التدمرية لابن تيمية ص44-45.
6 انظر المصدر نفسه ص46.
وإذا كان كذلك، فالعقل مطالب بالتسليم للنصوص الشرعية الصريحة، ولولم يفهمها أو يدرك الحكمة التي فيها؛ فالأمر ورد بقبولها والإيمان بها. فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فمن الله التوفيق، وله الحمد والشكر على ذلك. ومالم ندركه أو نفهمه، آمنا به وصدقناه1.
درء تعارض العقل الصحيح والنقل الصريح:
بقي أن نتساءل: هل يتعارض العقل الصحيح -السليم من الشبهات والأهواء- مع النص الصحيح الصريح؟ والجواب: تعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح غير متصور أصلا، بل هو مستحيل. فإذا توهم التعارض بسبب عدم فهم للنقل، أو فساد في العقل، فإن الوحي مقدم ومحكم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فيأخذ المسلمون جميع دينهم -من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك- من كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وليس ذلك مخالفا للعقل الصريح؛ فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل. وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل. ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم، لا من الكتاب والسنة"2.
__________
1 انظر صون المنطق والكلام للسيوطي ص182.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 490.
المبحث الثالث: ذكر بعض خصائص العقيدة الإسلامية
المسالة الأولى: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها توقيفية
...
المبحث الثالث: من خصائص العقيدة الإسلامية
التعريف بـ"خصائص":
الخصائص جمع خصيصه. يقال: خصه بالشيء خصا وخصوصا وخصوصية، وخصيصي. واختصه بكذا؛ أي: خصه به، فاختص، وتخصص، أي: تفرد1.
والخصيصة: هي الصفة البارزة المميزة. فإذا قلنا: خصائص العقيدة، فمرادنا: صفاتها البارزة التي تنفرد بها، وتميزها عن بقية العقائد.
وللعقيدة الإسلامية سمات بارزة تميزها عن بقية العقائد، سأقتصر على ذكر بعضها.
ولبيان هذه الخصائص، قسمت هذا المبحث إلى أربع مسائل:
المسألة الأولى: أنها توقيفية.
المسألة الثانية: أنها غيبية.
المسألة الثالثة: التكامل والشمول.
المسألة الرابعة: أنها وسطية.
المسألة الأولى: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها توقيفية
معنى التوقيف في اللغة:
التوقيف لغة مأخوذة من الوقف. يقال: وقف الدار، إذا حبسها. والتوقيف في الحج: وقوف الناس في المواقف. وموقف الرجل: وقوفه في أي مكان حيث كان2.
__________
1 انظر: الصحاح للجوهري 3/ 1037. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص796.
2 انظر المصدران السابقان 4/ 1445، ص1112-1113.
المراد من كون العقيدة الإسلامية توقيفية:
المراد من كون العقيدة توقيفية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوقف أمته على مباحث العقيدة، فلم يترك لهم شيئا إلا بينه1. فيجب على الأمة أن تقف عند الحدود التي حدها وبينها2.
ما الذي يلزم من كون العقيدة توقيفية:
لقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقيدة بالقرآن والسنة، فما ترك منها شيئا إلا بينه. ويلزم من هذا:
1- أن نحدد مصادر العقيدة، بأنها الكتاب والسنة فقط.
2- أن نلتزم بما جاء في الكتاب والسنة فقط. فليس لأحد أن يحدث أمرا من أمور الدين، زاعما أن هذا الأمر يجب التزامه أو اعتقاده؛ فإن الله عز وجل أكمل الدين، وانقطع الوحي، وختمت النبوة، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا** [المائدة: من الآية 3] ، ويقول -صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 3. وهذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وأصل من أصول العقيدة4.
3- أن نلتزم بألفاظ العقيدة الواردة في الكتاب والسنة، ونتجنب الألفاظ المحدثة التي أحدثها المبتدعة؛ إذ العقيدة توقيفية، فهي مما لا يعلمه إلا الله5.
__________
1 انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة للعقل ص38. والمدخل لدراسة العقيدة للبريكان ص62.
2 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص383.
3 صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود.
4 انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للعقل ص39.
5 انظر المرجع نفسه.
المسألة الثانية: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها غيبية
معنى الغيب في اللغة:
الغيب لغة: من غاب غيبا، وغيبة، وغيبوبة، وغيابا، خلاف شهد وحضر. يقال: غابت الشمس، إذا غربت واستترت عن العين. والغيب: كل ما غاب عنك، وهو خلاف الشهادة1.
المراد من كون العقيدة الإسلامية غيبية2:
1- أنها تبحث في قضايا غيبية لا مجال للعقل في إدراكها، ومبناها على التسليم والتصديق المطلق بما جاء عن الله عز وجل، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ظاهرا وباطنا. "بعض قضايا العقيدة غيب".
2- أن أهلها يقفون في أمرها على ما جاء عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يؤمنون بالغيب.
وقد وصفهم الله عز وجل بذلك في قوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ** [البقرة: 1-3] .
ما الذي يلزم من كون العقيدة الإسلامية غيبية:
لما كانت أغلب قضايا العقيدة غيب بالنسبة لنا، لزمنا كمؤمنين بالغيب:
1- أن نسلم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والتسليم لله ولرسوله يتمثل في التسليم بما في الكتاب والسنة.
2- أن لا نخوض ولا نجادل في العقيدة ونصوصها -لأنها غيب- إلا بقدر البيان، وإقامة الحجة, مع التزام منهج السلف في ذلك3.
3- أن لا نؤول نصوص العقيدة، ولا نصرفها عن ظاهرها بغير دليل شرعي ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
__________
1 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص155. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص167.
2 انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للعقل ص30، 39.
3 انظر: الشرح والإبانة لابن بطة العكبري ص123-127. والشريعة للآجري ص54-67.
المسألة الثالثة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها شمولية
معنى الشمول في اللغة:
يقال: شمل الأمر القوم شملا، إذا شملهم. واشتمل بالثوب، إذا أداره على جسده كله، حتى لا تخرج منه يده. واشتمل على كذا، أي: احتواه وتضمنه1.
المراد من كون العقيدة شمولية:
أنها لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أتت بإيضاحها، ووضعت لها نظاما بأروع إحكام، وأتقن بيان؛ فقد أحاطت وهيمنت على الأعمال، والأقوال، والسلوك، وكل أمور الحياة.
ولا يتم إيمان العبد إلا عندما يخضع كل أمور حياته لهذا الدين.
مظاهر شمولية العقيدة 2:
لم تغفل العقيدة الإسلامية أمرا من أمور الدين والدنيا إلا أتت عليه بالبيان والإيضاح التامين؛ فالله عز وجل ما فرط في الكتاب من شيء، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بين لأمته جميع ما يحتاجون إليه. ومن مظاهر هذه الشمولية:
1- أنها أعطت الإنسان تصورا كاملا عن الكون الذي يحيا فيه.
2- أنها تناولت كل القضايا التي بها تستقيم حياة الإنسان.
3- أنها أحاطت بالإنسان كله من حين ولادته، حتى وفاته. بل قبل ولادته، وبعد وفاته؛ قبل أن يتزوج أبوه أمه، وحتى يستقر في الجنة، أو يدخل النار -عياذا بالله.
__________
1 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1319. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص494-495.
2 انظر تفصيل ذلك في كتاب: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص69-72.
المسألة الرابعة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها وسطية
معنى الوسط في اللغة:
يأتي الوسط لغة لعدة معان:
1- ما كان بين طرفي الشيء، وهو منه. كقولك: كسرت وسط الرمح، جلست وسط الدار، جئت وسط النهار1. ومنه قول سوار بن المضرب:
إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط الناس عريانا
2- يأتي صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود. فأوسط الشيء: أفضله وخياره.
والفردوس أفضل الجنة، وهو أعلاها، ووسطها. ومرعى وسط أي: خيار. ومنه قالت العرب: "وسط المرعى خير من طرفيه". وواسطة القلادة: هي الجوهرة التي تكون في وسطها، وهي أجودها2.
3- ويأتي وسط بمعنى عدل. فالوسط من كل شيء: أعدله3.
والملاحظ على الوسط أنه في كل معانيه اللغوية لا يخرج عن العدل، والفضل، والخيرية.
المراد من كون العقيدة وسطية:
يراد من قولنا عن العقيدة: إنها وسطية: أنها:
1- أفضل العقائد، وخيارها.
2- أعدل العقائد.
3- لا إفراط ولا تفريط فيها.
__________
1 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 5/ 210. ولسان العرب لابن منظور 7/ 426-428.
2 انظر الصحاح للجوهري 3/ 1167.
3 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 5/ 209. وتاج العروس للزبيدي 5/ 238.
من مظاهر وسطية العقيدة الإسلامية:
لا يستطيع الإنسان أن يتحدث في صفحات محدودة، بل ولا مجلدات عن مظاهر وسطية العقيدة الإسلامية؛ لأن ذلك أكثر من أن يحصر؛ فالأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس، ورسولها -صلى الله عليه وسلم- أفضل رسول، وكتابها القرآن الكريم أفضل الكتب، وآخرها، والمهيمن عليها. فهي خيار في خيار.
ولي وقفتان، أتحدث من خلالهما عن مظاهر وسطية عقيدة هذه الأمة الوسط.
الوقفة الأولى: وسطية أمة الإسلام بين الأمم الأخرى:
بدت وسطية أمة الإسلام بين الأمم الأخرى في الأمور التالية:
1- في توحيد الله عز وجل، وصفاته: فهي وسط بين اليهود والنصارى؛ بين اليهود الذين وصفوا الرب سبحانه وتعالى بصفات النقص التي يختص بها المخلوق، وشبهوه به؛ فقالوا: إنه بخيل، وفقير، وأنه يتعب فيستريح، وأنه يتمثل في صورة البشر، وغير ذلك1.
وبين النصارى الذين وصفوا المخلوق بصفات الخالق عز وجل؛ فشبهوه به، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن المسيح ابن الله، وإنه يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ويثيب، ويعاقب، إلخ2.
وبينهما ظهرت وسطية المسلمين الذين وحدوا الله عز وجل، فوصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، وعن مماثلته لشيء من المخلوقات في شيء من الصفات، وقالوا: إن الله ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله3.
__________
1 انظر تفصيل ذلك في كتاب: وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص238، 244-249.
2 انظر المرجع نفسه ص238، 249-257.
3 انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/ 168-169.
2- في أنبياء الله عز وجل، ورسله: فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ بين اليهد الذين قتلوا الأنبياء، ورموهم بكل شين ونقيصة، وجفوهم، واستكبروا عن اتباعهم.
وبين النصارى الذين غلوا في بعضهم، فاتخذوهم أربابا من دون الله، واتخذوا المسيح عليه السلام إلها1.
وبينهما ظهرت وسطية المسلمين الذين أنزلوا الأنبياء منازلهم، وعزروهم، ووقروهم، وصدقوهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، وآمنوا بهم جميعا عبيدا لله عزوجل، ورسلا مبشرين ومنذرين. ولم يعبدوهم، أو يتخذوهم أربابا من دون الله؛ فهم لا يملكون ضرا ولا نفعا، ولا يعلمون الغيب2.
3- في الشرائع: فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ فاليهود منعوا أن يبعث الخالق عز وجل رسولا بغير شريعة موسى عليه السلام، وقالوا: لا يجوز أن ينسخ الله ما شرعه، أو يمحو ما يشاء، أو يثبت ما يشاء.
والنصارى جوزوا لأحبارهم ورهبانهم أن يغيروا دين الله؛ فيحلوا ما حرم سبحانه وتعالى، ويحرموا ما أحل3.
أما المسلمون، فقالوا: لله الخلق والأمر؛ يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، والنسخ جائز في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فليس لمخلوق أن يبدل أمر الخالق سبحانه وتعالى مهما بلغت منزلته، أو عظم قدره.
4- في أمر الحلال والحرام، فهي وسط أيضا بين اليهود والنصارى؛ فاليهود حرم عليهم كثير من الطيبات، منها4:
__________
1 انظر تفصيل ذلك في كتاب: وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص238، 260-277.
2 انظر المرجع نفسه ص238، 277-284. وانظر في معنى التعزير: الصارم المسلول لابن تيمية ص422.
3 انظر المرجع السابق ص239.
4 انظر وسطية أهل السنة للدكتور محمد باكريم ص240.
أ- ما حرمه إسرائيل؛ يعقوب عليه السلام على نفسه، كما حكى تعالى ذلك عنه بقوله:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ** [آل عمران: من الآية 93] .
ب- ما حرمه الله عز وجل عليهم جزاء بغيهم وظلمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا** [النساء: 160] .
والنصارى أسرفوا في إباحة المحرمات؛ فأحلوا ما نصت التوراة على تحريمه، ولم يأت المسيح عليه السلام بإباحته؛ فاستحلوا الخبائث، وجميع المحرمات؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير1.
أما المسلمون: فقد أحلوا ما أحل الله لهم في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الطيبات، وحرموا ما حرم عليهم من الخبائث؛ كما قال الله عنهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ