الكتاب: المفيد في مهمات التوحيد
المؤلف: الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي
الناشر: دار الاعلام
الطبعة: الأولى 1422هـ- 1423هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ** [آل عمران: 102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا** [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا** [الأحزاب: 70-71] .
"أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 1، "وكل ضلالة في النار"2.
ثم أما بعد: فإن الله عز وجل بعث نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. أرسله ربه عز وجل على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، وقلة من العلم؛ حين حرف الكلم، وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أهوائهم وآرائهم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. فأشرقت الأرض برسالته -صلى الله عليه وسلم- بعد ظلمتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها وتفرقها، وفتح الله بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، والمعروف والمنكر، وطريق أولياء الله السعداء، وأعداء الله الأشقياء.
__________
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
2 هذه الزيادة أخرجها البيهقي في السنن الكبرى 3/ 214.
ولم يمت رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حتى بين للناس جميع ما يحتاجون إليه، فتركهم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ بعده عنها إلا هالك.
وقد اعتصم أصحابه من بعده بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ودعوا الناس إليهما بالحكمة والموعظة الحسنة. ومن بعدهم قام علماء أمته -صلى الله عليه وسلم- بمهمة الدعوة إلى الله عز وجل خير قيام؛ فوضحوا للناس أمور دينهم، وكان من أجل ما وضحوه العقيدة، التي أولوها قدرا كبيرا من جهودهم، وجهادهم، وتعليمهم، وتأليفهم. ورغبة مني في التشبه بهم -رغم قصر الباع، وقلة البضاعة- كتبت هذه الورقات المقتبسة من كتبهم1، سائلا الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أبها في 29/ 9/ 1422هـ
__________
1 أصل هذا الكتاب: محاضرات ألقيتها على طلبة كلية المعلمين، في مادة العقيدة الإسلامية "101س" "الإعداد العام".
تمهيد
المبحث الأول: تعريف ببعض المصطلحات
المسألة الأولى: في بيان معنى العقيدة
...
المبحث الأول: تعريف بعض المصطلحات
المسألة الأولى: في بيان معنى العقيدة في اللغة والاصطلاح
قبل الحديث عن مصادر العقيدة، وذكر بعض خصائصها، لا بد من وقفتين:
الوقفة الأولى: في معنى العقيدة لغة
مادة "عقد" تدور بين عدة معان، منها: الربط والشد، والعهد، والملامة، والتأكيد1.
1- الربط والشد بقوة. يقال: عقد الحبل، يعقده عقدا، إذا ربطه وشده بقوة.
2- العهد. يقال: بين هذه القبيلة وتلك عقد أي: عهد. وجمعه عقود. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود** [المائدة: من الآية 1] ؛ أي: أوفوا بالعهود التي أكدتموها.
3- الملازمة. يقال: عقد قلبه على الشيء، أو عقد قلبه الشيء، إذا لزمه. ومن هذا الباب قوله -صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 2؛ فمعقود في نواصيها أي: ملازم لها، حتى لكأنه عقد عليها.
4- التأكيد. يقال: عقد البيع، إذا أكده. ومنه العقد المكتوب في البيع؛ إذ هو لم يكتب إلا بعد إيقاع البيع وتأكيده.
الوقفة الثانية: في بيان معنى العقيدة اصطلاحا
بعد أن عرفنا بعض معاني العقيدة في اللغة، لنا أن نتساءل: ما هو معنى العقيدة الذي تعارف عليه أهل العلم؛ إذ من المعلوم أن لكل علم مصطلحاته الخاصة به، والتي تعد جزءا من منهجيته؟.
__________
1 انظر من كتب اللغة: الصحاح للجوهري 2/ 510. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص383.
وأساس البلاغة للزمخشري 2/ 131-132. والكشاف له 1/ 466. ولسان العرب لابن منظور 3/ 295-300.
2 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
فنجيب: العقيدة اصطلاحا هي:
1- التصديق الجازم فيما يجب لله عز وجل من الوحدانية، والربوبية، والإفراد بالعبادة، والإيمان بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا1.
2- تصميم القلب، والاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه شك في المطالب الإلهية، والنبوات، وأمور المعاد، وغيرها مما يجب الإيمان به2. والمطالب الإلهية: الإيمان بالله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
3- ما عقد الإنسان قلبه عليه، ودان لله عز وجل به3.
س: ما هو الرابط بين المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي؟
ج: الارتباط بينهما ظاهر؛ لأن هذا الذي جزم بالشيء، وصمم عليه، قد ألزمه قلبه، وربطه عليه، وشده بقوة، بحيث لا يتفلت منه أبدا.
__________
1 انظر الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص7.
2 انظر العقيدة الإسلامية وتاريخها للدكتور محمد أمان الجامي ص5.
3 انظر الأسئلة والأجوبة الأصولية للسلمان ص23.
المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التى أطلقت على العقيدة الإسلامية
مدخل
...
المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على العقيدة الإسلامية
الملاحظ أن العقيدة لم ترد بلفظها في الكتاب والسنة، وإن كانت قد وردت مادتها، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ** [المائدة: من الآية89] ؛ أي: يؤاخذكم إذا حنثتم في الأيمان التي وثقتموها وأكدتموها.
وكما في قوله -صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1؛ أي: ملازم لها إلى يوم القيامة.
__________
1 تقدم تخريجه ص8.
كذلك، لم يستخدم علماء الأمة في القرون المفضلة مصطلح "عقيدة"، وإنما استخدموا مصطلحات أخرى. وأول من استخدم هذا المصطلح -فيما أعلم- هو الإمام أبو حاتم الرازي "ت327هـ" فقي كتابه الذي وسمع بـ"أصل السنة واعتقاد الدين"، وتلاه الإمام أبو بكر الإسماعيلي "ت371هـ" الذي وسم كتابه بـ"اعتقاد أئمة الحديث"، وتبعه الأئمة؛ كأبي القاسم اللالكائي "ت418هـ" في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، وأبي عثمان الصابوني "ت449هـ" في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وأبي بكر البيهقي "ت458هـ" في كتابه "الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة"، وقوام السنة الأصبهاني "ت535هـ" في كتابه "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، وغيرهم.
ولنا وقفات مع المصطلحات الأخرى التي استخدما العلماء بدلا من مصطلح "العقيدة"، "ومن ثمرة الوقوف على أسماء هذا العلم: معرفة مصادره الأصيلة"1.
__________
1 أصول الدين عند الأئمة الأربعة للدكتور ناصر القفاري ص14.
الوقفة الأولى: مع مسمى "التوحيد"
تعريف التوحيد لغة واصطلاحا:
هو في اللغة مصدر من: وحد يوحد توحيدا؛ إذا أفرده وجعله واحدا1. وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات؛ نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له. فنقول مثلا في توحيد الألوهية: لا يتم للإنسان التوحيد، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فينفي الألوهية عما سوى الله، ويثبتها لله وحده2.
__________
1 انظر لسان العرب لابن منظور 3/ 448.
2 انظر المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 7.
فعلى هذا: يطلق الواحد على المنفرد بخصائصه عما سواه. يقول ابن فارس: "وحد: الواو والحاء والدال: أصل واحد يدل على الانفراد. من ذلك: الوحدة، وهو واحد قبيلته: إذا لم يكن فيهم مثله. قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير
ولقيت القوم موحد موحد، ولقيت الرجل وحده. ولا يضاف إلا في قوله: نسيج وحده"1.
والتوحيد في الاصطلاح: إفراد الله بما تفرد به، وبما أمر أن يفرد به؛ فنفرده في ملكه وأفعاله فلا رب سواه ولا شريك له، ونفرده في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو، ونفرده في أسمائه وصفاته فلا مثيل له في كماله ولا نظير له2.
مدى المطابقة بين التوحيد والعقيدة:
حين المقارنة بين "العقيدة"، و"التوحيد" كمصطلحين، نجد أن العقيدة ليست مقصورة على توحيد الله تعالى فحسب، بل هي تشمل التوحيد وزيادة، فيدخل فيها مباحث شتى؛ كالرسل ورسالاتهم، والملائكة وأعمالهم، والكتب السماوية، واليوم الآخر وما فيه، والقضاء والقدر وما يتعلق به، والإمامة، والصحابة. بل يدخل فيها أيضا: موقف المسلمين من الفرق الضالة، وغير ذلك.
فهذا العلم الواسع بما يتضمنه من مباحث، وما يحويه من جزئيات يسمى "التوحيد"
أيضا، كما سماه بذلك علماء المسلمين. ولو تأملنا مدى المطابقة بين كلمة "توحيد"، وبين مفردات العقيدة، لوجدناها جزئية. وهذا يثير تساؤلا مفاده: إذاكانت المطابقة بين كلمة "توحيد" ومصطلح "عقيدة" بما يحويه من مباحث جزئية، فلماذا سمي علم العقيدة بـ"التوحيد"؟ ولم أطلق العلماء في القرون الماضية على ما صنفوه من كتب في علم العقيدة اسم "التوحيد"؟
__________
1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/ 90-91.
2 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 56. والأسئلة والأجوبة الأصولية للسلمان ص41.
والجواب: إن تسمية العقيدة بالتوحيد من باب تسمية الشيء بأشرف أجزائه؛ لأن توحيد الله عز وجل هو أشرف مباحث علم العقيدة. أما المباحث الأخرى؛ من إيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، ومباحث الإمامة، والصحابة، وغيرها، فهي تعتمد عليه، وتستند إليه؛ إذ هو أساسها وجوهرها، فهي تدخل فيه بالاستلزام.
الفرق بين العقيدة والتوحيد:
والآن، وقد فرغنا من بيان معنى العقيدة والتوحيد، نتساءل: ما الفرق بين المعنيين؟ فنقول: العقيدة أعم من جهة موضوعها؛ إذ هي تشمل التوحيد، وغيره من المباحث؛ فيدخل فيها أركان الإيمان الستة، ويدخل فيها ردود علماء الإسلام على الديانات الأخرى، والفرق، والتيارات المعاصرة، وغيرها. بخلاف التوحيد الذي يقتصر على توحيد الله عز وجل، وهو أشرف أجزاء العقيدة. ويلاحظ أيضا أن مباحث الإيمان بالكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر يدخل في إطار العقيدة بالمطابقة. أما في التوحيد فيدخل فيه بالاستلزام؛ إذ يلزم من إيمانك بالله عز وجل أن تؤمن بملائكته، وكتبه، ورسله، والمغيبات التي أخبر الله عنها، وأخبرت عنها رسله، وبالقدر الذي يجريه الله في عباده وفق إرادته ومشيئته.
مؤلفات في العقيدة تحت مسمى التوحيد:
1- استخدم الإمام البخاري؛ محمد بن إسماعيل "ت256هـ" هذا المصطلح، حين سمى الكتاب الذي خرج فيه أحاديث العقيدة -في الجامع الصحيح- بـ"كتاب التوحيد".
2- وأبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي "ت306هـ" سمى الكتاب الذي صنفه في العقيدة بـ"كتاب التوحيد".
3- وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري "ت311هـ" ألف كتابا في العقيدة وسمه بـ"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل".
4- وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده "ت395هـ" ألف كتابه الموسوم بـ"كتاب التوحيد ومعرفة اسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد".
ثم تتابعت الكتب المؤلفة تحت هذا الاسم.
الوقفة الثانية: مع مسمى "أصول الدين"
من مسميات هذا العلم: أصول الدين.
المراد بأصول الدين:
نلاحظ أن مصطلح "أصول الدين" مركب من مضاف، ومضاف إليه. فهو إذًا مركب إضافي.
ولا يمكن التوصل إلى معنى المركب إلا بتحليل أجزائه المركب منها، وهي "أصول"، و"دين".
أما الأصول: فمفردها أصل. ومعناه لغة: أساس الشيء1. أو ما يبتنى عليه غيره؛ كأساس المنزل، وأصل الشجرة، ونحو ذلك2. والأصل اصطلاحا: ما له فرع؛ لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل3.
والدين في اللغة: الذل والخضوع. والمراد به دين الإسلام، وطاعة الله، وعبادته وتوحيده، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، وكل ما يتعبد الله عز وجل به4.
فتكون أصول الدين -على هذا: القواعد والأسس التي تصح بها العبادة، وتتحقق بها طاعة الله ورسوله بامتثال المأمور، واجتناب المحظور؛ لأن الاعتقاد هو الأصل الذي ينبني عليه قبول الأعمال وصحتها.
فأصول الدين: هي ما يقوم وينبني عليه الدين. والدين الإسلامي يقوم على عقيدة التوحيد. ومن هنا سمي علم التوحيد أو علم العقيدة بـ"علم أصول الدين".
__________
1 انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 109. والمعجم الوسيط لمجموعة من المؤلفين ص20.
2 انظر كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1/ 122-123.
3 انظر شرح الكوكب المنير لابن النجار 1/ 38.
4 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص1546.
الحقيقة الشرعية لأصول الدين:
المفهوم الحق لمصطلح أصول الدين، هو أصول الإيمان الستة المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ** [البقرة: من الآية 177] ، وفي قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ** [القمر: 49] ، وهي التي أجاب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل حين سأله عن الإيمان، فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 1. فهذه الأصول الستة هي التي يقوم عليها إيمان العبد، وتصح بها عبادته.
مؤلفات في العقيدة تحت مسمى "أصول الدين":
لعل أول من استخدم هذا المصطلح لعلم العقيدة -وإن لم يشتهر وقتها- هو الإمام الشافعي رحمه الله "ت204هـ"؛ حيث قال في مفتتح كتابه "الفقه الأكبر": "هذا كتاب ذكرنا فيه ظواهر المسائل في أصول الدين، التي لا بد للمكلف من معرفتها، والوقوف عليها.
1- وهذه التسمية استخدمها أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري "ت329هـ"، حين وسم كتابه الذي أبان فيه عن عقيدة أهل السنة والجماعة بـ"الإبانة عن أصول الديانة".
2- وكذا استخدمها أبو حاتم الرازي "ت327هـ" في كتابه "أصل السنة والاعتقاد الدين".
3- ومن بعدهما عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري "ت387هـ" في كتابه: "الشرح والإبانة عن أصول الديانة"، وهو الكتاب الذي يعرف بـ"الإبانة الصغرى".
4- وعبد القاهر البغدادي "ت429هـ" في كتابه "أصول الدين". وغيرهم.
ملاحظة: يلاحظ أن العقيدة -ههنا- سميت بـ"أصول الدين" تمييزا لها عن الفروع.
وينبغي أن لا يرد على بالك أن الأصول هي التي تؤخذ ويعمل بها فحسب، ويمكن الاستغناء عن الفروع. فهذا الفهم خطأ؛ لأن الدين كل لا يتجزأ. وقد عاب الله على أهل الكتاب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعضه الآخر، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ** [البقرة: من الآية 85] .
__________
1 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.
الوقفة الثالثة: مع مسمى "السنة"
من مسميات العقيدة: السنة.
تعريف السنة لغة واصطلاحا:
السنة لغة من سن يسن ويسن سنا، فهو مسنون. وسن الأمر: بينه. وهي تأني لعدة معان1، منها:
1- الطريقة المسلوكة، سواء أكانت محمود أم مذمومة. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 2.
2- السيرة، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: سيرته التي كان يتحراها. فما ثبت عنه من قول، أو فعل، أو وصف، أو تقرير، قيل له سنة. يقول ابن الأثير: "وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها. والأصل منها: السيرة والطريقة"3.
__________
1 انظر من كتب اللغة: الصحاح للجوهري 5/ 1238-1240. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/ 60-61. ولسان العرب لابن منظور 13/ 220-228. والتعريفات للجرجاني ص161. ومختار الصحاح للرازي ص317.
2 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة.
3 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 409.
3- العادة. ومنه قوله عز وجل: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا** [الإسراء: 77] ؛ أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم، بخروج الرسول من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب1.
أما السنة عند الأصوليين: فهي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو قرر عليه2.
المناسبة بين مسمى السنة، ومسمى العقيدة:
لأهمية وخطورة مسائل الاعتقاد التي هي أصل الدين، وعليها يبنى غيرها من أعمال الإسلام، أطلق العلماء لفظ "السنة" على ما وافق الكتاب والسنة من قضايا الاعتقاد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات. وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات"3.
ولما كانت السنة مصدرا من مصادر العقيدة -كما سيأتي، وطريقة من طرق إثبات العقيدة الصحيحة، اعتبر العلماء معنى السنة: اتباع العقيدة الصحيحة، وأطلقوا على عقيدة السلف الصالح اسم السنة، بسبب اتباعهم لطريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم في ذلك.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "السنة: طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان عليها هو وأصحابه، وغيرهم، السنة: عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وكذلك مسائل القدر، وفضائل الصحابة.
وصنفوا في هذا العلم تصانيف، وسموها كتب السنة"4.
__________
1 انظر تفسير ابن كثير 3/ 54.
2 انظر مذكرة في أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص95.
3 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص77.
4 كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ص11-12. وانظر السنة لابن أبي عاصم 2/ 645-647.
فإطلاق اسم السنة على مباحث الاعتقاد، يشعر بأهمية العقيدة؛ إذ هي أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم1.
مؤلفات في العقيدة تحت مسمى "السنة":
ساد اصطلاح السنة في القرن الثالث الهجري، في عصر إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، حين ظهرت الفرق، وراجت عقائد المبتدعة. فأخذ العلماء يطلقون على أصول الدين ومسائل العقيدة اسم "السنة" تمييزا لها عن مقولات الفرق. وأذكر فيما يلي بعضا من المصنفات التي كتبوها تحت مسمى السنة:
1- السنة لابن أبي شيبة "ت235هـ".
2- السنة لأحمد بن حنبل "ت241هـ".
3- السنة للأثرم؛ أبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي "ت273هـ".
4- السنة لأبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال "ت273هـ".
5- السنة لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني "ت275هـ".
__________
1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص249. والوصية الكبرى لابن تيمية ص60.
الوقفة الرابعة: مع مسمى "الفقه الأكبر"
من المسميات التي أطلقت على العقيدة: الفقه الأكبر.
تعريف الفقه لغة واصطلاحا:
الفقه في اللغة: الفهم. يقول ابن فارس: "فقه: الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به. تقول: فقهت الحديث أفقهه. وكل علم بشيء فهو فقه. ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه"1.
__________
1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/ 242. وانظر: لسان العرب لابن منظور 13/ 522. والمفردات للراغب الأصفهاني 384.
ولقد كان الفقه يطلق في القرون الأولى على العلم بأحكام الشريعة كلها. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1. وكذا دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- لابن عمه ابن عباس -رضي الله عنهما- كان عاما في الدين كله، لا في مسائل الحلال والحرام فحسب، في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"2.
والملاحظ أن المتأخرين خصوا اسم "الفقه" بمعرفة مسائل الحلال والحرام، وغيرها.
سبب تسمية العقيدة بالفقه الأكبر:
سمى العلماء العقيدة بالفقه الأكبر مقارنة بفقه الفروع. فقولنا "الفقه الأكبر" يشعر بأن هناك فقها آخر ليس بأكبر، وهو فقه ما أطلق عليه اسم الفروع.
مؤلفات في القعيدة تحت مسمى "الفقه الأكبر":
أول من استخدم مصطلح "الفقه الأكبر" هو الإمام أبو حنيفة؛ النعمان بن ثابت "ت150هـ"؛ فقد روي عنه كتاب بهذا الاسم، وهو مشهور عند أصحابه3، بحث فيه رحمه الله بعض مسائل الاعتقاد.
وكذلك ينسب للإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس "ت204هـ" كتاب باسم "الفقه الأكبر"، عرض فيه مسائل الاعتقاد بالتفصيل4.
ملاحظة: يرد على هذه التسمية ما ورد على تسمية "أصول الدين"؛ فقد يظن البعض أن تسمية العقيدة بالفقه الأكبر، يعني إهمال الفقه الآخر -مسائل الأحكام، والحلال والحرام-؛ لأنه أصغر مقارنة بالأكبر. وهذا الفهم غير صحيح؛ لأن تسمية العقيدة بالفقه الأكبر يعني الاهتمام بها، والبدء بتصحيحها قبل القيام بأداء الأعمال، ولا يعني -بحال- إهمال أداء الأعمال، ومعرفة أدلتها التفصيلية؛ لأن دين الإسلام كل لا يتجزأ، ولا يمكن الاستغناء عن بعضه، والاكتفاء بالبعض الآخر.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
2 ذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 331، وعزاه إلى معجم البغوي.
3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 46.
4 انظر كشف الظنون لحاجي خليفة 2/ 1278.