قال : وعن ابن عباس :
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له :
( إنّك تأتي قومًا من أهل الكتاب ،
فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة
أن لا إله إلا الله ) .
وفي رواية :
( إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ؛ فإن أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ،
فإن هم أطاعوك لذلك ،
فإياك وكرائمَ أموالهم : واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) "
أخرجاه .
... قوله :
( إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب ) .
قال القرطبي : يعني به اليهود والنصارى ، لأنّهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب
أو أغلب ،
وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ،
ويعد الأدلة لامتحانهم ،
لأنهم أهل علم سابق ،
بخلاف المشركين وعبدة الأوثان .
وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها ، ثم ذكر معنى كلام القرطبي .
قلت : وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل ، والتنبيه على أنه ينبغي للإنسان
أن يكون على بصيرة في دينه ،
لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين ، ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه، والحرص على طلب العلم .
قوله : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة
أن لا إله إلا الله ) . يجوز رفع " أول "
مع نصب " شهادة " وبالعكس .
قوله : وفي رواية : ( إلى أن يوحدوا الله ) ،
هذه الرواية في التوحيد من
" صحيح البخاري " وفي بعض الروايات : ( فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وأني رسول الله ) .
وفي بعضها ( وأن محمدًا رسول الله ) وأكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين .
وأشار المصنف رحمه الله بإيراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ معناها توحيد الله بالعبادة ،
وترك عبادة ما سواه .
فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ
" شهادة أن لا إله إلا الله " ومرة
" إلى أن يوحدوا الله " . ومرة
" فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله،
فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " .
وذلك هو الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله
الذي قال الله فيه : ** فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
لا انْفِصَامَ لَهَا **
سورة البقرة 256
ومعنى الكفر بالطاغوت :
هو خلع الأنداد والآلهة
ـ التي تُدعَى من دون الله ـ من القلب ،
وترك الشرك بها رأسًا، وبغضه وعداوته .
ومعنى الإيمان بالله : هو إفراده بالعبادة
التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل
والانقياد لأمره ،
وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام ،
المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى ،
وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع، والعمل الصالح ،
وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ،
وحقيقة المعرفة بالله ،
وحقيقة عبادته وحده لا شريك له .
فلله ما أفقه مَن روى هذا الحديث بهذه الألفاظ المختلفة لفظًا المتفقة معنى !
فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله
هو الإقرار بها علمًا ونطقًا وعملاً ،
خلافًا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها ،
أو الإقرار بوجود الله
أو مُلكه لكل شيء من غير شريك ،
فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان
وأقروا به ، فضلاً عن أهل الكتاب ، ولو كان كذلك لم يحتاجوا إلى الدعوة إليه .
وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ،
وترك عبادة ما سواه ـهو أول واجب ،
فلهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى :
** وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ **
سورة الأنبياء 25
وقال : ** ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ**
سورة النحل 36
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة
أن أصل الإسلام ،
وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ،
فبذلك يصير الكافر مسلمًا ، والعدو وليًا ، والمباح دمه وماله معصومَ الدم والمال ،
ثم إن كان ذلك من قلبه ،
فقد دخل في الإيمان ،
وإن قاله بلسانه دون قلبه ،
فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان ،
وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم ،
واستدل به من قال من العلماء :
إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبرِّي من كل دين يخالف دين الإسلام ،
لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك ،
وفي ذلك تفصيل .
وفيه : أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلاّ بالنطق بالشهادتين .
قال شيخ الإسلام : فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة وأئمتها ، وجماهير علمائها .
قلت : هذا والله أعلم فيمن لا يُقِرُّ بهما
أو بإحداهما ،
أما من كُفْرُهُ مع الإقرار بهما ...
ففيه بحث ،
والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به .
وفيه أن الإنسان قد يكون قارئًا عالمًا
وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله ،
أو يعرفه ولا يعمل به، نبّه عليه المصنف .
وقال بعضهم :
هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا ، هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه .
قلت : فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة ،
أما من لم تبلغه فتجب دعوته .
تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد
تأليف العلاّمة سليمان بن عبد الله بن محمد
بن عبد الوهاب رحمهم الله
تعليق العلاّمة عبد العزيز بن عبد الله الرّاجحي
حفظه الله ( ص 110 - 113 )
ط / الدار الأثرية للنشر والتوزيع .